35
وأما والي حلب فأرسل، فقبض على كثيرين من قبيلته وساقهم إلى السجن مكبلين بالحديد، وضرب على أصحابهم مالا يؤدونه؛ فاضطر باقي الأمراء أن يبسطوا لهم يد الرفد حتى رضي الوالي عنهم.
ثم وقعت بعد ذلك النفرة والشقاق بين العرب وصاحب حلب؛ فكره العرب المقام في تلك الأنحاء وجعلوا يستعدون للرحيل. ولما كانت السنة التالية من ذلك، وهي سنة 821ب.م، رحل أكثر تلك القبائل العربية من جوار حلب والمعرة إلى نواحي لبنان، وكان القسم الشمالي من لبنان في يد المردة الذين غلب عليهم لقب الموارنة، كما تقدم ذكر ذلك في محله، وكانت لهم شوكة قوية وصيت بعيد، وأما القسم الجنوبي وهو المشتمل على سلسلة الجبال الممتدة فوق مدينتي بيروت وصيدا، فكان خاليا من السكان إلا من بعض النصارى الذين فروا إلى بعض الأماكن فيه أيام الفتح الإسلامي؛ وذلك أنه في السنة الثالثة عشرة من الهجرة الموافقة سنة 634ب.م جهز أبو بكر الصديق العساكر من مسلمي العرب لفتح بلاد الشام وجعلهم فرقا؛ فكان عمرو بن العاص لفلسطين ، ويزيد بن أبي سفيان لحمص، وشرحبيل بن حسنة للبلقاء، ورئيسهم أبو عبيدة بن الجراح. ثم أرسل خالد بن سعيد بن العاص إلى سماوة، فالتقى بالرومان على الطريق فهزمهم إلى دمشق، وكانت دمشق في ذلك الحين مدينة حصينة جدا قد وضع بها ملوك الروم معظم قواتهم لصد هجمات الفاتحين، فلبث الحرب بينهم مدة طويلة. وفي السنة الثالثة من الفتح أخذ المسلمون دمشق، فدخلها أبو عبيدة من جهة وخالد بن الوليد من جهة أخرى، وقد عاهد أهلها على حمايتهم ثلاثة أيام على أن يخرج منهم من لا يرغب في أداء الجزية، ويبقى من رغب في أدائها، فبقي من بقي وأدى الجزية وتمتع بحريته الشخصية، وخرج بعض إلى لبنان وتوطن فيه لعدم بلوغ سيف الفاتحين إليه، وبعد الاستيلاء على دمشق عزم المسلمون على توسيع نطاق سلطتهم في كل البلاد؛ فقاومهم أهل لبنان مقاومة شديدة - كما مر بك ذلك في بعض أخبار المردة - ولم يتمكن العرب من دخول لبنان وامتلاك بعض جهاته حتى سنة 821ب.م والمظنون أن القبائل العربية التي دخلت لبنان هي من أصل واحد وإن اختلفت أسماؤهم وتباينت ألقابهم فجميعهم من بني حمير الذين كان الملوك منهم، وكان لهم في التاريخ العربي ذكر عظيم. وقد اشتهر في هذه القبيلة امرأة بارعة في الجمال واللطف والفضيلة يقال لها: ماء السماء، وكان لها ابن يقال له: النعمان، فلما شب فاق على أقرانه في الذكاء والسطوة والبسالة والفتوة فسموه ملكا، وعظمت القبيلة في أيامه وامتدت شوكتها، وكان بنو حمير مثل أكثر القبائل العربية يفاخرون بالأنساب ولهم جداول أنساب مكتوبة على رقوق؛ ليستدل منها أن نسبهم يتصل بنوح صاحب الفلك، وحدث بين النعمان وبين كسرى ما حدث مما تقدم ذكره.
وكان أول من رحل من تلك القبائل العربية إلى لبنان الأمير فوارس تنوخ بقبيلته، وكانت هذه القبيلة أشرف القبائل جميعها وأكثرها رجالا وأعظمها سطوة، ثم رحل بنو أرسلان ثم بنو شويزان، فسارت هذه القبائل في السهول المحاذية نهر العاصي حتى وصلوا بعلبك فحلوا فيها وانبثوا في سهل البقاع حتى بلغوا زحلة، ثم رقوا سلاسل الجبال إلى عين دارة فرأوا ماء غزيرا، فبنى بنو فوارس وبنو أرسلان هاته القرية
36
وسكنوا فيها، وسار بنو شويزان يقصدون الماء؛ فبلغوا نهر الصفا ونهر الباروك وبنوا قرية عين زحلتا.
37
ولبثت تلك القبائل في أماكنها بضع سنين، وكان بعد ذلك أن كثر عددهم، فضاقت الأرض بهم وبمواشيهم ورأوا أن البرد القارس في تلك الأماكن يؤذيهم؛ فطلب بعضهم السواحل، فسار بنو شويزان إلى الكنيسة وراء دير القمر، وهناك نشأ منهم فرع المشايخ بني عبد الملك الذين بنوا بتاتر وسكنوها، وأما بنو أرسلان فساروا إلى سن الفيل على مقربة من بيروت وملكوا الأراضي الممتدة من هناك إلى خلدة، وبنوا الشويفات وسكنوها، وسار بنو فوارس وهم أكثر القبائل التنوخية عددا إلى المتن وسكنوا هناك بضع سنين إلى أن قام منهم الأمير أبو اللمع الشهير وهو رأس الأمراء اللمعيين، فصارت القبيلة تنسب إليه. وسار بقية بني تنوخ تحت قيادة ثلاثة من أمرائهم؛ وهم: الأمير فوارس، والأمير عبد الله، والأمير هلال إلى جبل الشوف
38
وبنوا قرى كثيرة؛ منها: البنية، وكفر متى، ورمتون، وتردلا، وعرمون، وعين كسور، وعبيه. وسكنوها، ثم انفصل أحد هؤلاء الأمراء الثلاثة عن أخويه، وجاء قرية سرحمور، فبنى فيها حصنا منيعا وسكنه.
Bilinmeyen sayfa