وأشهر خلوات الدروز هي خلوات البياضة في ظاهر حاصبيا وأمور الدين، والخلوات راجعة إلى أشياخ العقل في كل قرية، وهؤلاء يرجعون إلى الشيخين الكبيرين اللذين ذكرناهما، وهما الآن في جبل لبنان: الشيخ محمد حمادة من بعقلين، والشيخ محمد طليع من جديدة الشوف . وفي جبل حوران الشيخ أحمد الهجري والشيخ حسين طربية والشيخ خطار الحناوي، وفي بلاد صفد الشيخ طريف المحمد، وفي غوطة الشام الشيخ صالح الجرماني، ويوجد أشياخ آخرون لكن شيخي الشوف هما أعلاهم كلمة؛ لأن الدروز يعتقدون أن مركزهم الأول هو في الشوف وأن أكابرهم هم في جبل لبنان، ورؤساؤهم في كل محل يعترفون بسيادة رؤسائهم في لبنان.
وليس في منهاجهم الديني ما ينقض أسباب ائتلافهم مع غير أهل مذهبهم ولا الانقياد إلى الحكام، بل هو بعكس ذلك يمهد سبيل الارتباط بين الجماعات وينافي التحزب الديني، كما يظهر ظهورا واضحا من سير أشياخ العقل فيهم ومعاملة كبرائهم لمن ساكنهم من النصارى وغيرهم، فإن كثيرين من نصارى الأنحاء الشمالية في لبنان جلوا عنها في أوائل القرن السابع عشر فرارا من بعض المظالم، ولجئوا إلى الأنحاء الجنوبية التي كانت في يد أكابر الدروز، فشاد لهم هؤلاء الأعيان الكنائس وعاونوهم في أمور دينهم ووقوهم من التعدي وآسوهم بالأموال. وذلك لسببين؛ أحدهما: أن الدروز كانوا لا يعتنون إلا قليلا بالزراعة والفلاحة والصناعة، فاحتاجوا إلى النصارى لأجل عمارة بلادهم. والثاني: وهو الأهم في ما يقال، انتهاء الدعوة الدينية عندهم، وإغلاق أبواب الآمال دون الاستزادة في عدد أبناء طريقتهم، فحفظوا دينهم لأنفسهم وسلكوا مع غيرهم السبيل الذي يسلكونه في معاملة بعضهم بعضا إلا فيما ندر من الأمور المنصوص عليها عندهم؛ ولذلك قلما تجد عاقلا من عقال الدروز يجادل في الدين مع شخص خارج عن ملتهم، فإن هذا ممنوع عندهم منعا قطعيا.
كذلك هم مأمورون دينا بالجهاد وإطاعة الحكام؛ عملا بقوله تعالى:
وأطيعوا الله والرسول
الآية؛ ولأجل ذلك كان لهم في المجاهدات قدم الصدق، وبالإجمال فإن منهاجهم يحظر عليهم الخروج على الحكام والعداوة مع بقية الطوائف، وما صدر من أفعال بعضهم خلافا لذلك هو مخالف لأصول دينهم، ومنشؤه إما الغباوة وقوة النفوس الغضبية، وإما أسباب أخر حدتهم إلى الأخذ بالثأر، ولا ينكر أن الأخذ بالثأر عندهم أمر غريزي يشابهون فيه أهل البادية، ولكن قل فيما بينهم الآن عندما انتظمت أمورهم مع أمور غيرهم بحكومة نظامية، وهذا الميل فيهم عام سواء مع أبناء دينهم أو مع غيرهم.
والظاهر أن قلة عددهم دعتهم إلى الدفاع عن أنفسهم بشدة وحزم، فإنهم مع انقسامهم في أكثر الأماكن إلى فئتين إذا تعدى عليهم متعد من الخارج اتفقوا عليه، وإذا كانت الأسرة الواحدة منشقة، فإذا طرأت عليها خصومة من أسرة ثانية انضمت كلها يدا واحدة ضد من ناوأها، وما حدث بينهم وبين النصارى في الحوادث الثلاث من سنة 1840 إلى سنة 1860 إنما حدث لأسباب سياسية بين الفئتين، وكانت الحادثة الأخيرة حادثة الستين التي نشأ عنها تداخل أوروبي، فوضعت الفتنة أوزارها عن نظام لبنان الحالي، وزالت بعد ذلك الأحقاد من القلوب وتراجعت مياه الصفاء إلى مجاريها، وعاد الفريقان إلى ما كانا عليه من الائتلاف، والدروز موصوفون بالشجاعة والإقدام، ولهم غرام بذكر الحروب والوقائع وميل عظيم إلى الفتوة، وشدة اعتقادهم بالقضاء والقدر مع انقيادهم إلى رؤسائهم، وطاعتهم لكبرائهم تمهد لهم في الغالب سبيل الفوز.
ومما ينبغي أن يذكر لهم أنهم في حروبهم لا يتعرضون أصلا لما يمس الآداب، وما سمع أنهم سطوا على العرض ولا قتلوا النساء ولا الأطفال، وربما احتمى نساء أعدائهم ببيوتهم بعد قتل بعولتهن، ورائين منهم غاية الرفق والإنسانية؛ وذلك لأن الدروز شديدو التمسك بالناموس الأدبي، فلا يسطون على أعراض غيرهم وعندهم احترام للحريم.
وإذا بحث الباحث في عامة أخلاقهم لم يجد منها ما ينكر، بل رأى الناموس سائدا فيها وألفى كثيرا من الآداب الحسنة والفضائل، ومن داخلهم وجد بينهم في كل محل أناسا من أهل الورع الحقيقي والنزاهة التي لا ريب فيها.
ومما يذكر في تواريخهم أن فرقة منهم اسمهم السكينية، وهم من أتباع الدرزي السابق الذكر، خرجت في نواحي وادي التيم وخالفت جماعتهم في بعض العقائد وأتت بعض الأعمال المنكرة؛ فقاموا عليها جميعا وما زالوا يضربونها بحد السيف حتى استأصلوها عن بكرة أبيها ولم يبق منها أحد الآن.
ومما يوصف به الدروز مزية الكرم والاحتفاء بالضيف، ولا غرو فهذه من العادات الشرقية التي يفتخر بها أهل الشرق جميعا، وحيث كان الدروز أصلهم من العرب كانت هذه العادة فيهم كعادة حب الثأر واقتضاء الأوتار.
Bilinmeyen sayfa