وهذا الباطن أولد فرقا كثيرة في الإسلام، ذكرها محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتاب الملل والنحل الشهير، وقال: «إن الباطنية لقب لزم هذه الفرق؛ لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنا ولكل تنزيل تأويلا، ولهم ألقاب أخرى؛ فبالعراق يسمون الباطنية والقرامطة والمزدكية.» إلى أن يقول: «والباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة وصنفوا كتبهم على ذلك المنهاج.» وذكر الشهرستاني بعض مقالاتهم المذكورة، ثم ذكر أقوالهم في الفرائض والسنن وأحكام الشرع من بيع وإجارة وهبة ونكاح وطلاق وجراح وقصاص ودية.
ثم تطرق إلى ذكر أصحاب الدعوة الجديدة منهم، فذكر الحسن بن الصباح وعرب فصوله الأربعة التي بدأ الدعوة بها وكتبها عجمية، ومرجعها في كل مقالة منها إلى إثبات العلم في معرفة الباري تعالى، وأن التوحيد هو التوحيد والنبوة معا، وأن النبوة هي النبوة والإمامة معا حتى يكون نبوة، وقد منع صاحب هذه الدعوة العوام عن الخوض في العلوم، وكذلك الخواص عن مطالعة الكتب المتقدمة إلا من عرف كيفية الحال في كل كتاب ودرجة الرجال في كل علم، ولم يتعد بأصحابه في الإلهيات عن قوله: إلهنا إله محمد، قال: وأنتم تقولون: إلهنا إله العقول؛ أي ما هدى إليه كل عقل، فإن قيل لواحد منهم: ما تقول في الباري تعالى؟ وإنه هل هو؟ وإنه واحد أم كثير؟ عالم قادر أم لا؟ لم يجب إلا بهذا القدر: إن إلهي إله محمد، وهو الذي أرسل رسوله بالهدى، والرسول الهادي إليه.
فالدروز على رأي بعض هم فرقة من هذه الطائفة المسماة بالباطنية، وقيل خلاف ذلك، ويقال أن ليس يوجد منهم إلا في سورية، وهم يقولون إن منهم في جميع الآفاق، فأما في سورية فأكثرهم في جبل لبنان في قضاء الشوف، ثم في قضاء المتن، وبعد لبنان أكثرهم في جبل حوران وبلاد البثينة واللجاة وصرخد ونواحيها، ثم في وادي التيم الأعلى والأسفل أي قضاء حاصبيا وقضاء راشيا، وقسم من قضاء وادي العجم وقضاء القنيطرة، ثم في غوطة الشام؛ إذ منهم هناك عدة قرى، فجبل صفد وساحل عكة وجبل الكرمل وشفا طبرية، ثم الجبل الأعلى في جهة حلب، وعددهم يقارب مائة وخمسين ألف نسمة في أصل الأقوال، منهم خمسون ألف نسمة في جبل لبنان ومثلها في جبل حوران ومثلها في سائر النواحي كلها.
والظاهر من التواريخ والمشهورات أن عدد الدروز كان أكثر جدا في سورية، وأنه تناقص برجوع عدد كثير منهم إلى الإسلام؛ وذلك لأنه كان في حلب ومرعش وأنطاكية خلائق من هذه الطائفة اختفت آثارها بتوالي الأيام وتعاقب المحن، خصوصا محنة أنطاكية الشهيرة عند الدروز، ولم يبق من هذه الخلائق كلها في شمالي سورية سوى نحو ألفي نسمة إلى ثلاثة آلاف ساكنين في الجبل الأعلى من ديار حلب، وقد كان لعهد الأمير بشير الشهابي أن رحل منهم جملة غير قليلة إلى جبل لبنان لم تزل أعقابهم هنا بسبب محنة شديدة نالتهم هناك، كذلك في الشام وغوطتها؛ حيث يظهر أن الدروز كانوا كثيرين ولا سيما في محلتي باب المصلى وباب السريجة وفي الشاغور، ويقال إنهم كانوا ألوفا فلزم أكثرهم مذهب السنة والجماعة ورحل الباقون ولم يبق في نفس الشام أكثر من ثلاثمائة نسمة، وإنما في غوطة الشام فمنهم أهل قرية جرمانا والأشرفية وصحنايا ودير علي وغيرها.
ويحكى عن كثير من قرى جبل صفد والكرمل أنها كانت تلقت الدعوة في أول الأمر، ثم رجعت إلى السنة بعد مدة طويلة؛ ولذلك لم يبق إلا أهل يركا وجولس وحي من شفا عمرو في الساحل، وأهل بيت جن وحرفيش في جبل صفد، وأهل الرامة والمغار في شاغور عكة وشفا طبرية وأهل الدالية وعسفيا في جبل الكرمل فوق حيفا، ويقال لدروز جبل لبنان: آل عبد الله، ولدروز وادي التيم: آل سليمان، ودروز جبل صفد: آل تراب.
وقد تكاثر الدروز في جبل حوران بعد أن لم يكن منهم أحد هناك منذ قرنين؛ وذلك أنه سنة 1707 لما كانت الفتنة بين القيسية واليمانية وظهر القيسية على اليمانية في واقعة عين دارة، وانكسرت شوكة اليمانية وتأثرهم القيسية في كل مكان قتلا وتعذيبا، وتمادوا في إعناتهم اختار هؤلاء الرحيل عن أوطانهم، فجلا في البداية بنو حمدان من قرية كفرة الغرب بقرب عيناب، وتبعهم أهل تلك القرية وخربت كفرة من ذلك الوقت ولم تزل آثارها، ثم تبعهم جم غفير من سائر الجهات التي فيها يمنية وقصدوا جميعهم لجاة حوران، وأخذوا ينسلون إلى تلك الجهات مشاة وعلى كل ضامر، حتى صاروا إلى ما صاروا إليه اليوم من القوة والكثرة.
فأصل دروز حوران يمانية؛ ولذلك باقية لهم اصطلاحات وعوائد مأخوذة من تلك الفرقة، والظاهر أن ابن حمدان الذي كان مقدم القوم كان رجلا حسن السياسة في قومه؛ فإن أمورهم استتبت في أيامه حربا وسلما، وصارت تلك الجهة مقصودة من الدروز، وساعد على عمارتها بهم خصب أراضيها المفرط.
وتقوى الدروز هناك وبعدت سطوتهم، ومع هذا فلم يشتهر أمرهم في حوران إلا منذ أيام إبراهيم باشا - ابن محمد علي - وذلك حين عصاه الدروز في أكثر الجهات؛ فوجه إليهم قوة عظيمة لمحاربتهم، وبعث إلى دروز حوران عسكرا فاعتصبوا مع عرب السلوط واعتصموا باللجاة، فتوغل العسكر في اللجاة فقاتلوه وكسروه وقتلوا منه خلقا كثيرا، فأرسل إليهم قائدا يسمى محمد باشا بعسكر وافر؛ فقاتلوه وقتلوه وقتلوا من عسكره خلقا كثيرا، فكتب إبراهيم باشا إلى محمد علي أبيه يخبره بحكاية الدروز ويطلب منه عسكرا من الأرناووط؛ لأن العسكر النظامي يتعذر عليه الحرب في الوعر، فأرسل العزيز أربعة آلاف أرناووطي يقودهم قائد اسمه مصطفى باشا، فانضم إلى الجيش الذي كان يحاربهم، فكسروهم هذه المرة أيضا وملأوا أخاديد اللجاة من قتلى العساكر المصرية، وكان ذلك سببا لطمع بقية أهل سورية في قوة إبراهيم باشا لما رأوا أن ثلاثة آلاف من الدروز هزمت هذه الجيوش العديدة من عسكر إبراهيم باشا الذي كادت لا تنهزم له راية.
ومع ثورة دروز حوران ثار دروز لبنان ووادي التيم وأصلوه حربا عوانا حضر إبراهيم باشا بعض وقائعها بنفسه. وأشهر هذه الوقائع وقعة وادي بكا التي قاوم فيها خمسمائة من الدروز بضعة عشر ألفا أطبقوا عليهم من كل جانب تحت قيادة إبراهيم باشا ومصطفى باشا الأرناووطي، وذلك منذ الصباح إلى غياب الشمس حتى لم ينج منهم سوى عشرين رجلا اخترطوا السيوف واخترقوا الصفوف وكانت نجاتهم إحدى الغرائب، ومن ذلك الوقت خصوصا اشتدت هيبة الدروز في القلوب، وكانت قبائل العرب من قبل تعبث في نواحي المعمورة وتضرب عليها الجزى، فلما استفحل شأن الدروز خضدوا شوكة العرب وأراحوا الحضر من عيثهم.
ثم لما كان الدروز أهل حراثة وزرع طبقوا ذلك الجبل بالعمل، بحيث صار إيراده اليوم ثلث إيراد لواء حوران بأسره، ولواء حوران هو أنباء سورية، وعليه فأكثر دروز حوران أصلهم من لبنان، ثم من وادي التيم وعلى الخصوص من راشيا، ثم من جهات حلب، ثم من جهات صفد، وقد زاد نموهم هناك بطيب البقعة وخصب الأرض ونقاوة الهواء؛ فتجد أجسامهم على جانب عظيم من الصحة والقوة، وقلما يوجد عشيرة أو أسرة في جهة من جهات الدروز إلا وجد لها أنسباء في الجهات الثانية؛ وذلك لكونها طائفة منحصرة ولكون عددها قليلا بالنسبة إلى الطوائف الكبرى، وإن كان لها شأن في تاريخ سورية فلعصبية أفرادها وشدة بأسها وتوفر صفاتها الأدبية.
Bilinmeyen sayfa