Descartes: Çok Kısa Bir Giriş
ديكارت: مقدمة قصيرة جدا
Türler
الاقتباسات والمراجع
1 - المادة والميتافيزيقا
2 - سماع النداء
3 - علم واحد ومنهج واحد
4 - المطلقات والطبائع البسيطة والمسائل
5 - التجول حول العالم
6 - باريس
7 - كتاب «العالم» ونظرية ديكارت الفيزيائية
8 - ثلاثة نماذج للمنهج
9 - «منطق» جديد
Bilinmeyen sayfa
10 - الحاجة إلى الميتافيزيقا
11 - كتاب «تأملات في الفلسفة الأولى»
12 - الشك عند ديكارت
13 - علماء اللاهوت والرب الفيزيائي
14 - الأفكار
15 - العقل
16 - الجسد
17 - كتاب «مبادئ الفلسفة»
18 - العلوم الأخرى
19 - الأيام الأخيرة
Bilinmeyen sayfa
20 - شبح ديكارت
قراءات إضافية
الاقتباسات والمراجع
1 - المادة والميتافيزيقا
2 - سماع النداء
3 - علم واحد ومنهج واحد
4 - المطلقات والطبائع البسيطة والمسائل
5 - التجول حول العالم
6 - باريس
7 - كتاب «العالم» ونظرية ديكارت الفيزيائية
Bilinmeyen sayfa
8 - ثلاثة نماذج للمنهج
9 - «منطق» جديد
10 - الحاجة إلى الميتافيزيقا
11 - كتاب «تأملات في الفلسفة الأولى»
12 - الشك عند ديكارت
13 - علماء اللاهوت والرب الفيزيائي
14 - الأفكار
15 - العقل
16 - الجسد
17 - كتاب «مبادئ الفلسفة»
Bilinmeyen sayfa
18 - العلوم الأخرى
19 - الأيام الأخيرة
20 - شبح ديكارت
قراءات إضافية
ديكارت
ديكارت
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
توم سوريل
ترجمة
Bilinmeyen sayfa
أحمد محمد الروبي
مراجعة
ضياء وراد
إلى أليسون
الاقتباسات والمراجع
الإشارة إلى الاقتباسات من أعمال ديكارت في هذا الكتاب قائمة على أساس رقم المجلد ورقم الصفحة بالطبعة المعتمدة لأعمال ديكارت والتي نشرها آدم وتانري (باريس: فرين، 1964-1975). فعلى سبيل المثال، (7 : 12) تعني الصفحة رقم 12 من المجلد رقم 7 من طبعة آدم وتانري. وبشكل عام، الترجمات منقولة من كتاب «أعمال ديكارت الفلسفية» (كامبريدج: مطبعة جامعة كامبريدج، 1985) لمؤلفيه جيه كوتنجهام، وآر ستوثوف، ودي موردوك، حيث تظهر - في تلك الترجمة - أرقام مجلدات طبعة آدم وتانري في بدايات الأعمال، وأرقام الصفحات في الهوامش. ويشير حرف «أ» الذي يلي أرقام المجلدات إلى نص باللغة اللاتينية، والحرف «ب» إلى نص باللغة الفرنسية. والاقتباسات الطويلة من خطابات ديكارت مأخوذة من ترجمة أنتوني كيني التي صدرت تحت عنوان «ديكارت: الخطابات الفلسفية» (أكسفورد: مطبعة جامعة أكسفورد، 1970).
الفصل الأول
المادة والميتافيزيقا
كانت رحلة رينيه ديكارت العملية قصيرة وبدأها متأخرا؛ فهو لم يشرع في البحث المكثف في الفلسفة والعلوم الطبيعية حتى عام 1628، عندما كان في الثانية والثلاثين من عمره؛ واستغرق تسع سنوات أخرى قبل أن ينشر أي عمل، وما نشرت آخر أعماله التي ألفها في حياته إلا بعد 12 عاما من أولها ؛ أي عام 1649. ولم يكن إنتاجه غزيرا، غير أنه قدم إسهامات جليلة في الفيزياء والرياضيات والبصريات، وأورد ملاحظات مفيدة في مجالات علمية أخرى، على رأسها علم الأرصاد الجوية وعلم وظائف الأعضاء. ولو كان قد حصر نفسه في العلوم الطبيعية وحدها لأصبح إنجازه مميزا بالقدر الكافي، لكن نطاق إنجازاته كان أكثر اتساعا بكثير.
ولعل أكثر ما يشتهر به أنه هو من قال: «أنا أفكر، إذن أنا موجود.» وهذه العبارة الاستدلالية البسيطة هي أول مبدأ في النظرية الميتافيزيقية التي وضعها، أو فلسفته الأولى؛ أي نظريته لما يجب أن يعرف حتى يمكن أن يوجد أي علم ثابت ووثيق. ونظريته الميتافيزيقية دقيقة جدا، ولها بالغ الأثر على الفلسفة حتى يومنا هذا، ولعلها أبرز إنجازاته الفكرية على الإطلاق وأدومها، لكن لم تكن الغاية منها أن تكون منفصلة عن أعماله العلمية، ناهيك عن أن تطغى عليها. فعندما تحول ديكارت للميتافيزيقا في البداية، وقرب منتصف فترة ازدهار إنتاجه، ابتكر نظرية كان مفترضا لها أن تمهد الطريق لنظريته المتعلقة بالفيزياء الرياضية. وبحجة معقدة ومجردة جدا، حاول ديكارت أن يثبت أن الخصائص المفهومة فهما وافيا في علم الهندسة؛ ألا وهي الطول والعرض والعمق، هي وحدها الضرورية لفهم المادة، وأنه ما من خصائص سوى تلك الخصائص الهندسية بالإضافة للحركة تلزم لتفسير الظواهر الطبيعية.
Bilinmeyen sayfa
شكل 1-1: نقش لصورة ديكارت من لوحة أصلية لفرانس هالز.
1
لم يكن ديكارت المؤيد الأول أو الأوحد للفيزياء الهندسية؛ فقد كان جاليليو صاحب المنهج العام فيها، لكنه كان في رأي ديكارت يفتقر إلى الدقة الكافية. قال ديكارت متحدثا عن جاليليو في خطاب يرجع تاريخه لأكتوبر 1638: «لقد بنى بلا أساس، ودون أن يضع بعين الاعتبار العلة الرئيسية للطبيعة، لم يسع إلا وراء أسباب بعض الظواهر بعينها» (2 : 380). درست ميتافيزيقا ديكارت العلة الرئيسية للطبيعة وهي الرب، فيما انتهت فيزياء ديكارت إلى علل ظواهر الطبيعة الأعم - كالتسارع وتشوه الأجسام جراء الاصطدام - واقترحت فرضيات لعلل ظواهر أخرى كثيرة.
وكان ديكارت معنيا بتبني شكل من أشكال التفسير بعيد كل البعد عن تفسير البديهة والفيزياء التقليدية من حيث إنه لم يكن مهتما، شأنهما، بالمظاهر التي تبدو عليها الأشياء المادية للحواس البشرية. لقد قامت فيزياء ديكارت على الحقائق الرياضية المتعلقة بالأشياء المادية، حقائق عن الحجم والشكل والتكوين والسرعة، حقائق يمكن أن يستوعبها عقل يتمتع بحس/خبرة مختلفة عن حواسنا وخبراتنا، أو عقل لا يتمتع بحس/خبرة على الإطلاق. وقد قام بالتعامل مع الحقائق الأخرى الخاصة بالأشياء المادية، كتمتعها بلون ورائحة - وهي الحقائق النسبية للقوى الحسية للبشر - بشكل مختلف. فقد وصفها ديكارت في سياق الإطار المفضل لأحجام الأشياء المادية وأشكالها وسرعاتها، وأثرها على أعضاء الحس، وأثمر وصفه عن نظرية ميزت بين الخصائص التي تتمتع بها الأشياء المادية حقا وبديهيا، كالشكل والحجم، والخصائص التي بدا ظاهريا فحسب أنها تتمتع بها، لا سيما اللون والرائحة وغيرها من الصفات المحسوسة.
للتمييز بين الإدراك الحسي للعالم المادي والإدراك الرياضي الأكثر صرامة، ألزم ديكارت نفسه بوجهة النظر التي مفادها: أن الإدراك الرياضي هو الأكثر موضوعية بين الاثنين. والتزم غيره من المؤمنين بالعلم الجديد بالشيء نفسه، وحاولوا أحيانا الإيحاء بتفوق الإدراك الرياضي زاعمين أنه أقرب لإدراك الرب، لكن ديكارت استطاع أن يتجاوز هذا الحديث الغامض عن المنظور الرباني، وبين الفارق بين الإدراكين الحسي والرياضي للعالم المادي، وأثبت أن الأول عرضة باستمرار للشك، بينما الثاني لا يشوبه الشك قط، واقترح طريقة يستطيع من خلالها عزل نفسه عن الإدراك الحسي وتبني الإدراك الأكثر موضوعية.
وإذ شرع في وضع تلك الطريقة موضع التنفيذ، حصل ديكارت على نتائج مبهرة في عدة فروع من العلوم الطبيعية، إضافة إلى الرياضيات البحتة، وتمكن علماء آخرون، مثل فرانسيس بيكون وجاليليو، من مضاهاة إنجاز ديكارت جزئيا وحسب. فرغم أن بيكون ابتكر طريقة لتجاوز قيود البديهة والفيزياء التقليدية، لم تكن شكوكه في العالم الحسي عميقة كشكوك ديكارت. ومرة أخرى، بينما أفسح بيكون المجال لإدراك أكثر موضوعية للطبيعة لم يحدده باعتباره إدراكا رياضيا أصلا. وفي حين قدم لنا جاليليو هذا التمييز، فإنه لم يكن يملك نظرية حقيقية لتفسير مناسبة المنهج الرياضي لتفسير العالم المادي. وقدمت لنا الميتافيزيقا الديكارتية النظرية المفقودة، وأفادت بأن العقل البشري خلقه الرب كي يتمتع باليقين القاطع بخصوص الأشياء المادية عندما يدركها رياضيا؛ وأوضحت أن الرب لديه القدرة على خلق كل ما يمكننا إدراكه على نحو يقيني، وأن الرب أيضا كريم جدا؛ إذ أجاز للعقل البشري أن يقع في الخطأ عندما يدرك على نحو يقيني الطبيعة الرياضية للمادة.
لم يصغ هذا التفسير لبيان كيف أن المادة والرياضيات خلقا بعضهما لبعض بشكل من المرجح أن نراه مألوفا أو جذابا، ولم يكن الهدف أصلا إقناعنا بأن الفيزياء الرياضية قابلة للتطبيق. إن النجاح المدوي للفيزياء الرياضية بوصفها أداة للقياس والتنبؤ والتحكم منذ القرن السابع عشر جعل من أي نظرية تثبت صلاحية الفيزياء الرياضية محض تكرار وتقليد، لكن صياغة نظرية ديكارت ساعدت على تمهيد الطريق أمام بعض الأبحاث المبكرة التي حققت إنجازات بررت ثقتنا بالعلم المادي الحديث.
تلفت النظرية الميتافيزيقية لديكارت الآن الأنظار أكثر من نظريته الخاصة بالفيزياء الرياضية؛ وذلك لأن أكثر فرضياته تميزا في العلوم الفيزيائية بدأت تذوي بحلول فرضيات أخرى تفوقت عليها في غضون عقود قليلة من وفاته. ورغم ذلك، فقد شغلت الأبحاث التي أنتجت تلك الفرضيات وعملية جمعها تقريبا معظم الفترة المثمرة من حياة ديكارت. وغلبت المسائل العلمية لا الفلسفية على عمل ديكارت. وقد واجهها بإدراك قوي بالقواسم المشتركة فيما بينها، وأفكار محددة عن الترتيب الذي يتعين التعاطي معها به، واقتناع داخلي بأنه يستطيع شخصيا أن يعثر على إجابات لأغلبها.
هوامش
الفصل الثاني
Bilinmeyen sayfa
سماع النداء
بدا الأمر وكأنه بمحض الصدفة صار لدى ديكارت الثقة والإقدام الكافيان للمضي قدما في المهمة التي أخذها على عاتقه، وهي تنفيذ البرنامج البحثي الذي دشنه في حياته العملية. عندما ولد بمدينة تورين في شمال غرب فرنسا في الحادي والثلاثين من مارس عام 1596، لم يكن ينتسب إلى عائلة من العلماء. صحيح أن جده لأبيه ووالد جده كانا طبيبين، غير أن أباه كان محاميا وقاضيا. وتبين أن جده لأمه تقلد منصبا حكوميا مرموقا في مدينة بواتييه، وأن أقرباء أمه الآخرين تقلدوا مناصب قانونية حكومية. وكان أفراد عائلتي والدي ديكارت إما من صغار النبلاء أو على مشارف الانتماء إلى طبقة النبلاء، وكانوا أثرياء ومتعلمين تعليما راقيا، ولو أنه لم تكن لديهم ميول علمية تحديدا. ولم يكن في سنوات حياته الأولى ما يستدل به كمؤشر على ما آلت إليه حياته المهنية.
ربما عندما بلغ العاشرة من عمره، أرسل ديكارت الصغير إلى الكلية اليسوعية بمدينة لافليش في منطقة أنجو. ظل ديكارت في هذه الكلية لثماني سنوات، وحصل هناك على أول تدريب له في مجال العلوم. وفي العامين الأخيرين تعلم الرياضيات التي أبدى قدرات خاصة فيها، إضافة إلى الفيزياء، لكنها لم تكن الفيزياء التي تستخدم النتائج الرياضية؛ فقد تعرف ديكارت على النظرية المدرسية (السكولائية) للاختلاف والتغير الطبيعيين، وهي النظرية التي تفسر ملاحظات موصوفة نوعيا بلغة غامضة وتجريدية وغير كمية.
وتجاور بين اليسوعيين في أوائل القرن السابع عشر تدريس الفيزياء المدرسية مع الوعي بالقفزات العلمية التي تحققت في علم الفلك، واستلهمت من اتباع منهج رياضي مختلف كل الاختلاف لدراسة الطبيعة، وانعكس ذلك على كلية لافليش. على سبيل المثال، أقيم حفل بالكلية عام 1611 تقديرا لاكتشاف جاليليو أقمار المشتري. ولعل اليسوعيين كانوا مستنيرين بما يكفي لإتاحة الأدوات البصرية المبتكرة حديثا - والتي كانت تباع في باريس منذ عام 1609 - لديكارت وزملائه بالكلية. ولكن داخل الفصل الدراسي، بدا أن المذاهب المدرسية العقيمة كانت لها اليد العليا، وأنها كانت تشعر ديكارت بالضجر، أو هكذا كتب لاحقا. ففي مؤلفه الأشبه بالسيرة الذاتية «مقال عن المنهج»، الذي نشر عام 1637 كمقدمة لثلاث من مقالاته العلمية، أعطى ديكارت الانطباع بأنه تحمل أيام دراسته على مضض ولم يستفد منها، فلم يساعده في أبحاثه اللاحقة سوى الرياضيات التي تعلمها في لافليش، وحتى هذا الضرب من الرياضيات دعت الضرورة إلى إعادة صياغته، على حد قول ديكارت، كي يكون ذا جدوى. ومن الواضح أنه لم ينشغل في لافليش عامي 1613 أو 1614، بل في هولندا بعدها بخمس سنوات، بالأسئلة التي حفلت بها أعماله المنشورة.
لم ترد أخبار كافية عن ديكارت خلال الفترة بين عامي 1614، عندما غادر كلية لافليش، و1618، عندما وصل إلى هولندا. لدينا دليل على أنه حصل على درجة علمية في القانون في بواتييه عام 1616 تأسيا بأخيه الأكبر بيير الذي سبقه في الحصول على درجة مثيلة قبله بسنوات قلائل. ولكن بينما وجه والدهما بيير لامتهان القانون، بدا أن القدر اختار الحياة العسكرية لرينيه؛ ففي عام 1618، انتقل إلى مدينة بريدا في هولندا، وقيد اسمه كمتطوع نبيل في جيش الأمير الهولندي موريس، أمير ناسو. وحقيقة الأمر أنه كان ضابطا متدربا في جيش يعتبر أكاديمية عسكرية أيضا لشباب النبلاء بالقارة الأوروبية.
شكل 2-1: مدينة لافليش، في نقش يرجع للقرن السابع عشر من أعمال بيير أفيلين.
1
وفي مدينة بريدا، التقى ديكارت البالغ من العمر 22 عاما آنذاك بطبيب يكبره بثماني سنوات يدعى إيزاك بيكمان، وصارا صديقين. كان بيكمان علامة محيطا بعدد كبير من التخصصات العلمية، وكان أثره على الشاب ديكارت عظيما. ويستدل على ذلك من خطاب يرجع لعام 1619 كتب فيه ديكارت إلى بيكمان: «إن شئت الحقيقة، دعني أقر بأنك الذي أخرجني من خمولي وجعلني أتذكر أشياء سبق أن تعلمتها وكاد النسيان يطويها، وعندما شطح عقلي بعيدا عن الأمور الجادة، أعدتني أنت إلى جادة الطريق.» ولعله كان يعني ب «الأمور الجادة» مجموعة من المسائل المعضلة في الرياضيات البحتة والتطبيقية؛ فالرسائل التي بقيت من المتبادلة بين ديكارت وبيكمان خلال تلك الفترة لا تناقش شيئا آخر إلا قليلا، ومن الواضح أن الواحدة منها تكمل الحوار من حيث انتهى في السابقة لها. وكانت هناك رسالة واحدة تتعلق بالعلاقات الرياضية بين النغمات الموسيقية في الأغاني لصوت واحد. وفي رسالة أخرى، أعلن ديكارت أنه عثر في غضون ستة أيام على حلول لأربع مسائل قديمة في الرياضيات. وأسر لبيكمان أيضا أنه ينوي أن «يقدم للناس علما جديدا بالكامل» لحل أية مسألة حسابية أو هندسية بطريقة قياسية أيا كانت طبيعتها. في تلك الفترة تحديدا، بدأ حماس ديكارت للمسائل العلمية يتمكن منه حقا ويستحوذ عليه.
بدأت المراسلات بين ديكارت وبيكمان بعدما رحل الأول عن بريدا في طريقه إلى كوبنهاجن بنهاية أبريل عام 1619. وإذ كان حريصا كل الحرص على تفادي التحركات العسكرية القائمة بسبب اندلاع حرب الثلاثين عاما، فقد خطط ديكارت لسلوك درب غير مباشر بالمرة عبر أمستردام ودانزيج مرورا ببولندا، وأخيرا النمسا وبوهيميا. وكما يستدل من رسائله، عندما انطلق ديكارت في رحلته، كان منشغلا كل الانشغال بالمسائل الرياضية، وبدلا من أن يفقد اهتمامه مع طول رحلته، بدا وكأنه ينغمس أكثر فأكثر في تأملاته. ومن الواضح أنه عدل أيضا مسار رحلته؛ فلما لم يكن لديه الوقت الكافي للسفر عبر بولندا والمجر والنمسا وبوهيميا، وصل إلى فرانكفورت في سبتمبر 1619 بالتزامن مع تنصيب الإمبراطور فرديناند.
أنهى ديكارت رحلته في الشتاء في ألمانيا، ربما على مقربة من مدينة أولم، ولعل الأبحاث التي كان منشغلا بها هنالك استحوذت على عقله. على أية حال، ففي العاشر من نوفمبر عام 1619، وبينما كان منعزلا في غرفة يتم تدفئتها بواسطة موقد، يزعم أنه رأى رؤيا في وضح النهار، وراودته ثلاثة أحلام في المساء فسرها على أنها وحي مقدس لمهمته في الحياة؛ كشف النقاب عن علم رائع.
Bilinmeyen sayfa
هوامش
الفصل الثالث
علم واحد ومنهج واحد
ما رآه ديكارت في رؤياه في وضح النهار لم يعرفه أحد، ووصفه لأحلامه التي راودته في مذكراته الخاصة مكتوب بأسلوب منمق جدا، وعلى هيئة جمل مبتورة لدرجة يستحيل معها أي تفسير موثوق. ورغم ذلك، من المرجح أن الفكرة التي بدأت تتجلى له هي توحيد قائمة طويلة من العلوم التي كانت تعد من قبل علوما منفصلة تحت لواء الرياضيات. وتتضمن تلك القائمة أربعة فروع علمية كانت تصنف عادة تحت مسمى «العلوم الأربعة»؛ وهي الحساب والهندسة والموسيقى والفلك، علاوة على البصريات والميكانيكا وبعض الفروع الأخرى.
ويشير عدد من المصادر المختلفة أن ديكارت - بعد أن غادر بريدا - صار أكثر نزوعا لاحتمالية وجود علم جامع أو منهج جامع للكشف العلمي. ولما راسل ديكارت بيكمان من أمستردام في أبريل 1619 قال إنه التقى علامة كبيرا زعم أن لديه القدرة على توظيف طريقة مستخلصة من كتاب «الفن الصغير »، لمؤلفه ريموند لول، ببراعة منقطعة النظير، لدرجة تجعله قادرا على مناقشة أي موضوع على الإطلاق لمدة ساعة كاملة دون توقف. كان لول كاتبا في القرن الثالث عشر الميلادي يتناول العلم الكلي. وحمل ديكارت هذا الزعم على محمل الجد لدرجة أنه طلب من بيكمان أن ينظر في المسألة، ويخبره ما إذا كان كتاب لول مميزا بحق. كان ديكارت قد كتب بنفسه لبيكمان عن رؤياه الخاصة بعلم قادر على توحيد الجبر والهندسة، ولعل هذا جعله ميالا لفكرة منهج مناسب لتحقيق اكتشافات جديدة في أي موضوع، أو بالأحرى فيما يتعلق بأي موضوع.
بحث ديكارت عن منهج شامل يتجاوز لول، فنراه لفترة يتأمل مذهب جماعة الصليب الوردي التي زعم أنها مصدر لضرب من الفهم الإجمالي للأمور. وخلال الفترة التي عاشها ديكارت بالقرب من مدينة أولم، التقى رياضيا يدعى يوهان فاولهابر عرف عنه أنه محسوب على جماعة الصليب الوردي، وربما أطلع ديكارت على شيء يتعلق بالمعتقدات السرية لجماعته. في السنوات التالية، ولكي ينفي اتهام انتسابه هو شخصيا إلى تلك الأخوية الخارجة على القانون، قال ديكارت إنه لم يجد شيئا مؤكدا في عقائد تلك الجماعة، ولكن إن كان قد تبرأ منهم، فلم يكن ذلك فور لقائه بفاولهابر مباشرة. تتحدث شذرات من مفكرة له احتفظ بها بعدما رحل عن ألمانيا عن عمل له اعتزم أن يرسي أساسا لما أسماه «سبل حل جميع الصعوبات في علم الرياضيات ... سيتم تقديم هذا العمل للمثقفين في شتى أرجاء العالم، وخاصة إلى الإخوة الأجلاء المحسوبين على جماعة الصليب الوردي في ألمانيا» (10 : 214).
تواصل المفكرة التي اقتبس منها الاقتباس أعلاه الحديث عن الوحدة الكامنة في العلوم: «لو استطعنا أن نرى كيف ترتبط العلوم ببعضها فلن يكون استبقاؤها في عقولنا أصعب من مجموعة أرقام بسيطة» (10 : 215). ولا يتضح على وجه التحديد إن كانت تلك الفكرة جالت بخاطره في شتاء عام 1619 أم لا، لكن ثمة اعتبارات وثيقة الصلة - عن الترتيب الذي يجب دراسة العلوم به - من الواضح أنها خطرت له من قبل، إذا صدقنا الرواية التي يرويها في مؤلفه «مقال عن المنهج».
يقدم لنا الجزء الثاني من مؤلف ديكارت «مقال عن المنهج» تقريرا عن تأملات ديكارت في غرفته ذات الموقد للتدفئة. ومن المفترض أنه شرع بالتأمل في فكرة أن الأدوات تكون أقل جودة إن صنعها عدد كبير من الأشخاص مما لو صنعت على يد شخص واحد وحسب، بل وستكون أسوأ لو صنعت بارتجال مما لو صنعت استنادا إلى خطة شاملة. ومع ذلك، فمن الأفضل أحيانا ألا نحاول من الصفر إعادة صنع شيء ما صنع بطريقة تفتقر للنظام. وكما لا يستطيع أحد أن يحلم بهدم «كل» البيوت في مدينة عشوائية واستبدال بيوت أخرى بها لمجرد إنجاز عمل أكثر جاذبية، على حد قول ديكارت؛ فإنه «من غير المنطقي ... أن يضع المرء خططا لتصحيح مسار العلوم أو نظام تعليمها الراسخ في المدارس» (6 : 13). على الجانب الآخر، من الممكن أن يكون من المنطقي أن يهدم الإنسان بيته ويعيد بناءه، ومن المنطلق نفسه قد يكون من المنطقي أن ينطبق ذلك أيضا على تصحيح المرء مسار ما تعلمه - رفض كل ما يداخله الشك في معتقداتنا المكتسبة - دون المساس بمحتوى العلوم ونظام تدريسها الراسخ. من بين أوائل النتائج التي توصل إليها ديكارت، بحسب مؤلفه «مقال عن المنهج»، أنه لا ضير من التخلص من جميع آرائه والبحث عن شيء أفضل يحل محلها طالما أنه ابتكر مقدما «منهجا» لإيجاد بدائل (6 : 17).
كان ديكارت يبحث عن منهج يتمتع بجميع المميزات دون أن يشوبه أي من أوجه القصور التي تشوب الإجراءات المتبعة في المنطق والجبر والهندسة، وزعم في مؤلفه «مقال عن المنهج» أنه عثر على ذلك المنهج ونجح في تطبيقه إلى حد ما بنجاح. يقول: «في الواقع، يسعني القول إنني بالاتباع الدقيق للقواعد القليلة التي وقع اختياري عليها، صرت بارعا جدا في حل جميع المسائل التي تنتمي إلى (التحليل الهندسي والجبر)» (6 : 20). وبعدها بقليل يقول ديكارت: «وبما أنني لم أحصر المنهج في موضوع بعينه، عقدت الآمال على تطبيقه بنجاح على مسائل العلوم الأخرى كما نجحت في تطبيقه على الجبر» (6 : 21). وهذا التصريح أقرب ما يكون إلى زعم ديكارت في مؤلفه «مقال عن المنهج» بأنه - عندما كان في ألمانيا - عثر على منهج شامل ينطبق مبدئيا على جميع المسائل العلمية، لكنه لم يتطرق إلى أن المنهج يناسب بالفعل العلوم الأخرى، بل صرح بأنه فكر أنه طالما أن مبادئ العلوم الأخرى تعول كلها على الفلسفة، التي لم يجد فيها أي شيء مؤكد، فعليه أولا أن يثبت وجود يقينات في هذا المجال. علاوة على ذلك، أدرك أنه لا داعي لإنجاز هذه المهمة قبل الأوان: «ارتأى لي أنني لا ينبغي أن أحاول إنجاز هذه المهمة حتى أصل إلى عمر أكثر نضجا من سنوات عمري الثلاث والعشرين، وحتى أمضي فترة طويلة في تأهيل نفسي لها» (6 : 22). وكما سيتضح لنا، استمرت فترة «الإعداد» لديكارت تسع سنوات، فلم يبادر بإثبات «المبادئ اليقينية» التي عدها ضرورية لحل المسائل في العلوم الأخرى سوى عام 1628.
الفصل الرابع
Bilinmeyen sayfa
المطلقات والطبائع البسيطة والمسائل
ما المنهج الذي اكتشفه ديكارت - إن وجد - قبل عام 1628؟ يشير الجزء الثاني من «مقال عن المنهج» أنه إبان التجربة التي عاشها ديكارت في الغرفة ذات الموقد، كان قد حدد بالفعل أربعة مبادئ يسترشد بها في جميع تساؤلاته (6 : 18). تساءل نقاد «مقال عن المنهج»: هل كانت هذه المجموعة من القواعد يمكن حقا أن ترقى لتكون «منهجا»؟ وتعاطف ديكارت نفسه مع هذا الاعتراض؛ ففي تعليق لمراسل حول الوصف المناسب لمؤلفه، رفض أن يطلق عليه أطروحة كما أشار البعض عليه، استنادا إلى كونه يلمح إلى وجود منهج أو يعلن عنه دون أن يتجاوز ذلك إلى تدريس المنهج نفسه. هناك مشروع أشبه بالأطروحة وضعه ديكارت قرابة عام 1628، ولكنه لم ينته منه قط، وكان من المقرر أن يحوي عددا من القواعد لا تقل عن 36 قاعدة في ثلاث مجموعات، قوام كل منها 12 قاعدة، وسميت الأطروحة غير المكتملة: «قواعد لتوجيه الفكر». وتناوله للمنهج في تلك الأطروحة أكثر تعقيدا من تناول مؤلفه «مقال عن المنهج» له، ولكن لعله أكثر التزاما بالإجراءات العامة لحل المسائل التي خطرت لديكارت أول الأمر.
وإذ يشرح ديكارت القواعد الاثنتي عشرة الأولى في «قواعد لتوجيه الفكر»، نراه يمر على بعض النقاط التي من المفترض أنه درسها خلال تأملاته على مقربة من مدينة أولم في نوفمبر عام 1619. تنص القاعدة الرابعة على أنه يجب أن يكون المنهج لا الفضول دليلنا في البحث. وتعليقا على هذه القاعدة، يركز ديكارت على فائدة الأساليب المعلومة لحل المسائل في العلوم الرياضية المحدودة، ويتساءل عما إذا كان في الإمكان توسعة نطاقها بحيث تشمل «فروعا معرفية تعرقل تقدمها عقبات أكبر» (10 : 373). ويستقر رأيه على أنه يمكن توسعة نطاقها، أو يقرر أن الأساليب المعمول بها في الجبر والهندسة حالات خاصة لشيء أكثر عمومية؛ إجراء للإجابة عن مسائل خاصة بالأرقام والأشكال والكثير من الأشياء غيرها. وفي مرحلة تالية من نقاشه للقاعدة الرابعة، وبعد أن ألمح إلى توافر منهج عام بالكامل لحل المسائل، أكد فعليا أن ثمة «رياضيات كلية»:
تجلى لي أن الاهتمام الوحيد للرياضيات ينصب على مسائل الترتيب أو القياس، وأنه لا يهم إن كان القياس المعني ينطوي على أرقام أو أشكال أو نجوم أو أصوات أو أي شيء آخر أيا كان. وقادني هذا إلى إدراك أنه لا بد وأن هناك علما عاما يفسر جميع الأمور التي يمكن طرحها بخصوص الترتيب والقياس بغض النظر عن الموضوع نفسه، وأن هذا العلم يجب أن يطلق عليه اسم «الرياضيات الكلية» ... ذلك لأنه يغطي كل ما يؤهل ... العلوم الأخرى لأن تسمى فروعا من الرياضيات. (10 : 377-378)
ويواصل حديثه قائلا إن هذا العلم يتجاوز العلوم الثانوية الممثلة في الهندسة والفلك والموسيقى والبصريات والميكانيكا وغيرها «من حيث الوحدة والبساطة»، ويضيف أنه نظرا لمستواه العالي جدا من العمومية، فإنه لا يحوي بعض الصعوبات التي تعرقل العلوم المتخصصة.
يرى ديكارت أن هناك ثلاث قواعد محورية بالنسبة للأطروحة بأسرها (10 : 392). فالقاعدة الخامسة تملي على الباحث أن «يختزل القضايا المعقدة والغامضة بصفة تدريجية إلى قضايا أبسط، ثم يبدأ من خلال حدس القضية الأبسط على الإطلاق، ويحاول أن يرقى وفق نفس التدرج إلى معرفة القضايا الأخرى» (10 : 379). وتتوسع القاعدة السادسة بعض الشيء فيما يعد «بسيطا »؛ أما القاعدة السابعة فتقدم أسلوبا «للارتقاء» استنادا لألفاظ القاعدة الخامسة من القضايا الأبسط التي اختزلت فيها مسألة صعبة، مرورا إلى القضايا الباقية كلها.
ويوضح ديكارت كيف يمكن تطبيق هذه القواعد وغيرها من القواعد بشكل صحيح (10 : 393 والصفحات التالية). ويبدأ ديكارت بمسألة «انكسار الضوء»؛ وهذه مسألة في علم البصريات لوصف الخط أو المسار الذي تنحرف عنده أشعة متوازية من الضوء بطريقة تجعلها تتقاطع عند نقطة واحدة، عندما تصطدم بوسط أكثر كثافة. يقول ديكارت إن أي رياضي لا يفقه شيئا في الفيزياء لن يستطيع أن يحرز سوى تقدم محدود في هذه المسألة؛ فسيكتشف أن الخط الذي يسعى إليه يعتمد على نسبة بين الزوايا التي تصطدم عندها الأشعة بالوسط الأكثر كثافة والزوايا التي تنكسر عندها. وسيتتبع القاعدة الخامسة في اكتشافه لهذه المسألة بقدر أكبر؛ القاعدة الخامسة التي تملي على الباحث حل أية مسألة بواسطة اختزالها إلى قضايا أبسط؛ أي قضايا معلومة بما يسهل حل المسألة. وتورد إحدى القضايا نسبة الزوايا إلى بعضها، ولكن هذا هو منتهى ما يمكن أن يصل إليه الرياضي البحت؛ وذلك لأن الرياضي البحت، الذي ينتهك القاعدة الأولى من البحث المنصوص عليها في «قواعد لتوجيه الفكر» (قارن: 10 : 361)، يسعى إلى الحقيقة المرتبطة بالأرقام والأشكال وحسب، لا المتعلقة بالأشياء عموما. «يمكن» إيجاد حل لمسألة الأشعة المنكسرة، ولكن من قبل شخص يتجاوز مسألة النسبة بين الزوايا ويرى ما تعتمد عليه تلك النسبة. ما يتعين على الباحث فهمه أن النسبة بين الزوايا تتباين بفعل تغيرات في الزوايا تحدث بسبب اختلافات في الوسائط التي تمر عبرها أشعة الضوء. ولكي يفهم هذه التغيرات، يتعين عليه أولا استيعاب أشياء أخرى؛ وهي كيفية مرور الضوء عبر «المادة الدقيقة» المناسبة لانتقاله، وطبيعة حركة الضوء أو قوته، وطبيعة القوة الطبيعية عموما. ويرتهن استيعاب تلك الأشياء بفهم قضايا «أبسط» من القضية التي تنص على النسبة بين الزوايا. القضية «الأبسط» من بين هذه القضايا البسيطة هي التي تشرح ماهية القوة الطبيعية.
وطبيعة القوة الطبيعية هي ما يعتبرها ديكارت الاصطلاح الأكثر «إطلاقا» في سلسلة الاعتبارات المتعلقة بمسألة انكسار الضوء (10 : 395). وعموما، فإن الاصطلاحات المطلقة لمتسلسلة ما هي التي تمكن الباحث من أن يضع يده على الأشياء «البسيطة» التي تجعل الطبائع المجهولة، كطبيعة الضوء، مفهومة. واستنادا إلى القاعدة السادسة في «قواعد لتوجيه الفكر»، يقدم لنا بعض الخصائص النموذجية للمطلقات:
إنني أصف كل ما يحوي بداخله الطبيعة المحضة البسيطة محل البحث بأنه: «مطلق»؛ أي ما ينظر إليه باعتباره مستقلا، سببا، بسيطا، شاملا، واحدا، مكافئا، مشابها، خطيا، وغيرها من السمات الشبيهة. (10 : 381)
تبدو قائمة السمات متنوعة حتى يقرأ المرء المزيد ويكتشف أنه بالنسبة لديكارت يمكن التعبير عن جميع المسائل القابلة للحل بمعادلات بين الكميات المعلومة والمجهولة المستخلصة من البيانات المرتبطة بتلك المسائل. ويرد ذكر التكافؤ في قائمة المطلقات بسبب استخدام المعادلات في بيان العلاقات التي تربط ما بين المعلوم والمجهول. ويرد ذكر صفة «الخطية»؛ لأن ثمة معادلات بعينها يمكن التعبير عنها كخطوط مستقيمة في نظام إحداثي. ويمكن بيان الإطلاق، من حيث ما يمكن فهمه بذاته لا استنادا إلى أشياء أخرى، في حالة انكسار الضوء: فيمكن فهم قوة الضوء حال فهم القوة عموما وحسب، ولكن فهم القوة عموما لا يعتمد على فهم نوع بعينه من القوة، كقوة الضوء.
Bilinmeyen sayfa
يزعم ديكارت في «قواعد لتوجيه الفكر» أن المرء يكتشف «السر الأساسي» لمنهجه عندما يعرف أن كل الأشياء يمكن ترتيبها ترتيبا تتابعيا، وأنه في كل متسلسلة يوجد ارتقاء من الأشياء الأكثر إطلاقا إلى الأقل إطلاقا (10 : 381). والفكرة أن كل «مسألة» وكل مادة - يمكن تحديد حقيقتها أو زيفها - تختص «بأشياء مركبة» تتألف طبائعها من مزيج من أشياء «أبسط» أو أسهل في فهمها واستيعابها. وتحديد الأشياء البسيطة مسألة تتعلق بوصف الأشياء المركبة - والضوء والمغناطيس مثالان من أمثلته - بألفاظ عامة جدا تجرد وحسب سماتها الكمية.
يعتمد حديث ديكارت عن «المطلقات» على نظرية الطبائع «البسيطة» و«المركبة». وإذا لم نتعرف على هذه النظرية بقدر أكبر، فلن ينفعنا أن نطلع على «السر الأساسي» لمنهجه. السؤال: ما حجم الخلفية الضرورية التي يقدمها ديكارت في هذا الشأن؟ هناك جزء في «قواعد لتوجيه الفكر» عن تنويعات التركيب التي تتعرض لها الطبائع البسيطة (10 : 422 والصفحات التالية)، وثمة شيء عن التركيب باعتباره مصدر الخطأ (10 : 424 والصفحات التالية). كما يعدد أيضا الطبائع البسيطة نفسها.
يقسم ديكارت الطبائع البسيطة إلى ثلاث فئات (10 : 419 والصفحات التالية)؛ الأولى: هي الطبائع البسيطة «العقلية المحضة». ويضرب ديكارت مثلا بالمعرفة والشك والإرادة ضمن هذه الفئة، لكن هناك مسألة واحدة وحسب نوقشت في مؤلفه «قواعد لتوجيه الفكر» - المعنية بتحديد نطاق المعرفة البشرية وطبيعتها (10 : 395) - هي التي تظهر لنا بالكامل الطبائع العقلية البسيطة. ورغم أن ديكارت يطلق عليها اسم «أدق مثال» لمسألة على الإطلاق، ويزعم أنها «أول ... ما يجب تمحيصه باستخدام القواعد»، نجد أنها في حقيقة الأمر شاذة عن المسائل التي يطبق عليها منهجه. المسائل التي يركز ديكارت عليها يمكن حلها بالاستعانة بالفئتين الأخريين للطبائع البسيطة، اللتين يسميهما الطبائع البسيطة «المادية المحضة»، والطبائع البسيطة «المشتركة» بين الأشياء العقلية والمادية.
ويعني ديكارت بالطبيعة البسيطة «المادية المحضة»، على سبيل المثال، أي شيء لديه شكل وامتداد (طول وعرض وعمق)، أو أي شيء متحرك (10 : 419). فهذه الطبائع لا تنتمي إلا للأشياء المادية أو الفيزيائية، وبمعرفة علاقات بعضها ببعض، وتحديدا أنواع الأشياء المادية، من المفترض أن يكون المرء قادرا على الإجابة عن بعض الأسئلة المتعلقة بالقوى وسمات الأشياء المادية عموما. على سبيل المثال، يزعم ديكارت أنه بالإمكان الكشف عن طبيعة الصوت من معلومات مفادها: أن «ثمة ثلاثة أوتار أ، ب، ج تصدر الصوت نفسه؛ ولكن الوتر ب يبلغ سمكه ضعف سمك الوتر أ ولكنه ليس أطول منه، ويخضع لشد بفعل ثقل يبلغ وزنه ضعف الثقل الذي يتعرض له الوتر أ. أما الوتر ج فيبلغ طوله ضعف طول الوتر أ، ولو أنه ليس بسمكه، ويخضع لثقل يبلغ وزنه أربعة أضعاف الثقل الذي يتعرض له الوتر أ» (10 : 431). تتعلق هذه البيانات جميعها بالعلاقات بين الأطوال والسمك والأوزان باعتبار أنها قابلة للقياس بالوحدات؛ فالأطوال والسمك أمثلة على الطبائع المادية البسيطة، والقياس بالوحدات أحد «الطبائع المشتركة» (10: 419)؛ قارن: (10 : 440، 449).
يلاحظ ديكارت استنادا إلى مثال الأوتار ومسائل الصوت أنه يمكن أن نرى كيف يمكن اختزال أي مسألة مفهومة فهما وافيا، أو على الأقل أية مسألة تجرد بقدر كاف من أي اعتبارات غير ذات صلة، إلى «شكل ما بحيث ... نتعامل ... فقط مع أبعاد معينة عموما ونقارن بينها» (10 : 431). يستحق هذا، على نحو ما، أن يطلق عليه اسم «السر الأساسي» للمنهج المنصوص عليه في مؤلف ديكارت «قواعد لتوجيه الفكر». ما رآه ديكارت هو أن الكثير من المسائل العلمية القابلة للحل يمكن أن تبدو «عصية» على الحل بسبب الطريقة التي تشكلت بها، وظن أنه عثر على طريقة لحل أية مسألة تتعلق بالأرقام والأعداد؛ ولذلك فقد انصب تركيزه على إجراء لتحويل المسائل العلمية التي «لم» تكن تتعلق ظاهريا بالأرقام والأعداد إلى مسائل تتعلق بالأرقام والأعداد. ومع وضع المسائل الفيزيائية بشكل أساسي في الاعتبار، قدم ديكارت قواعد تفصيلية لإعادة التعبير عن تلك المسائل في هيئة مصفوفات من النقاط والخطوط: (10 : 450 والصفحات التالية)، أو عند الحاجة للاختصار، في هيئة معادلات بين الأرقام (10 : 455 والصفحات التالية). وبالتعبير عن تلك المسائل بهذه الطرق، يمكن اختزالها في شكل يمكن فيه ملاحظة العلاقات بين الأبعاد بسهولة أو حسابها آليا.
ولو أن عملية التحويل هذه كانت يمكن أن تكون ابتكارا وافيا، لم يكتف ديكارت بإعطاء توجيهات حول تحويل قضايا غير رياضية غامضة إلى لغة رياضية أكثر وضوحا؛ فقد كان يعتقد أن مجموعات الترميز الموجودة في الجبر والهندسة يتعين توضيحها وتوحيدها. ويذكر ديكارت في «مقال عن المنهج» كيف استطاع بسهولة في مطلع شبابه أن يجد أوجه قصور في الطرق التقليدية لتمثيل المسائل الرياضية. واشتكى ديكارت من أن التحليل الهندسي كان «مقيدا بشدة بالتحقق من الأعداد» لدرجة أنه لم يفسح المجال لإعمال الفكر «دون إنهاك الخيال بشدة» (6 : 17-18). أما الجبر فكان «مقيدا جدا بقواعد ورموز بعينها لدرجة أن المحصلة النهائية [كانت] علما مرتبكا وملغزا» (6 : 18).
لإضفاء وضوح ووحدة على العلمين السابقين، اقترح ديكارت العديد من أدوات التمثيل الرمزي التي ما تزال قيد الاستخدام في الجبر؛ فقد كان ديكارت هو الذي اخترع تمثيل المجاهيل في المعادلات بالرموز س، ص ، ع ؛ والمعروف منها بالرموز أ، ب، ج. وكان ديكارت أول من وضع التمثيل الرمزي القياسي للمكعبات وأس الأرقام، وكذا التمثيل الرمزي لجذورها المقابلة. والأهم من ذلك نظرا لتجاوز الأمر مسألة التمثيل الرمزي وحسب، كان ديكارت هو الذي أثبت كيف أن جميع الكميات التي توجد بينها علاقات قابلة للتمثيل بأرقام يمكن تمثيلها في مجال الهندسة بخطوط، وأنه يمكن تمثيل الخطوط، بما في ذلك المنحنيات، برموز جبرية. إن القراء الذين يألفون تمثيل حلول المعادلات باستخدام المحورين السيني والصادي لرسم الإحداثيات يعرفون الأساليب التي إن لم يكن ديكارت هو مخترعها فهو الذي طورها وقام بتطبيقها بطرق مبتكرة في مؤلفه المعنون «الهندسة».
تنبأ ديكارت في مؤلفه «قواعد لتوجيه الفكر» ببعض الابتكارات الواردة في مؤلفه «الهندسة»، على الأقل الخطوط العريضة منها، ومرة أخرى فقد أخذ مؤلفه الأول مستندا إلى الخطوط العريضة بعض أساليب الجبر والهندسة المنقحين من أجل حل المسائل الموجودة في علوم أخرى. وكانت نية ديكارت أن يثبت في القواعد الاثنتي عشرة الأخيرة، في مؤلفه «قواعد لتوجيه الفكر»، كيف يمكن ترجمة أية مسألة على الإطلاق، مهما بلغت بساطة صياغتها الأولى، إلى مسألة يتسم فيها التحول من المعلوم إلى المجهول بالوضوح تماما كما في الرياضيات. من الواضح أنه لم يؤلف القواعد الاثنتي عشرة الأخيرة، ولكنه في القواعد الإحدى والعشرين تقريبا التي جمعها، توصل إلى نظرية شديدة التميز عن البحث والاستقصاء عموما، سنتعرض لأجزاء قليلة منها عند مناقشة الكتابات التي تبعت مؤلفه «قواعد لتوجيه الفكر».
الفصل الخامس
التجول حول العالم
Bilinmeyen sayfa
لتسع سنوات منذ أن رأى ديكارت رؤياه في ألمانيا، بحسب ما جاء في مؤلفه «مقال عن المنهج»، «لم يفعل شيئا سوى التجول في العالم ...» (6 : 28). كانت تلك الفترة حافلة في المقام الأول بالأسفار خارج فرنسا؛ فقد كان من المفترض أن يساعده التعرض للتقاليد والمعتقدات الأجنبية على أن ينأى بنفسه عن أي تحيزات وأخطاء اكتسبها في شبابه. وكان يهدف إلى اكتساب الخبرات، والوصول إلى النضج الضروري «لأهم مهمة على الإطلاق»؛ ألا وهي الكشف عن المبادئ اليقينية في مجال الفلسفة ، أو على الأقل هكذا يصف «مقال عن المنهج» رحلات ديكارت في سياق تطوره الفكري.
ولا يأتي مؤلفه «مقال عن المنهج» على ذكر شيء بخصوص وجهة ديكارت في أسفاره، أو الأحداث التي شهدها خلال الطريق؛ فهو لا يتبنى هذا الضرب من السير الذاتية، فهو أقرب ما يكون إلى وصف لهيكل العلوم على هيئة قصة تطور رجل عن طريق تعليم الذات، منه إلى سرد لأحداث وقعت في حياة مؤلفه. وكما رأينا، يبدأ ديكارت القصة بذكر عدم رضاه عن التعليم المدرسي الذي يتلقاه، واكتشافه لمنهج من شأنه تصحيح جميع الأخطاء التي تشوب هذا التعليم. ويواصل ديكارت وصفه كيف طبق لأول مرة المنهج محققا نجاحات لا بأس بها في مجال الرياضيات، وكيف - قبل أن يمضي قدما - اكتشف أنه يجب أن يعرج على الفلسفة، الأمر الذي دعاه إلى اكتساب المزيد من الخبرات. تم تناول هذا في جزأين من أجزاء الكتاب الستة. وفي أجزاء لاحقة، يصف ديكارت ما حدث عندما صار أخيرا على استعداد للخوض في مجال الفلسفة؛ فقد نجح في العثور على المبادئ التي كان يبحث عنها، وواصل عمله بتطبيق المنهج على العلوم الأخرى؛ كالفيزياء والميكانيكا، وأخيرا العلوم الإنسانية.
على الرغم من أن «مقال عن المنهج» في ظاهره يسرد الأشياء بترتيب زمني، فإن النمط الحقيقي في رواية ديكارت هو في الواقع ترتيب مثالي لتلقين أي شخص العلوم. فيوجد أولا «المنطق»، الذي يتخذ هيئة المبادئ الأربعة للمنهج الجديد، ومن بعده الرياضيات، تليها الفلسفة، ثم الفيزياء، فالميكانيكا، والطب، والأخلاق. ويناسب ذكر ديكارت لأسفاره منطق هذه القصة لا من منطلق كونها تقريرا عن الأحداث التي وقعت خلال الفترة من 1619 إلى 1628، بل انطلاقا من كونها محاولة للتدليل على الحدود التي سعى في إطارها ديكارت لتطبيق المنهج الذي اختاره لتصحيح معتقداته السالفة. لقد رأينا بالفعل في مؤلفه «مقال عن المنهج» أن الإجراء الذي اتبعه يقضي برفض أي شيء يداخله أدنى شك في تعلمه. وكان هذا الأسلوب عرضة لسوء الفهم. وإذ كان حريصا على تبديد أي انطباع بأنه خلال محاولته التخلص من تحيزاته كان يسير ببساطة على درب الفلاسفة المتشككين، ويتبنى موقف الشك المدمر الذي «لا» يترك معتقدا على حاله، والذي من شأنه شل حركته في الشئون العملية، يشرح ديكارت في مؤلفه «مقال عن المنهج» كيف عاش في الوقت نفسه حياة المسافر النشط، وهدم أفكاره السابقة. استطاع ديكارت أن يحقق المعادلة الصعبة ويفعل الأمرين معا؛ لأنه استثنى، من فترة تعليمه الذاتي المدمرة، مسلمات ميثاق أخلاقي مؤقت، وأركان عقيدته، وإيمانه بالامتثال لقوانين وعادات بلده؛ فقد كان بحاجة للتمسك بكل هذه الأشياء حتى يتسنى له أن يتصرف بفاعلية في الوقت نفسه الذي ينخرط فيه في استقصائه الذاتي العميق.
شبه ديكارت ميثاقه الأخلاقي المؤقت وعقيدته بالملجأ المؤقت الذي يحتاج المرء أن يلوذ إليه خلال الفترة التي يجري فيها هدم بيته وإعادة بنائه (6 : 22). ويجب أن نأخذ ذلك التشبيه على محمل الجد إن أردنا ألا ننبذ مشروع ديكارت لنقد معتقداته، بحجة أنه يفتقر للحماس والهمة. إن الملاجئ المؤقتة هي الأشياء التي يمكن تدميرها، أو على الأقل هجرها فور أن يقيم المرء بيته الدائم: وكان الميثاق الأخلاقي المقنن بشدة لديكارت بالمثل عرضة لإعادة النظر والنقد، بل وحتى الرفض فور إقامة الهيكل الرئيسي للعلوم. وبالنسبة لحقائق العقيدة، فستعامل هذه الحقائق «في البداية» بيقين على أن يجري إثباتها لاحقا أثناء وضعه للمبادئ اليقينية في الفلسفة. ولكن بداية، وبحسب ما جاء في «مقال عن المنهج»، فقد قبل ديكارت أخلاقياته وعقيدته دون نقد، وطفق يفكك آراءه الأخرى. «ولما توقعت أنني سأكون قادرا على إنجاز ذلك بسرعة أكبر بالتحاور مع الآخرين مما لو قبعت في غرفتي ذات الموقد حيث جالت بخاطري كل هذه الأفكار، شرعت في أسفاري مرة أخرى في نهاية فصل الشتاء [شتاء 1619-1620]» (6 : 28). قام ديكارت بعدد من الرحلات خلال السنوات التسع التالية، لكنها لم تكن فترة ترحال وحسب بأي حال من الأحوال، بحسب ما جاء في مؤلفه «مقال عن المنهج». وحتى استقر لبعض الوقت في باريس، بين عامي 1626 و1628، ليس من الواضح أنه أخضع أفكاره للاختبار فعلا عن طريق «التحاور مع الآخرين ». على أية حال، من الصعب أن نحدد كيف آمن ديكارت بأن التحاور سيساعده على تصحيح أفكاره إذا كان يؤمن أيضا بأن الآخرين ما هم إلا أبواق لتعليم لا يقل إثارة للشكوك عن تعليمه الشخصي. علاوة على ذلك، فهو يصف دائما عملية استبعاد الأخطاء باعتبارها حكرا عليه وحده. وهذا يطرح السؤال: لماذا لم تكن الإقامة في غرفته ذات الموقد مناسبة لأغراضه بنفس قدر العودة للمجتمع؟ في نهاية المطاف، يجب على المرء أن يتعاطى مع مزاعمه العديدة الواردة في «مقال عن المنهج» عن الأشياء التي قام بها، ومرات قيامه بها، وأسبابه للقيام بها، مثلما يتعاطى مع المزاعم المتضمنة في أية قصة خيالية؛ فقد قدم ديكارت كتابه لقرائه على أية حال باعتباره قصة خيالية (6 : 4).
ولعله «لم» يغادر الغرفة ذات الموقد وفي ذهنه خطة لتأجيل أبحاثه في مجال العلوم. ورغم أن كتابه «مقال عن المنهج» يفيد بأنه حدد مهمة في مجال الفلسفة كان بحاجة إلى إنجازها قبل أن يتمكن من تطبيق منهجه خارج نطاق الجبر والهندسة، فليس من الواضح أنه أجل حقا تطبيق منهجه، أو أنه حدد لنفسه أي مشروع في الفلسفة. فمن المحتمل أن الحاجة لاستقصاءات ميتافيزيقية لم تتضح له إلا في باريس، بعد أن رحل عن ألمانيا بست أو سبع سنوات. أما بالنسبة لتأجيل تطبيق منهجه خارج إطار الرياضيات البحتة، فتوحي المفكرة الوحيدة التي وصلت لنا عن تلك الفترة بأن المنهج كان قيد التطبيق بالفعل عام 1620 في أعمال ديكارت عن مبادئ صنع عدسات تليسكوبية. ومرة أخرى، من المعروف أن ديكارت كان يطارده في شبابه خوف من أن توافيه المنية قبل أن يكمل مشروع حياته. ومن المنطقي أن نفترض أن هذا الخوف جعله يتعجل لا يتلكأ. وحقيقة أنه لم ينتج سوى عمل مبتور على مدار تسع سنوات من المرجح أن يكون مردها إلى المحاولة والفشل في استكمال شيء ما، لا إلى سياسة متعمدة للانتظار لحين نضج أفكاره.
ليست لدينا معلومات كافية ومؤكدة عن أسفاره بعد شتاء عام 1619-1620 المحوري في حياته. ولعله واصل خدمته العسكرية كمتطوع وسافر لفترة من الوقت بصحبة جيش دوق بافاريا، وربما انتقل إلى جيش آخر عام 1621، وعرج على سيليزيا وبولندا. تسرد مفكرته الخاصة بتلك الفترة واقعة درامية حدثت خلال رحلة فرعية قام بها ديكارت وخادمه إلى جزر فريزيا؛ حيث تواطأ البحارة الذين استأجر قاربهم على سرقة أمواله وقتله، لكن ديكارت سمع مؤامرتهم واستل سيفه وهدد بقتلهم إذا حاولوا إلحاق أي ضرر به، فتراجع مهاجموه عن كيدهم.
وفي عام 1622، عاد ديكارت إلى فرنسا حيث أمضى بعض الوقت في باريس، وبصحبة معارفه في بريتاني. ويسجل خطاب بتاريخ مايو 1622 بيع الكثير من العقارات في هذا العام التي تركها له أبوه. ووفرت عليه أرباح استثمار تلك الأموال عناء البحث عن عمل لكسب العيش. وفي مارس 1623، انطلق إلى إيطاليا حيث تجول لأكثر من عامين، ومن أولى وجهاته التي قصدها مزار البيت المقدس بلوريتو. لقد أقسم ديكارت أن يذهب إلى هذا المكان تقديرا للرؤيا التي رآها عام 1619. ولاحقا زار روما وفلورنسا، ومنها عائدا إلى فرنسا، ربما في مايو عام 1625، عن طريق جبال الألب. ويزعم أنه في طريق عودته سنحت له الفرصة أن يشتري رتبة فريق شاتيليرو، لكن سعرها أذهله فرفض المسألة برمتها. وفي العام التالي، 1626، استقر في باريس، وباستثناء بعض الرحلات للريف، ظل في باريس ثلاث سنوات.
الفصل السادس
باريس
كان ديكارت قد بلغ قرابة الثلاثين من عمره عندما انتقل إلى باريس. وخلال السنوات الست أو السبع التي انقضت منذ أن ترك ألمانيا لم يقم بالكثير من أجل بناء أركان علمه الرائع؛ ففي باريس ظل نشاطه الفكري مشتتا وفاقدا لبوصلته. ولا يميز الجزء الثالث في كتابه «مقال عن المنهج» صراحة بين الأيام التي عاشها في باريس وتلك التي أمضاها في أسفاره، لكن ثمة فقرتين ربما تتعلقان بفترة إقامته في تلك المدينة. في واحدة من الفقرتين، يقول ديكارت إنه خلال سنوات التجوال التسع:
Bilinmeyen sayfa
واصلت ممارسة المنهج الذي وصفته لنفسي، وإلى جانب حرصي بوجه عام على تحكيم جميع أفكاري لقواعد المنهج، فقد خصصت بضع ساعات بين الفينة والأخرى لتطبيقه أكثر على المسائل الرياضية بخاصة، ولقد قمت بتطبيقه أيضا على مسائل أخرى محددة، والتي استطعت صياغتها في شكل رياضي. (6 : 29)
ربما كانت «المسائل الرياضية» هي تضعيف المكعب وتثليث الزاوية. عرضت حلول ديكارت في باريس، وإن لم يكن قد توصل إليها هناك، على الرياضيين كلود ميدورج وسباستيان هاردي. ولعل «المسائل الأخرى المحددة» كانت تتعلق بالتقوس الأمثل لأنواع بعينها من العدسات. ومن المعروف أن ديكارت درس البصريات النظرية والتجريبية أثناء إقامته في باريس، وأحيانا بالتعاون مع ميدروج. ولقد أقام صداقة أيضا مع صانع أدوات بصرية يدعى فيرييه، وحاول الاستعانة به لاحقا كمساعد شخصي له.
تأتي الفقرة الثانية المستخلصة من «مقال عن المنهج»، والتي ربما تتعلق بأيام ديكارت في باريس، قرب نهاية الجزء الثالث، ويذكر فيها ديكارت أنه التزم ضربا من الحياد في المسائل الفكرية؛ حيث استقر رأيه، على حد قوله، على أن يكون مشاهدا بدلا من أن يكون فاعلا في أسفاره؛ فضل أن يكون ناقدا لأفكاره على أن يكون واضعا لنظريات خلال تأملاته الخاصة:
مرت هذه السنوات التسع ... دون أن أتحيز إلى أي جانب فيما يختص بالمسائل التي يناقشها المثقفون، أو دون أن أشرع في البحث عن أسس أية فلسفة أكثر يقينا من الفلسفة المتفق عليها؛ فالمثال الذي كان أمامي للمفكرين الكبار الكثر الذين سبق أن خاضوا في هذا المشروع، ولم تكلل جهودهم بالنجاح على حد علمي، جعلني أتخيل أن الصعوبات ستكون كبيرة جدا لدرجة أنني لن أجرؤ على البدء في المشروع في مرحلة مبكرة جدا لو لم ألاحظ أن البعض يروجون إشاعات بأنني انتهيت منه بالفعل. (6 : 30)
ويواصل حديثه قائلا إنه لم يفعل شيئا يشجع على ترويج تلك الشائعات، ولكن فور أن راجت حاول أن يرقى إليها، ويضع أسسا لفلسفة جديدة.
إلام كان ديكارت يشير عندما كتب عن «المسائل التي يشيع نقاشها بين المثقفين»؟ من المعلوم أنه في أغسطس عام 1624، تجمع أكثر من ألف نسمة في قاعة كبيرة في باريس للاستماع إلى دحض عام من أربع عشرة أطروحة ضد أرسطو ، لكن تم حظر النقاش بموجب مرسوم رسمي. ولاحقا نزولا على طلب السوربون، فرض حظر على تدريس أية قضية تنتقد العلماء المثقفين القدامى. وتصاعدت نبرة النقد الموجه إلى أرسطو، والمحتوى التعليمي بأكمله الذي تلقاه ديكارت وغيره من عامة الفرنسيين المتعلمين في عشرينيات القرن السابع عشر. وفي باريس، وجد هذا النقد ترحابا من شعب شهيته مفتوحة على كل ما هو شاذ وخليع في الأدب، وربما على الأفكار الثورية أيا كان نوعها في الفلسفة واللاهوت. دارت رحى محاكمة طويلة لأبرز الشعراء الساخرين في تلك الفترة، ويدعى تيوفيل دي ڤيو، بينما كان ديكارت في إيطاليا، وظلت عالقة بأذهان الناس في عام 1626 عندما انتقل إلى فرنسا. لقد جعلت المحاكمة من الشاعر بطلا شعبيا، وربما خلفت مجموعة كبيرة من أنصار الفنون الفاضحة والمتحررة، والنزعة التجديدية في الفلسفة.
وأيا كان الموقف الذي تبناه على الملأ، لم يستطع ديكارت أن يتجاهل الانتقادات الموجهة لأنصار الفكر المدرسي، أو يتجاهل الأثر المتنامي للأفكار الإلحادية بين معاصريه المثقفين. وكان ديكارت نفسه غير مهتم بالتعليم المدرسي. وربطت بينه وبين عدد كبير من رجال الكنيسة الكاثوليكية علاقة صداقة، ممن كانوا يتوقون لجعل الإيمان بالله موقرا فكريا، ومن بين هؤلاء مارين ميرسين، وهو راهب كاثوليكي ينتمي لأخوية مينيم، ويكبر ديكارت قليلا، وتصادفت أيام دراسته في لافليش مع أيام دراسة ديكارت هنالك. وفي الفترة بين عامي 1624 و1625، نشر ميرسين مجادلات له بحجم الكتب العادية ضد الكفر والإلحاد «الإباحي» من ناحية، والشك الفلسفي في إمكانية العلم من ناحية أخرى. وجاء الكتاب الأول الموجه ضد الإباحيين كردة فعل ضد الدعم الشعبي الواسع لتيوفيل أثناء محاكمته. أما المؤلف الديني المناوئ للشك؛ فقد حاول أن يفت في عضد نوع واحد محدد من النقد الموجه للتعليم المدرسي، والذي يفيد بأن الفيزياء والمنطق والرياضيات التي يتم تدرسيها في المدارس عقيمة؛ لأن العلم نفسه - ويراد المعرفة الثابتة المنتظمة - تتجاوز قدرات البشر. ورد ميرسين على هذا النقد ببيان أن الرياضيات، على أية حال، تقع ضمن نطاق قدرات البشر، وهي بذلك تستحق أن تسمى «علما». وكما سيتضح لنا ، فقد كرس ديكارت أفضل مؤلف له على الإطلاق، وهو بعنوان «تأملات في الفلسفة الأولى»، للموضوعات التي ناقشها ميرسين في مجادلاته، لكن هذا كان في مرحلة لاحقة جدا.
خلال الفترة التي عاشها ديكارت في باريس، لا بد أنه كان على دراية بالجدل الدائر حول الإلحاد ومذهب الشك، ولكن الأرجح أنه لم يشارك في أي نقاشات متعلقة بالأمر. ولاحقا، وتحديدا بعد أن غادر باريس، حرص ميرسين على إطلاع ديكارت على التطورات الجديدة في النقاشات الدائرة، خاصة فيما يتعلق بمذهب الشك. بداية من أواخر عشرينيات القرن السابع عشر، لعب ميرسين دور مراسل ديكارت الأساسي، إضافة إلى أدوار المروج والباحث والوكيل الأدبي والسكرتير الاجتماعي والمساعد العلمي المؤقت له. ولعل ميرسين ساعده أيضا في التعرف على العلماء والرياضيين المحليين خلال الفترة التي أمضاها في باريس. ولقد أقام ديكارت صداقات أيضا إبان تلك الفترة برجال آخرين من الكنيسة، ولا شك أنه تأثر بهم. وساعد جيوم جيبيوف، العضو بالجمعية الدينية الفرنسية التابعة للكنيسة الكاثوليكية والتي تأسست آنذاك في باريس، على تشكيل بعض آراء ديكارت عن البشر والإرادة الإلهية. وبتدخل من بيير بيرول، الكاردينال المؤسس للجمعية الدينية الجديدة، قطع ديكارت على نفسه عهدا أن يكرس حياته لتصحيح مسار الفلسفة.
وجاء تدخل بيرول استجابة لخطبة مبهرة ألقاها ديكارت عندما دعي لعرض آرائه عن محاضرة انتقدت فيها الفلسفة المدرسية. ألقى كيميائي، يدعى شاندو، هذه المحاضرة على جمهور تضمن ديكارت وبيرول بمقر السفير البابوي في باريس، ربما في خريف عام 1627. وتحدث شاندو بأسلوب مقنع، وحصل على استحسان الجميع فيما خلا ديكارت. ودعا بيرول ديكارت للرد، فجاء رد ديكارت في خطبة بديعة جدا لدرجة أنه استمال الجميع إلى وجهة نظره الشخصية. وبينما اتفق ديكارت مع شاندو على أن الحاجة تستدعي وجود ما يحل محل الفلسفة المدرسية، حاجج ديكارت بأن أي شيء يحل محلها يجب أن يسترشد بمنهج للاستدلال قادر على أن يفضي إلى اليقين لا الخلوص إلى نتائج محتملة وحسب. ومن الواضح أن ديكارت بين المنهج المأمول؛ فعندما استرجع خطابه في رسالة كتبها عام 1631، ذكر شخصا كان حاضرا، ويدعى إتيان دو فليبريسو، قائلا: «لقد شهدت ... نتيجتين من نتائج قاعدة المنهج الطبيعي الرصينة التي وضعتها في النقاش الذي أجبرت على خوضه في حضور ... هذا الجمع من المثقفين والمتعلمين بمقر السفير الباباوي» (1 : 212). ولعل استعراض ديكارت في خطابه هذا هو الذي أشاع أنه اكتشف أسسا جديدة للفلسفة.
بعد محاضرة شاندو بفترة وجيزة، التقى بيرول ديكارت على انفراد، وتأكد من أنه سيكرس نفسه لإصلاح الفلسفة استنادا إلى المنهج الجديد. ووفى ديكارت بالعهد الذي قطعه بأن عمل على مؤلفه «قواعد لتوجيه الفكر». لقد كانت مهمة وصف منهجه وتطبيقه خارج نطاق الرياضيات على أية حال ضمن أجندة أعماله لفترة طويلة؛ ولذلك لم يكن ديكارت يكرس نفسه لمشروع جديد بقدر ما كان يقرر أخيرا تنفيذ خطة مؤجلة منذ فترة طويلة. ومع ذلك، فقد قام ديكارت بشيء يؤهله للقيام بمهمته الجادة. خلال شتاء 1627-1628، قصد معتزلا خاصا تاركا الدوائر الباريسية المسايرة للموضة التي كان يستمتع بالعيش فيها كلما تحرر من انشغاله بمشروعاته العلمية. وافقت تلك الفترة بداية حقبة من الاعتزال بدأت فعليا برحيله إلى هولندا من باريس في خريف عام 1628.
Bilinmeyen sayfa
الفصل السابع
كتاب «العالم» ونظرية ديكارت الفيزيائية
سريعا بعد أن رجع ديكارت إلى الدولة التي شهدت أول شرارة فكرية له عام 1618، ربما شعر بثقل توقعات الآخرين لما ستسفر عنه جهوده. لم يكن بيرول وحده الذي انبهر بموهبته، بل هناك كثيرون أيضا غيره في باريس، كانوا حينها بانتظار ما سيتفتق عنه ذهنه. كان ديكارت قد بدأ عمله وألف بعض الأطروحات في باريس دون أن يتمها (قارن: 1 : 135)؛ والآن شرع في تأليف كتاب قصير ظن أنه لن يأخذ منه سوى عدة أشهر.
وأخذ ديكارت احتياطات مكثفة ضد أية مقاطعات؛ حيث عكف على بناء منزله حتى سبتمبر عام 1629 في أقصى شمال هولندا على مقربة من مدينة فرانيكر. وهناك، بحسب ما ورد في خطاب كتبه في نوفمبر 1630 لميرسين (1 : 177)، بدأ «أطروحة صغيرة عن الميتافيزيقا ... شرعت فيها أساسا لإثبات وجود الرب، وأرواحنا عندما تكون منفصلة عن الأجساد، الأمر الذي يترتب عليه خلودها.» وكان مصير الأطروحة الميتافيزيقية الصغيرة مصير الكثير من المؤلفات السابقة له التي لم تستكمل قط. ولفترة من الوقت، وتحديدا في مايو 1630، بدا أن ديكارت كان يبحث فكرة جمع ما ألفه في رد على «كتاب خبيث» ربما كان يدعو للإلحاد، كان ميرسين قد ذكره له في مراسلاته، لكن هذه الخطة أيضا طواها النسيان.
ثمة مشروع آخر شرع فيه ديكارت بعد وصوله إلى هولندا بفترة وجيزة كان سيغنيه عن الحاجة إلى الكتابة لأغراض النشر، لكنه اعتمد على التعاون مع صانع الأدوات البصرية الباريسي جان فيرييه. حاول ديكارت جاهدا أن يغري فيرييه بزيارة هولندا؛ حيث أرسل إليه مواصفات لآلة مثيرة صممها لقطع العدسات التليسكوبية. لو كانت تلك الآلة وعدساتها قد أنتجت، لربما ذاع صيت ديكارت مبكرا، لكن فيرييه لم يقتنع بالانتقال إلى هولندا، وطرحت فكرة تصنيع الآلة جانبا.
كان المشروع الثالث الذي شرع ديكارت فيه أكثر طموحا. فمن أوجه عدة، شغله هذا المشروع حتى الممات. منذ عام 1629، انكب ديكارت على أطروحة واسعة النطاق من شأنها رسم الخطوط العريضة لتفسير موحد للظواهر الطبيعية كافة. ولم تنشر هذه الأطروحة إلا بعد وفاة ديكارت. وكان الجزء الأول منها تحت عنوان «العالم أو كتاب النور»، والجزء الثاني بعنوان «كتاب الإنسان». بينما كان ديكارت على قيد الحياة، كانت النظريات في مجال الفيزياء التي توضع على غرار ما جاء في الجزء الأول من أطروحته الطويلة محظورة بأمر الكنيسة. ولقد أدى قراره بسحب هذا الجزء إلى امتناعه عن استكمال «كتاب الإنسان» أيضا، لكنه لم يتخل قط عن مشروعه الثالث. إن الفترة التي لم يمضها ديكارت من حياته العملية في كتابة أطروحته واسعة النطاق قضاها في التأكد من أنه لا ضرر من نشر نسخة منقحة من الفيزياء التي تحتوي عليها.
وعندما شرع ديكارت في كتابة كتابه «العالم» في عام 1630، لم يظن أنه سيأخذ فترة طويلة لوضع الخطوط العريضة لنظريته الخاصة بالطبيعة؛ فقد خطط لتجهيز الأطروحة وإعدادها للعرض على ميرسين في أوائل عام 1633، لكنه لم يكملها في الوقت المحدد؛ حيث كان لا يزال يعدل فيها في يوليو 1633. والأدهى أنها عندما كانت جاهزة للطبع، سمع ديكارت أن محكمة التفتيش في روما أدانت جاليليو لتدريس (في مؤلفه «حوار حول النظامين الأساسيين للعالم») مبدأ حركة الأرض. احتوت أطروحة «العالم» على «فرضية» عن حركة الأرض لم يكن من السهل تنقيحها دون إفساد بقية الكتاب. وإذ تملكه الخوف من أن يلقى مصير جاليليو، راسل ديكارت ميرسين عام 1634 قائلا ما معناه إنه لن ينشر أطروحته.
أعاد ديكارت الروح لمؤلفه «العالم» بعد ذلك. فالجزء الخامس بأكمله من «مقال عن المنهج» يتناول وصفا لهذا المؤلف وعمله المصاحب له «كتاب الإنسان». وكان ديكارت فيما بعد يعتزم تضمين مادة إضافية من «العالم» في مؤلفه «مبادئ الفلسفة».
يتضح من نسخة النص الأصلي الذي بقي دون مساس ونشر بعد وفاة ديكارت، أنه في كتابه «العالم» امتنع عن تأكيد مبدأ حركة الأرض. ولقد ساعده في ذلك الشكل الأدبي للأطروحة. وكما هو الحال في كتابه «مقال عن المنهج» الذي خرج للنور بعد قراره بعدم نشر أطروحة «العالم» بثلاث سنوات، زعم ديكارت أنه يقص قصة خيالية وحسب؛ قصة عن طبيعة عالم خيالي، ولو أنه كان مطابقا من جميع الأوجه للعالم المادي الحقيقي.
يقدم لنا الفصلان السادس والسابع من كتابه «العالم» وصفا لهذا العالم الخيالي والقوانين التي تحكمه، ويدعو ديكارت قراءه في البداية إلى النظر للعالم كما لو كان من نقطة ما في فضاء أو خلاء خيالي يمتد بعيدا في جميع الاتجاهات، كالمحيط عندما ننظر إليه من نقطة ما فيه بعيدة جدا عن اليابسة. وبعد ذلك، على المرء أن يتخيل الرب وهو يخلق نوعا مجهولا من المادة التي تملأ كل ركن من أركان الفضاء. لقد كانت فكرة العالم الممتلئ عن آخره واضحة جدا في فيزياء ديكارت. وكان ديكارت يعلم أن هذه الفكرة تصطدم بالعلم التقليدي، وتتعارض مع المنطق السليم؛ فقد أدت به، على سبيل المثال، إلى افتراض وجود مادة دقيقة في أي جزء من الفضاء لا تحتوي على شيء مرئي أو محسوس يمكن إدراكه بالحواس. ورغم ذلك، ظن ديكارت أنه من الأسهل تبني فرضية الشكل غير المحسوس للمادة على التأكيد على مبدأ عدم قبول الطبيعة لوجود الفراغ، الذي دعت الحاجة إلى استدعائه لتفسير ظواهر بعينها في حالة رفض فكرة العالم الممتلئ بالكامل. من المفترض أن تشغل المادة كل الفضاء، وأن تكون أجزاؤها في حالة حركة دائمة. والحركة في أي جزء من العالم تعني تبادل أجزاء المادة الأماكن لحظيا في هذا الجزء من العالم. وظن ديكارت أنه في هذه التبادلات اللحظية، تتحرك المادة في شكل دوائر أو حلقات. والفكرة أن الجسم المتحرك لن يدفع كل المواد الأخرى بعيدا، بل سيدفعها فقط بقدر حاجته لملء الفراغ الذي تركته، واستكمال المسار الدائري بداية من موضع الجسم المتحرك الأصلي. في كتابه «العالم»، شبه ديكارت تلك الحركة الدائرية بحركة سمكة تسبح في أعماق بركة: تحل حركة زعنفة السمكة محل المياه المحيطة بها، لا كل المياه الموجودة في البركة. وتملأ المياه المزاحة الفراغ الذي كانت السمكة تخليه باستمرار.
Bilinmeyen sayfa
وذكر ديكارت أن طبيعة المادة في عالمه الخيالي لا بد أن تكون واضحة كليا: فلا يستقيم أن يفترض أن لها أية خصائص أو أية أشكال ليست جلية للعقل البشري. واستنادا إلى هذا، افترض ديكارت أن عالمه الخيالي ليس له صورة:
التراب أو النار أو الهواء أو أي شكل آخر أكثر تحديدا كالخشب أو الحجر أو المعدن. ولنفترض أيضا أنه يفتقر إلى خصائص السخونة أو البرودة أو الجفاف أو الرطوبة، أو الخفة أو الثقل، أو أن يكون له مذاق أو رائحة أو صوت أو لون أو إشعاع أو غير ذلك من الخصائص التي يمكن القول بأن في طبيعتها شيء لا يميزه أحد بوضوح. (11 : 33)
في استثنائه لكل هذه الأشياء، يعتمد ديكارت على حجج يفتتح بها كتابه «العالم»، وهي مصممة بحيث تثبت أن الكثير من الغموض يحيط بالأفكار البديهية حيال الأشكال والخصائص والأفكار المدرسية المرتبطة بها.
بعد أن صرح ديكارت بالسمات أو الأشكال غير الموجودة في طبيعة المادة في عالمه الخيالي ، حدد السمات أو الأشكال الموجودة فيها. فمن «الممكن تقسيمها إلى أكبر عدد ممكن من الأشكال التي يمكننا تخيلها، و... كل من أجزائها قادر على إتيان أكبر عدد من الحركات التي يمكننا تصورها» (11 : 34). يطلب ديكارت من قرائه أن يفترضوا معه أن المادة التي يصفها ليست قادرة وحسب على الانقسام والتمايز، بل وأن الرب هو الذي يقسمها، وأن أي اختلافات يخلقها فيها تتألف من «تنوع الحركات التي يخلعها على أجزائها»؛ أي التنوع من حيث السرعة واتجاه الحركة في الأجزاء.
شكل 7-1: صفحة العنوان لكتاب «العالم»، الذي وضعه ديكارت في الفترة بين عامي 1629 و1633، لكنه لم ينشر حتى عام 1664.
1
ويواصل ديكارت حديثه فيصف «قوانين الطبيعة» الثلاثة التي يجب أن تتصرف المادة بناء عليها، بحيث يكون لها طول وعرض وعمق وأجزاء ذات أشكال محددة، تتحرك بسرعات مختلفة. وينص القانون الأول على أنه ما لم يحدث اصطدام بجزء آخر، فإن كل جزء من أجزاء المادة يظل على شكله وحجمه وحركته، أو خلاف ذلك من السمات التي يتمتع بها أصلا (11 : 38). وينص القانون الثاني على أن جزءا واحدا من المادة يمكن أن يكتسب حركة بفعل الاصطدام بنفس القدر الذي يمكن أن يفقده الجزء المصطدم به (11 : 41). وينص القانون الثالث على أن حركة أي جسم متحرك «تميل» إلى أن تكون مستقيمة، حتى ولو كانت في واقع الأمر دائرية أو منحنية بفعل الاصطدام (11 : 43). وحسب كتاب «العالم»، لا يجب نسبة أية خصائص بخلاف التمدد المكاني والحركة إلى المادة لتفسير الظواهر الملحوظة في عالم الجمادات؛ ولا يجب تحديد أي قوانين أخرى إضافة إلى القوانين الثلاثة الأساسية لوصف الآثار الأكثر عمومية في الطبيعة: ألا وهي انقسام المادة وتشوهها وتراكمها عبر الاصطدام وزيادة الحركة أو نقصانها (قارن: 11 : 47).
ورغم أن ديكارت نسب التمدد والحركة إلى المادة، فالتمدد وحده - المخطط المكاني ثلاثي الأبعاد - كان من المفترض أن يكون محوريا، لكنه لم يقل قط إن المادة يجب أن يكون لها أجزاء متحركة، بل زعم أنه إذا كان للمادة أجزاء متمايزة بالحركة، فلا بد أن نتوقع الآثار الطبيعية التي نلاحظها فعليا. وتحديدا، زعم ديكارت أنه إذا كانت أجزاء المادة الموجودة في فضاء خال من الفراغ تتمايز بتنويعات من الحركة الدائرية (قارن: 11 : 19)، فإن الآثار ستبدو على هيئتها التي نلاحظها بها. ولقد درس ديكارت الظواهر الفلكية، كمسارات الكواكب وسرعاتها، وانتهى إلى أنها تتحرك حركة دائرية على غرار حركة الدوامة في المادة السماوية؛ ولذلك أطيح بالكواكب في دوامة تدور حول الشمس. وإذا اقتربنا أكثر، سنجد أن ثمة دوامة أخرى ألقت بالقمر في مساره حول الأرض. وفسرت حركة دوامة الأرض علة عدم الإطاحة بالأشياء الموجودة على سطح الأرض أثناء دوران الأرض: فالحركة الدوامية ستجعل كل الأشياء الموجودة على السطح تنجذب إلى مركز الدوامة «مركز الأرض». وبالمثل، فبدلا من أن يطاح بالكواكب في الفضاء بفعل حركتها حول الشمس، فهي تنجذب ناحية مركز دوامتها.
لقد كانت هذه الأطروحات عن حركة الكواكب هي التي خشي ديكارت أن تصطدم بمحكمة التفتيش في روما؛ فالمبدأ الوحيد الذي كان مقبولا آنذاك للتدريس من قبل الكنيسة هو الذي ورثه الفلاسفة المدرسيون من أرسطو. وأفاد هذا المبدأ بأن الأرض هي المركز الثابت للقبة الزرقاء. احتوى مؤلفه «العالم» على مزاعم أخرى أيضا لم تكن لترضي المسئولين بالكنيسة الكاثوليكية الرومانية؛ فقد نصت، على سبيل المثال، أنه فور أن خلع الرب على المادة حركاتها الأصلية، لم يتدخل بأي حال من الأحوال في مسار عمل الطبيعة، وسيحافظ على عملياتها بواسطة القوانين الثلاثة للطبيعة وحسب. وبتعبير آخر، لن تكون هناك أية معجزات تعرقل مسار الطبيعة (11 : 48). وأمر كهذا كان من الممكن أن يعطي النقاد سببا كافيا لإدانة صاحبه بالكفر.
كان على ديكارت كي يجعل فيزياءه مقبولة إما أن ينقحها بطريقة ترضي الكنيسة، أو أن يخفي نتائجها، أو أن يقيم المذهب بأسره على مبادئ لا يتسنى لأعتى نقاده الكنسيين معارضتها. في نهاية المطاف، وفي مؤلفيه «تأملات في الفلسفة الأولى» و«مبادئ الفلسفة»، تبنى ديكارت الخيار الثالث. وحاول أن يثبت أن المعرفة العلمية للعالم المادي تعتمد على وجود عقل أو روح متمايزة عن الجسم، عقل أو روح عرفت الرب قبل أن تعي مبادئ الفيزياء السليمة. ولكن بعد فترة قصيرة، لجأ ديكارت إلى التصريح الانتقائي بمحتويات مؤلفه «العالم» وبوصف دال، وإن كان غير كامل، لمنهجه العلمي.
Bilinmeyen sayfa
هوامش
الفصل الثامن
ثلاثة نماذج للمنهج
فور أن استقر رأيه على ألا ينشر أبحاثه الفيزيائية، تعين على ديكارت أن ينحي جانبا «كتاب الإنسان» الذي كان ينوي أن يكون متمما لمؤلفه «العالم». وكان يناقش طبيعة البشر، أو نظراء البشر على كوكب الأرض الخيالي الذي وصفه في أطروحته الفيزيائية. وكانت خطة الكتاب بسيطة؛ خطط ديكارت أن يصف أولا «الجسد [البشري] وحده، ثم الروح وحدها، وأخيرا كيف يمكن أن تمتزج الطبيعتان وتتحدان لتشكيل الإنسان الذي سيشبهنا» (11 : 120).
كانت أجزاء من وصف «الجسد وحده» مستندة إلى أطروحة في علم البصريات عمل عليها ديكارت منذ عام 1630. فقد نفض الغبار عن تلك المادة، وربما توسع فيها؛ فبحلول عام 1635، صاغها في شكل مقال والذي نشر تحت عنوان «مبحث انكسار الضوء». وأعد ديكارت مقالا آخر، خطط له منذ عام 1629، يناقش بين أمور أخرى «أسباب هبوب الرياح ودوي الرعد» و«ألوان قوس قزح» (قارن: 1 : 338 والصفحات التالية). وكان المقال تحت عنوان «الظواهر الطبيعية». اعتزم ديكارت نشر المقالين باعتبارهما نموذجين لمنهجه. وسيقدم «مقال عن المنهج» - المؤلف سالف الذكر والأقرب ما يكون للسير الذاتية - المنهج نفسه وتطبيقاته في المقالين. وبينما كان مقاله «الظواهر الطبيعية» لدى دار النشر، ربما في أواخر عام 1636، كان ديكارت من المفترض أن يكون قد انتهى من تأليف مقاله «الهندسة» كمثال ثالث على المنهج. وكان «مقال عن المنهج» آخر ما كتب ديكارت. وجمعت المؤلفات الأربعة ونشرت في عمل واحد عام 1637.
حل الشكل الأدبي لمؤلف ديكارت «مقال عن المنهج» كثيرا من المشكلات التي حالت بين ديكارت ونشر أعماله في السابق؛ فقد وجد صعوبة في كتابة أعمال ضخمة: ذلل الشكل المختار المزج بين عدد من الأعمال الأقل حجما في ضرب من الألبومات أو الملفات التي تحوي أفضل نتائج ديكارت. لم يكن ديكارت على استعداد للمخاطرة بالإساءة إلى الكنيسة. فقد سمحت له خطة إماطة اللثام عن نماذج متنوعة من أعماله بالترويج لمنهجه دون أن يكشف عن تطبيقاته المثيرة للجدل فيما يتعلق بحركة الكواكب. وأخيرا، علم ديكارت أن المعجبين بأعماله في باريس توقعوا أن يخرج عملا شهدوا لمحات منه في عشرينيات القرن السابع عشر؛ فلم يخيب أملهم بالمقالات التي أنتجها عن البصريات والهندسة وعلم الأرصاد الجوية. تعاون ديكارت مع ميدروج وميرسين في باريس في دراسة انكسار الضوء، ومضى ديكارت قدما محققا نتائج مثمرة في هذا المجال في مقاله «مبحث انكسار الضوء». وورد في هذا المقال أيضا ذكر الآلة المستخدمة في قطع العدسات التليسكوبية، والتي وصفها ديكارت في رسائله إلى فيرييه. وجاء تفصيل المسائل في مجال الهندسة في مقاله «الهندسة»، والتي عرض ديكارت حلولها سرا على ميدروج وهاردي في باريس. وأخيرا، أعلن ديكارت في مقاله «الظواهر الطبيعية» على الملأ فرضيات من الواضح أنه صاغها قبل أن يشرع في وضع كتابه «العالم»، ربما بينما كان في باريس.
ويوضح خطاب بتاريخ فبراير 1637 (1 : 347) أن ميرسين حث ديكارت على نشر أفكاره في الفيزياء مع مؤلفه «مقال عن المنهج» أيضا؛ خشية أن يظل العامة في حالة ترقب للمزيد من أعماله إلى الأبد، لكن ديكارت رفض اقتراحه بلطف؛ فهو لم يقنط من فكرة نشر أفكاره في الفيزياء، لكنه أراد أن يكون المناخ الفكري مواتيا للنشر، وظن أن مؤلفه «مقال عن المنهج» سيساعد على خلق الظروف المناسبة. في رسالة تفسيرية ملحقة بالنسخ التي كان يوزعها سرا، كتب ديكارت أن «الغرض الأساسي» من نشرها هو تمهيد الطريق أمام أبحاثه في الفيزياء.
علام كانت تحتوي المقالات الأخرى؟ تعاطى مقال «مبحث انكسار الضوء» مع موضوعات الضوء والرؤية والسبل الاصطناعية لتحسين قدرات البشر البصرية. وترجع تسمية المقال بهذا الاسم إلى أنه يناقش انكسار الضوء بدلا من انعكاسه («مبحث المرايا»). وقد نوقشت طبيعة الضوء باستفاضة في نهاية كتاب «العالم». وفي «مبحث انكسار الضوء»، شغلت طبيعة الضوء الفصل الأول من الكتاب. والتمس ديكارت تعليقات وأسئلة واعتراضات فيما يتعلق بالمقالات الثلاثة كلها، ولعله عقد الآمال على تلقي طلب لتفسير نظرية الضوء في مؤلفه «مبحث انكسار الضوء»، بحيث تكون لديه ذريعة لإصدار مادة علمية من مؤلفه «العالم»، ردا على طلب التفسير.
ونرى أن الفصل الافتتاحي من «مبحث انكسار الضوء» يكاد يتحرج متى تعلق الأمر بإجلاء طبيعة الضوء: «لست بحاجة إلى التصريح بطبيعته الحقيقية. أعتقد أنه يكفيني استخدام مقارنتين أو ثلاث مقارنات ...» (6 : 83). وشبه ديكارت حركة الضوء عبر أجسام شفافة كالهواء بحركة الأجسام المقاومة على عصا رجل كفيف، وشبه سبب ظهور الألوان بالحركات التي يمكن أن تكتسبها كرة وهي ترتد عن أسطح متباينة الملمس. كانت هذه التشبيهات وسيلة لتغليف تبنيه لشكل من أشكال التفسير التي ترجع جميع المظاهر الحسية إلى التماس بين الأجسام المتحركة. وكانت تشبيهاته في بعض الأحيان غير موفقة؛ فقد ألزمته بالزعم، خطأ، أنه كلما زادت كثافة الوسط الذي يمر عبره شعاع الضوء، كان مروره أسرع. وسارع الفيلسوف الإنجليزي، هوبز، والرياضيان الفرنسيان؛ فيرما وروبرفال، إلى الاعتراض على هذا التلميح في النظرية البصرية لديكارت، وانهالت انتقادات أخرى بخصوص فرضيات أخرى تتعلق بطبيعة الضوء.
ورغم ذلك، كانت التشبيهات الموجودة في بداية مقال ديكارت «مبحث انكسار الضوء» دقيقة بالقدر الكافي لإنتاج صيغة قانون جيب الانكسار، الذي يحدد عامة الطريقة التي ينحرف بها شعاع الضوء بحسب كثافة الوسائط التي يخترقها. (من غير الواضح ما إذا كان ديكارت قد اكتشف هذا القانون من تلقاء نفسه أم اقتبسه من العالم الهولندي، سنيل، الذي ينسب إليه القانون عادة.) تتناول الفصول التالية من هذا المقال خلقة العين، وإدراك المسافات، وأفضل أشكال العدسات وترتيباتها للرؤية بعيدة المدى والميكروسكوبية.
Bilinmeyen sayfa
وينقسم مقاله «الظواهر الطبيعية» إلى عشرة مباحث حول مجموعة متنوعة من الموضوعات: الأجسام الأرضية، والأبخرة والزفير، وطبيعة الملح والرياح والسحاب، وأقواس قزح، والثلج والبرد والعواصف، وغيرها من الظواهر. وبعيدا عن نظريته المتعلقة بقوس قزح؛ فإن مقال «الظواهر الطبيعية» والذي يعد الثاني من المقالات الثلاثة مميز جدا نظرا لبلاغة تفسيراته ووحدته. وفي الفصل الخامس من مؤلفه «العالم»، شرع ديكارت في بناء عالم خيالي من نوع من المادة التي خلع عليها وحسب خصائص الحركة والحجم والشكل والترتيب المحدد لأجزائها (11 : 26). وفي هذا المقال ، اقترح ديكارت تفسير مجموعات محددة من ظواهر أكثر خصوصية على الأساس نفسه. ولم يكن وحده الذي خاض في ذلك؛ فجاليليو ومن بعده بويل ونيوتن عملوا بالكيفية نفسها؛ ولذلك كان «الظواهر الطبيعية» درسا تطبيقيا بين دروس أخرى في التفسير بواسطة المادة والحركة، لكن ديكارت مال إلى اعتبار هذا الشكل من أشكال التفسير خاصا به وحده. وكما وضح في رد له على الاعتراضات الموجهة لهذا المقال من قبل جون-بابتيست مورين، الأستاذ بكلية فرنسا في باريس، قال ديكارت:
لا بد أن نتذكر أنه في تاريخ الفيزياء بأسره، لم يحاول الناس سوى تخيل بعض الأسباب لتفسير الظواهر الطبيعية دون أن تكلل محاولاتهم بالنجاح قط. قارنوا فرضياتي بفرضيات الآخرين، وقارنوا جميع سماتهم الحقيقية وأشكالهم الضخمة وعناصرهم وغير ذلك من فرضياتهم التي لا حصر لها بفرضية واحدة من فرضياتي القائلة بأن جميع الأجسام تتألف من أجزاء ... قارنوا الاستنتاجات التي توصلت إليها من فرضيتي - المتعلقة بالرؤية والملح والرياح والسحاب والثلج والرعد وقوس قزح وما إلى ذلك - بما استنبطه الآخرون من فرضياتهم حول الموضوعات عينها. (2 : 196)
وبذلك زعم ديكارت أنه سيتخلى بشكل منفرد عن الفيزياء المدرسية التي عفى عليها الزمان.
كان الشكل التفسيري الذي نبذه ديكارت يتألف من إرجاع الخصائص الملحوظة للأشياء المنفردة إلى الطبائع أو الأشكال التي تجعل تلك الأشياء تنتمي إلى نوع دون الآخر. والنظرية المستند إليها والمناسبة لهذا الشكل من التفاسير افترضت أن الطبيعة منظمة ومستقرة أساسا، وأن كل نوع من الأشياء يتمتع بضرب ملائم ومميز من السلوك والنمو نظرا لطبيعته؛ ولذلك كان من المناسب أن تسقط الأحجار باتجاه مركز الكون لأن طبيعتها تملي عليها ذلك. ومن طبيعة الأجرام السماوية أن تدور بانتظام وإلى الأبد في مكانها، ومن طبيعة جوزة البلوط أن تنمو لتصبح أشجار بلوط كبيرة. وفيما خلا ما حدث بمحض الصدفة للأشياء الملحوظة، فإن سلوكها يمكن إرجاعه إلى طبيعة أو شكل أساسي مستقر يختلف لكل نوع من الأشياء المميزة بالملاحظة. وإذا تعذر الجمع بين سلوك شيء ما وشكله ، فلا بد أن السبب يرجع إلى المادة التي صنع منها، أو الغرض الذي من المقرر أن يخدمه عندما يصبح نموذجا فريدا من نوعه مكتملا بشكل ملائم. وتعين تفسير الخصائص الملاحظة حديثا للمواد بشكل خاص، وذلك بالرجوع إلى السمات أو الأشكال التي من المفترض أن تتمتع بها هذه المواد بطبيعة الحال. لقد كان هذا هو النوع من التفسير الخاص الذي قوبل بالسخرية في قصة موليير عن الطبيب الذي شرح قدرة الأفيون على تنويم البشر بذكر فائدته الخفية المسببة للنعاس. شرح ديكارت لأحد المراسلين عام 1642 أنه بدون إنكار أو نبذ هذه الأشكال أو السمات في مقاله «الظواهر الطبيعية»، فقد «وجدتها ببساطة غير ضرورية في بيان تفسيراتي» (7 : 491).
شكل 8-1: رسم توضيحي لتفسير ظهور قوس قزح كما ورد في مقال «الظواهر الطبيعية».
كانت «الفرضية الوحيدة» التي استخدمها ديكارت أكثر فاعلية من الفرضيات المدرسية عن الأشكال والسمات بحسب ما بين لنا في «الظواهر الطبيعية». ففي بداية المقال، يشرح ديكارت، بالإشارة إلى شكل وترتيبات أجزاء المادة وحدها، كيف يمكن أن تتشكل الأجسام الصلبة والسائلة. ولشرح انتقال الضوء، يفترض ديكارت وجود نوع من المواد دقيق جدا لا تدركه الحواس، لكنه موزع بين كل الأجزاء الدقيقة أو «المسام» الموجودة لدى كل الأجسام السائلة منها والصلبة. وتنتج هذه المادة حرارة بالتناسب مع وطأة إثارتها بفعل أشعة الشمس. ويستشهد ديكارت بهذا لتفسير علة شعور المرء بدفء خلال النهار أكثر مما يحسه خلال الليل، وعلة إحساس المرء بحرارة أكبر كلما اقترب من خط الاستواء. وتستدعي الفرضيات الأخرى التي طرحها ديكارت هذه المادة الدقيقة المحكمة نفسها. فإثارة المادة الدقيقة في مسام الأجسام، على سبيل المثال، يؤدي إلى انفصال أجزاء من تلك الأجسام وارتقائها في الهواء؛ مما يفسر وجود الأبخرة. يتكون الملح من جسيمات طويلة صلبة لا تتبخر عندما تكون في الماء؛ فهي أثقل وأقل مرونة من أن تظل محمولة جوا. ومن الممكن تحلية مياه البحار إذا تم تمريرها عبر الرمل؛ وذلك لأن جسيمات الرمل تعوق الجسيمات الطويلة الصلبة للملح، بينما تسمح لجسيمات الماء بالمرور. هذه عينة من الظواهر التي يفسرها ديكارت بشكل منهجي في مقاله «الظواهر الطبيعية».
وهذا لا يعني أن كل ما جاء في هذه الأجزاء من الكتاب صحيح. على العكس تماما! إن «حقيقة» أن الماء يتجمد بسرعة أكبر حال غليانه أولا ليست بحقيقة على الإطلاق، وبعض «تفسيرات» ديكارت يسهل تفنيدها بالتجربة. أبلى ديكارت بلاء أفضل عندما ناقش موضوع قوس قزح؛ وذلك لأنه كان في موقف يسمح له باستغلال معرفته بقانون الانكسار لتفسير الشكل الدائري للقوس، وإن لم يفسر ترتيب الألوان وانسجامها.
وعندما وصف الغرض الذي يخدمه كل من مقالاته (9ب:15)، يقول ديكارت إن «مبحث انكسار الضوء» لفت الانتباه إلى فن مفيد - فن صناعة التليسكوب - جعلته علومه ممكنا، بينما كان الهدف من مقال «الظواهر الطبيعية» أن يبين - في سياق الموضوعات التي عادة ما تخضع في مناقشتها للفيزياء المدرسية - حجم الإنجازات الإضافية التي يمكن أن تتحقق باستخدام الفرضيات الجديدة. «أخيرا، في مقال «الهندسة»، كان هدفي بيان أنني اكتشفت أشياء عدة ظلت حتى وقتنا هذا غير معلومة ...» (9ب:15).
ظن ديكارت أن أفضل نتائجه يمكن العثور عليها في ثالث مقالاته؛ فبعض تصحيحاته للرموز الرياضية والمفاهيم السائدة لعمليات التربيع والتكعيب وما إلى ذلك ذكرت بالفعل في مؤلفه «قواعد لتوجيه الفكر». وهناك ابتكار آخر يتمثل في وصف آلة تستخدم لرسم المنحنيات، التي ساد الاعتقاد في الماضي أنه يتعذر وصفها بأساليب هندسية بحتة، ومن ثم أطلق على تلك المنحنيات وصف «الميكانيكية» بدلا من «الهندسية». أثبت ديكارت أن الكثير من الأشكال «الميكانيكية» يمكن في حقيقة الأمر تمثيلها بأشكال هندسية. ووضع ديكارت أيضا نظرية متكاملة الأركان للمعادلات، ولأساليب تمثيل الخطوط والأشكال بواسطة المعادلات. وصارت العلاقة بين نظرية المعادلات لديكارت ونظريات أسلافه مثارا للجدل الطويل بين ديكارت وغيره من الرياضيين.
من المتفق عليه عموما أن ديكارت جعل مقاله «الهندسة»، ومنهجه يبدو أكثر تعقيدا من اللازم؛ فقد كان بمثابة ضمانة ضد سرقة أساليبه، ولكن تعقيده أيضا حال دون تقدير الكثيرين للإصلاحات التي جاء بها. إذا كان ديكارت قد بسط من أسلوبه، لكان قراء «الهندسة» - بلا شك - سيؤمنون بأن ديكارت عبقري في الرياضيات؛ فقد نجح - من بين أمور أخرى - لأول مرة، في حل مسألة أرقت عالم الهندسة القديم بابوس، لكن المنهج العام الذي كان ديكارت يقترحه في الكتاب كان مطمورا ببراعة، فحير كل الرياضيين البارعين بما فيهم الرياضيون الذين اقترحوا في البداية فكرة أن يحاول ديكارت حل مسألة بابوس.
Bilinmeyen sayfa
الفصل التاسع
«منطق» جديد
لم تكن المقالات «مبحث انكسار الضوء» و«الظواهر الطبيعية» و«الهندسة» مستقلة، بل كانت بمثابة إعلان عن منهج جديد للاستدلال في العلوم. آمن ديكارت بأن المنهج سيكون وافيا لإنتاج فيزياء كاملة، لكنه لم يبذل قصارى جهده ليصرح بذلك. وعقد ديكارت الآمال على أن تتجلى إمكانات المنهج من تفسيره العام لها وتطبيقاتها في مقالاته، لكنه كان مغاليا في التفاؤل؛ فقد ثبت أن المقالات مثيرة للجدل، وبدا تفسيره للمنهج لبعض القراء واهنا ومحتويا على افتراضات غير محسومة. وكما سيتضح لنا، في نهاية المطاف رأى ديكارت أن الحاجة تدعوه لملء الفجوات التي تشوب منهجه بمبادئ من الميتافيزيقا.
جاءت معالجة منهج ديكارت في شكل مقدمة للمقالات، وعرفت باسم «مقال عن منهج التصرف العقلي السليم للمرء والبحث عن الحقيقة في العلوم»، واشتهرت بعنوان «مقال عن المنهج». وكان من المقرر أن يحمل هذا العمل عنوانا مختلفا مثيرا بعض الشيء: «خطة لعلم كلي قادر على الارتقاء بطبيعتنا إلى أعلى درجات الكمال». وبعد أن نصح ميرسين ديكارت بأن يسمي كتابه ببساطة «أطروحة عن المنهج»، استقر ديكارت أخيرا على كلمة «مقال» مصرا على أن عمله أقل من أن يكون أطروحة، وأقرب إلى «البيان» أو «الإعلان» البسيط عن المنهج الذي سيرد في المقالات.
كان «البيان» ذا شكل غير تقليدي. وحيث كان الغرض منه الوصول إلى «غير الدارسين»، فقد كتب بالفرنسية بدلا من اللاتينية، وكان في ظاهره سيرة ذاتية، ولكنها لمفكر غير معروف. ونشر «مقال عن المنهج» دون ذكر اسم مؤلفه؛ لذا فإضافة إلى معرفة أن الأحداث الواردة في حياة المؤلف تسرد وكأنها أحداث قصة خيالية، فإن قارئ «مقال عن المنهج » كان يترك لتخميناته بخصوص هوية القاص (وسرعان ما أميط اللثام عن أن مؤلفه هو ديكارت). وغير ذلك الكثير جاء تلميحا لا تصريحا في «مقال عن المنهج»، بما في ذلك، كما اعترف المؤلف نفسه، آليات عمل المنهج الذي يتناوله الكتاب. في رسالة تفسيرية مصاحبة لنسخة أولى من الكتاب قال ديكارت إنه اقترح في كتابه «منهجا عاما لا أبادر بتفسيره بشكل مفصل» (1 : 368).
ولعله كان بانتظار تأليف «قواعد لتوجيه الفكر» أو أطروحة ما تالية لها لكي يورد بيانا شاملا للمنهج؛ ففي «مقال عن المنهج» لم يتجاوز ديكارت ذكر أربعة من مبادئه:
أولا: ألا أقبل أي شيء قط إذا لم يكن لدي معرفة قطعية بحقيقته؛ أي أن أحرص كل الحرص على تفادي التسرع في استنباط النتائج وتفادي المفاهيم المسبقة، وألا أضمن أحكامي على الأشياء أكثر مما يعرض على عقلي بوضوح وتمايز شديدين بما لا يدع مجالا للشك.
ثانيا: أن أقسم كلا من الصعوبات التي أمحص فيها إلى أكبر عدد ممكن من الأجزاء حسبما يستدعي الأمر لحلها بصورة أفضل.
ثالثا: أن أوجه أفكاري بطريقة منظمة، بالبدء بالأشياء الأبسط والأسهل في معرفتها كي أرتقي شيئا فشيئا إلى معرفة الأكثر تعقيدا على الإطلاق، وبافتراض وجود ترتيب ما حتى بين الأشياء التي ليس لها ترتيب طبيعي بحسب أسبقيتها.
وأخيرا: أن أحرص طوال الوقت على أن يكون ما أورده كاملا، ومراجعاتي وافية جدا لدرجة تجعلني متأكدا من عدم إغفال أي شيء مهما كان. (6 : 18-19)
Bilinmeyen sayfa
وتناظر المبادئ الثلاثة الأخيرة بالضبط القواعد الخامسة والسادسة والسابعة في مؤلفه «قواعد لتوجيه الفكر» السابق مناقشتها من قبل. فنجد التأكيد نفسه على تحويل المسائل إلى مكونات، وأولوية «البسيط»، وعلى المراجعات الشاملة للبيانات ذات الصلة.
ماذا عن أولى القواعد الأربعة؟ تذكرنا هذه القاعدة أيضا بمؤلف ديكارت «قواعد لتوجيه الفكر» الذي تنص ثاني قاعدة فيه على أنه أثناء البحث «ينبغي أن نعنى فقط بالأشياء التي من الواضح أن عقولنا تدركها إدراكا أكيدا لا يداخله الشك» (10 : 362). عرف ديكارت في «قواعد لتوجيه الفكر» «الأشياء» بأنها الأرقام والأشكال الحسابية والهندسة والبراهين المرتبطة بها (10 : 364-365)، ولكن في مؤلفه «مقال عن المنهج» تبدو حتى براهين الرياضيات أنها من ضمن الأشياء التي يمكن أن تكون محل شك (6 : 32). ويطرح ذلك سؤالا عما إذا كان ديكارت يعمل وفقا لمعيار جديد لما هو جلي وغير مشكوك فيه عندما ذكر المبدأ الأول لمنهجه في «مقال عن المنهج». ألم يعد يظن أنه عندما شرع الناس في تأمل المسائل الرياضية كان نصب أعينهم أكثر الأشياء وضوحا وأدناها ريبة؟ من الواضح أنه ظل يعتبر الرياضيات واضحة ولا يداخلها الشك، لكنه ظن أن اليقين الرياضي لا يمكن إدراكه إدراكا صحيحا إلا في ضوء الحقائق المتعلقة بالرب والروح. لم ينكر «مقال عن المنهج» أن الرياضيات واضحة أو حتى واضحة جدا؛ بل أوحى بأن الأشياء الميتافيزيقية ما زالت أكثر وضوحا. بالنظر إليها في سياقها إذن، سنجد أن القاعدة الأولى في «مقال عن المنهج» تنحرف فعلا عن «قواعد لتوجيه الفكر»، وتسلم تسليما بمفهوم منقح لما هو واضح ولا يداخله الشك.
لقد أعلن عن المبادئ الأربعة للمنهج بشيء من الترويج في مؤلف ديكارت «مقال عن المنهج»؛ ففي البداية يعرضها ديكارت باعتبارها تجسيدا «لمنطق» جديد كليا يجب القياس المنطقي الأرسطي (6 : 17)، وبعدها يبارك لنفسه استبدال المنطق القديم بمجموعة موجزة جدا من القواعد. وكما رأينا بالفعل، فقد ثبت أن هذا الإيجاز في حد ذاته محرجا لديكارت؛ حيث ألقى بظلال الشك على زعم ديكارت برسم الخطوط العريضة لمنهج متكامل، ومصدر تباهيه الآخر يطرح مشكلات أخرى.
ماذا كان يعني ديكارت إذ زعم بأن منهجه يشكل «منطقا» جديدا؟ إنه يعني على الأقل أنه إذا لم يستنبط أحد أية نتائج في بحثه سوى التي تجيزه مبادئ ديكارت، فإن هذه النتائج يمكن إثباتها والتدليل على صحتها حقا. شكلت المبادئ منطقا جديدا؛ لأن ديكارت - على النقيض من نظرية البرهان الأرسطية - لم يربط قطعية مسألة استدلالية بالعلاقات بين المقدمات والنتيجة - تأليف المقدمات والنتيجة من التجميعات الصحيحة من الموضوعات والمحمولات - بل بأثر القضايا التي تعرض على العقل الذي تمرس بالقدر الكافي الذي يضمن الوصول إلى مستويات مثالية من الانتباه والمصادقة المنضبطة. إن استحداث المعايير النفسية للقطعية والحقيقة في المنطق ينظر إليه الآن غالبا باعتباره خطوة انتكاسية. ولكن ثمة مشكلة تتمثل فيما إذا كانت البراهين الواردة في المقالات يمكن أن تعتبر قطعية استنادا إلى معايير المنطق الجديد.
وردت تلك المسألة في مراسلات ديكارت؛ فقد سأله ميرسين عما إذا كان يعتبر ما كتبه عن الانكسار برهانا، فأجابه ديكارت قائلا:
أعتقد أنه كذلك، طالما يمكن تقديم برهان في هذا المجال دون إثبات سابق لمبادئ الفيزياء بواسطة الميتافيزيقا - وهذا شيء آمل أن أقوم به يوما ما لكنني لم أنجزه بعد - وطالما أنه بالإمكان برهنة حل أية مسألة في مجال الميكانيكا أو البصريات أو الفلك أو أي مجال آخر بخلاف الهندسة أو الرياضيات البحتة، ولكن طلب البراهين الهندسية في مجال يقع ضمن نطاق الفيزياء ضرب من المستحيلات. (2 : 134)
حقيقة الأمر أن «مقال عن المنهج» نفسه هو الذي يوحي بتوقع وجود براهين في مجال الفيزياء شبيهة بالبراهين الهندسية؛ وذلك لأنه يتناول احتمالية أن «كل الأشياء التي تقع ضمن نطاق المعرفة البشرية مترابطة بعضها ببعض بالطريقة نفسها» التي «تترابط بها تلك السلاسل الطويلة المكونة من كل الاستدلالات البسيطة والسهلة التي يستخدمها علماء الهندسة عادة» (6 : 19).
في الخطابات التي ترجع إلى الفترة التالية لنشر «مقال عن المنهج»، يقول ديكارت إن هناك أكثر من نوع واحد من الأدلة أو البراهين في العلوم، وإنه في مؤلفيه «مبحث انكسار الضوء» و«الظواهر الطبيعية» كان بصدد تجربة البرهان الذي يمكن فيه إثبات الفرضيات نفسها أو برهنتها بموجب قوتها التفسيرية (قارن: 1 : 558 و2 : 196). من المنطقي جدا الزعم بأن الفرضيات يمكن «إثباتها» أو «برهنتها» بهذه الطريقة طالما أن المرء لا ينشغل أكثر من اللازم بمسمى الإثبات أو البرهان، لكن ديكارت وضع منطقا جديدا؛ نظرية تدعي تحديدا لا بطريقة بحتة ما يعتد به كبرهان، وليس من الواضح أن مبادئها تترك مجالا لهذا النوع من البرهان «التجريبي».
على المرء، لكي يقبل الكثير من البراهين الواردة في كتاب «الظواهر الطبيعية»، على سبيل المثال، أن يقبل أن الضوء يتصرف بموجب إثارة نوع دقيق جدا من المادة موزعة في المسام المتناهية الصغر للأجسام، لكن لا شك أنه من غير الواضح أبدا أن هذه المادة الدقيقة موجودة، وأن الأجسام الأرضية لها مسام متناهية الصغر، أو أن الضوء ينتقل بفعل المادة الدقيقة. تملي القاعدة الأولى لمنطق ديكارت على الناس قصر أحكامهم وحسب على كل ما هو واضح وضوح الشمس ولا مجال فيه للشك. ومن الواضح أن هذه القاعدة تبطل البراهين الواردة في مؤلفه «الظواهر الطبيعية» قبل أن تحقق تقدما.
لقد استطاع ديكارت أن يحدد المشكلة التي تواجه منهجه؛ ألا وهي أن الاستدلال الرياضي وحده وحسب هو الذي يمكن أن يعتبر غير قابل للشك. فما إن يعول الاستدلال على الفرضيات المتجاوزة للرياضيات، كما في كتاب «الظواهر الطبيعية» أو «مبحث انكسار الضوء»، حتى يفقد صلابته التي تجعله لا يقبل الجدل. وكما رأينا، فقد كتب ديكارت إلى ميرسين أن شيئا لن يحل هذه المشكلة عدا «إثبات مبادئ الفيزياء بواسطة الميتافيزيقا».
Bilinmeyen sayfa
وكان ديكارت يعني برهانا نظريا. لقد قدمت مقالات ديكارت بالفعل شكلا أدنى من البراهين لمبادئه؛ فالأبحاث في مجالي البصريات وعلم الأرصاد الجوية التي عولت على تلك المبادئ فسرت ببساطة وسلاسة مجموعة كبيرة من الظواهر، لكن هذا كان إنجازا دون ما يصبو إليه ديكارت، طالما أنه على الأقل من المتصور أن ثمة مبادئ أخرى بخلاف مبادئ ديكارت لها أن تقدم لنا تفسيرا لا يقل بساطة وسلاسة لمجموعة الظواهر نفسها؛ ولذلك يستحب وجود محاجة مستقلة لقبول المبادئ.
الفصل العاشر
الحاجة إلى الميتافيزيقا
يرسم الجزء الرابع من «مقال عن المنهج» الخطوط العريضة للمحاجة التي كان الهدف منها تقديم دعم مستقل لفيزياء ديكارت. وفي قلب المحاجة، نجد قضية أن البشر خلق لرب كريم جليل منحنا نسخة من ذكائه. وحشد الرب العقل البشري بعدد من الأفكار «البسيطة» التي يستحيل أن تكون خاطئة، على افتراض خيرية الرب. وتتضمن هذه الأفكار تلك الضرورية لفهم عام صحيح للمادة؛ أي لفيزياء صحيحة. في الجزء الرابع من «مقال عن المنهج»، يصف ديكارت الاستدلال الذي توصل من خلاله إلى نتيجة أن الرب موجود، وأنه كامل، ومن ثم فإنه لا يخدعنا. ويبدأ استدلال ديكارت باكتشاف علاقة حتمية بين تفكيره ووجوده، وينتقل بعد ذلك إلى الموضوعية الضرورية لفكرة الرب، ويخلص أخيرا إلى نتائج حول القدرات الفكرية للكائنات التي تثق بأن الرب الكريم لا يضع أفكارا بسيطة مضللة في عقولها.
لم يرض ديكارت عن الطريقة التي صور بها الاستدلال الميتافيزيقي في «مقال عن المنهج». وكما فسر في عدد من مراسلاته (قارن: 1 : 347 و558)، فإن عمله أنجز في عجالة. وكان الجزء الرابع من «مقال عن المنهج» قيد التأليف بعد طباعة الأجزاء السالفة له واثنتين من المقالات، وكان ديكارت واقعا تحت ضغوط من ناشره لتسليم الأوراق النهائية. ومن مصادر الغموض أيضا في الجزء الرابع، على حد قول ديكارت، تردده الشديد في توظيف حجج بعينها ظنها ضرورية لتأهيل العقل لاستقبال الحقائق الميتافيزيقية. كتب ديكارت مخاطبا فاتييه في رسالة بتاريخ 22 فبراير 1638:
لم أجرؤ على الخوض في تفاصيل حجج المشككين، ولا على التصريح بكل ما هو ضروري «لعزل العقل عن الحواس»؛ فلا يستقيم أن يعرف يقين ودليل محاجتي على وجود الرب بحق دون استدعاء الحجج التي تعرض الشك في جميع معارفنا عن الأشياء المادية، ولم تبد تلك الأفكار مناسبة لتضمينها في كتاب أردت أن يكون مفهوما حتى للنساء، مع اشتماله في الوقت نفسه على مادة فكرية لأفضل العقول وأكثرها نبوغا. (1 : 558)
لكن أمرا ما أكثر من خوفه من أن يعرض قراؤه لمثل هذه الأفكار هو الذي منعه من المضي قدما في عرض الحجج الضرورية: فلم يرد ديكارت أن يوصم بأنه من الفلاسفة المتشككين. ففي الجزء الرابع، اكتفى بإيضاح فكرة أن اليقين بوجود الرب أكبر من اليقين بوجود الأشياء المادية، فهو لم يشأ أن ينكر أنه يمكن أن يكون لدينا علم للمادة. لكن تفسير كل هذا يتطلب أكثر من أسطر قليلة مطبوعة. في «مقال عن المنهج»، اضطر ديكارت إلى أن يكتفي بنسخة مضغوطة وغير مرضية لما كان يلزم التصريح به.
وربما من المدهش، في ظل المحتوى الميتافيزيقي الضئيل لمؤلفه «مقال عن المنهج»، أن أحد قرائه - وكان عالما هاويا ومشرفا على أعمال التحصين في أقاليم فرنسية يعرف باسم بيير بيتي - قد خرج بمجموعة كبيرة من الاعتراضات على الجزء الرابع؛ فقد كان له رأي آخر بخصوص فرضية ديكارت بأن كل إنسان لديه فكرة عن الرب، وشكك في أن المعرفة بوجود الرب ضرورية لمعرفة أي شيء آخر. وأشار بيتي إلى أن أكثر الملاحدة تطرفا أحاطوا علما بوجود الأرض والشمس والكثير من الأشياء غيرهما. كان ديكارت يزدري بشكل علني اعتراضات بيتي، ولم يجشم نفسه عناء الرد عليها، لكنه لم ينس تلك الاعتراضات قط، ونجد أن ثمة إشارة ضمنية إليها في مقدمة مؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى» (7 : 8). ولاحقا، انهال عليه نقاد آخرون بالنقد بخصوص مسألة الملحد واسع الاطلاع.
لو كانت المقالات قد لاقت استحسانا كليا، لما كانت الضرورة لتستدعي أن يحسن ديكارت الجزء الرابع من «مقال عن المنهج». فقد كان الغرض منه خلق قاعدة عريضة من محبي فيزيائه التي نشرها في «مقال عن المنهج»، فالقراء الذين ثبت استحسانهم لنظريته عن الانكسار، أو لتفسيره لقوس قزح، سيمثلون بالفعل، ولو جزئيا، أنصارا لأفكاره الواردة في كتاب «العالم»، لكن تبين أن استمالة المؤيدين أصعب من المتوقع، فقد واجهت المقالات، وخاصة «الهندسة» و«مبحث انكسار الضوء»، اعتراضات كبيرة عجز ديكارت عن الرد عليها بشكل قاطع وحاسم. وطوال عام 1638، أي إثر نشر المقالات بعام، كان ديكارت منشغلا جدا بالجدليات الرياضية والعلمية التي تمخضت عنها.
وفي تلك الأثناء، نأى عنه علماء اللاهوت الذين عقد ديكارت الآمال على أن يدعموا مؤلفه «مقال عن المنهج» ومقالاته الأخرى. ولقد أرسل عددا من النسخ الأولى إلى اليسوعيين في لافليش دون أن تثمر هذه المبادرة عن أية نتائج. وكتب مدرس من لافليش إلى ديكارت أنه يجب أن يكون أكثر وضوحا حيال مبادئه الميتافيزيقية قبل أن يتوقع أية تعليقات أو اعتراضات. وقبلت النسخ التي أرسلت إلى أقطاب الكنيسة في روما شريطة ألا تدرس تلك المقالات مسألة حركة الأرض. وذاع خبر تأييد ديكارت للموضوعات المحظور تدريسها في روما رغم تكتمه على مؤلفه «العالم»، وصارت الحاجة إلى وجود أطروحة تثبت توافق فيزياء ديكارت مع الأركان الرئيسية التي تقوم عليها العقيدة الكاثوليكية، صارت أكثر إلحاحا لهذا السبب وحده.
Bilinmeyen sayfa