Osmanlı Devleti: Anayasa Öncesi ve Sonrası
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
Türler
شهدت تلك الفاجعة الأليمة مشاهدة الرقيب الجازع من أولها إلى آخرها، ولم أكن هنا لأعيد تلك الذكرى المؤلمة أو لأخطئ فيها فريقا دون فريق؛ فكلاهما اغتر وسيق - غير مختار - بإغراء أولئك الفجار، ولكن الباعث على ذكرها رغبة إثبات الأنفة التي كانت تهيج صدور الناقمين على هذا التعصب ومثيريه، ولم يكونوا بالنزر اليسير، ولكن أعلاهم قدحا وأعظمهم جرأة كان هذا المنفي الذي قضى سبع سنين سجينا يقاسي عذاب الموت وهو حي.
شهدته وكنت جاره في فنار باغجه، يطوف مدججا بسلاحه، ينهى عن سفك الدماء، يحيي الليل بين هاتيك الأحياء واعظا منذرا متلطفا متهددا على ما تقتضيه الحال. يسأل من أنس منه خوفا أن يحل ضيفا كريما عليه، يؤمن الخائف ويرعب الخائن؛ فحجب الدماء في كل ذلك الجوار، فلم تهرق فيه نقطة واحدة - وهي سائلة أنهارا في ما سواه - وإذا علمت أن ذلك الجوار بما وليه من فنار باغجه إلى موده وقاضي كوي وأطراف إسكودار؛ يحوي مائتي ألف ساكن تجلى لك مبلغ تلك الهمة الشماء.
فعل كل ذلك وهو يعلم أنه يجري على غير خطة «المابين»، فما راعه ذلك، بل راعه صوت وجدانه.
ولا أنبئك هنا بما كان من إجلال الأهالي من وطنيين وأجانب لهذا الإقدام الخطير، ولا أفصل لك ما توالى عليه من رسائل الشكر الخاصة عن الرقيم العام الذي أمضته النزالة الأوروبية برمتها، وما نشر من مقالات الثناء الضافية في صحف الإفرنج، فتلك أمور يستنتجها كل واقف على تلك الحوادث.
ولكن السر الغريب الذي لا يعلمه الناس أن ذلك كان مبدأ النقمة عليه من رجال «المابين»، وأنه حتى ذلك الحين كان في أعلى مراقي الحظوة، وما انحطت منزلته إلا من ذلك اليوم، فما وسعهم أن يقولوا له: إنك أتيت جريمة القتل بحماية الأنفس من القتل. فما زالوا يحتالون بتوجيه التهم إليه حتى ألقوا به إلى تلك التهلكة التي أدت إلى نفيه وسجنه وتجريده من رتبه وألقابه وأوسمته.
وإنا إذا أسهبنا في وصف تلك الهمة الشماء، فقد أتينا على فرض واجب الأداء بتدوين هذه المأثرة لذلك الشهم الغيور، وأثبتنا أن في السويداء رجالا لا يروعهم الوعيد وإن راع جماهير الناس، وأن روح التعصب الخبيثة لم يخترق إلا صدور الجهلاء العامة. ولو شهدت يومئذ رجال الدولة أنفسهم وهم تحت نير الاستبداد لرأيت الكثيرين منهم على وجدان فؤاد، وإن لم يكونوا على جرأته. ولكنهم فعلوا في سرهم فعل فؤاد على رءوس الأشهاد؛ فكان لهم الفضل في استحياء المئات - إن لم نقل الألوف.
أما الآن وقد انفقأ دمل التعصب ونفث ثمالة سمه، فلا خوف - بإذن الله - من امتلاء ذلك الجراب القتال بعد أن ارتفع الحجاب عن العيون؛ فانكشفت الحقيقة باهرة كالشمس.
وإن السلطة الظالمة وإن ملكت الأموال والرقاب، فإنها ترتد خاسرة عن امتلاك الضمائر، وقد باحت أنفس الخلق قاطبة ما تكنه ضمائرها من الرغبة في التصافي ونبذ التعصب، وجرى معها تيار العلم والحق والقوة، فلا مرد له بعد الآن. وحسبك دليلا على ارتياح النفوس إليه نشوة السرور، بل سكرة الطرب التي هزت البلاد العثمانية وارتجت لها دول الأرض.
ومع هذا فلا يجب أن يحدو بنا هذا الفوز إلى الاستكانة والوقوف؛ حيث نحن مجتزئين بنعرة الفرح، فإن شياطين الفتنة لا تزال بالمرصاد تتحين الفرص لإيغار الصدور؛ حيث لاح لها منزع للعبث والفساد.
ولكن دعاة الإصلاح ناظرون - إن شاء الله - إلى كل ذلك، فسوف يذلل ما بقي من الصعاب، ويمهد ما لا يزال قائما من العقبات.
Bilinmeyen sayfa