Osmanlı Devleti: Anayasa Öncesi ve Sonrası
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
Türler
الحرية ورجال الدولة
خرجت باكرا صباح يوم من أيام سنة 1894 للنزهة في مرسيليا؛ فالتقيت بصديق فرنسي معه رفيق عليه لوائح الكآبة، فاستوقفني صديقي ودعاني لتناول القهوة في إحدى قهوات الكانبير، فجلسنا هنيهة ورفيقه صامت مطرق، حتى إذا شرب قهوته سار في سبيله، فقال صديقي: أراك محدقا بصاحبنا كأنك تستطلع طلع أمره وسبب انقباض صدره. قلت: نعم. قال: هذا مأمور إحدى دوائر الحكومة وهو كاثوليكي ورع في تعبده، رب بيت يعول امرأة وأولادا، ليس بذي ثروة ولا مورد رزق له غير راتبه، وقد ألف الذهاب إلى الكنيسة صباح كل يوم، وإن الله قد ابتلاه برئيس أبغض ما عليه العبادة والمتعبدون؛ فأصبح مضطرا إلى تأدية فرضه فجر يومه، فيذهب ويرجع خلسة؛ لئلا يعلم به رئيسه وأقل ما يناله من ضرره سد سبيل الترقي في وجهه. قلت: أيكون هذا عندكم وأنتم في بلاد تفاخر الدنيا بحريتها؟ قال: وجب أن لا يكون ولكنه كان ولو قليلا.
إذا كان هذا مبلغ محاذرة المأمور في بلاد الحرية، فما عسى أن يكون في بلاد الاستبداد؟
يقول أعداء البلاد: إنها خالية من الرجال الصالحين لتولي الأحكام. ويقول محبوها القانطون عن غير روية: لقد تدنست الأخلاق وساد الفساد وهيهات أن يستقيم المعوج. فقل للأولين والآخرين: كل ذلك لم يكن ولا كان بعضه. ولكن لكلا الزعمين أسبابا زالت يوم إعلان الدستور وقد، حان لنا أن نقول اليوم قول اللورد سولسبري: إن في البلاد العثمانية رجالا وهم لو أطلقوا رجال عظام.
لا ريب أن استبداد الحكومة الغابرة أزاح من وجهها صفوة خالصة من رجال الذكاء والغيرة والاستعداد، وإذا اضطرت إلى استخدام بعضهم ذرا للرماد في أعين الناس طرحتهم في إحدى زوايا الإهمال لا حول لهم ولا قوة، كما طرحت أكرم وسعيدا في زوايا مجلس الشورى حتى تسنى لها إبعاد سعيد إلى اليمن. فهؤلاء وأمثالهم أسبل ذيل التعسف سترا على ما كان يرجى من نفعهم. أما الآن وقد فتحت لهم الأبواب، فسيكون لهم في المستقبل شأن مذكور ومآثر غراء، وهناك فئة أخرى آثرت الاغتراب والفقر وواصلت الجهاد كرضا وصباح الدين وعبيد الله؛ فبذلت لها الأموال فلم تطمعها، وغررت بأعلى الرتب وأسمى الوظائف فلم تغتر، ولم تزل دائبة في سبيلها حتى قيض الله لها هذا الفوز المبين. ومن هذه الفئة الأخيرة زمرة من خيرة النجباء أخذها العياء؛ فوقفت في منتصف الطريق، وبلغ منها الجزع مبلغ اليأس وخدعت بالأماني والوعود، فسقطت في الأحبولة وعادت إلى الأستانة فحيل بينها وبين أمانيها، وغلت أيديها بحبل من مسد، كلطف الله ومراد. ولسوف تحكم بين جميع هذه الفئات ربط التآخي والتعاضد؛ فيكونون عصبة مجتمعة بعد أن كانوا عصابات متفرقة أقيمت بينها الحواجز والسدود.
هؤلاء جميعا لم يكونوا من رجال الدولة على ما يفهمه أرباب السياسة، فلنغادرهم وشأنهم إلى حين، ونقصر البحث على أولئك الذين تولوا الأحكام، وأسندت إليهم المناصب للعهد المنصرم.
ترى الجم الغفير من الناس ينحون باللائمة على جميع رجال الحكومة بلا استثناء، وهو خطأ فاحش؛ فإذا استقريت الأحول وتتبعت مجاري السياسة الداخلية تبين لك أن التبعة كل التبعة في هذا البلاء لا تتجاوز النزر اليسير منهم.
انظر أولا إلى الجيوش التي كانت ملتفة حولهم من جند الجواسيس، ولا تظنن أنها كانت أخف وطأة عليهم منها على سائر الناس. بل إذا أمعنت النظر رأيت الحقيقة بخلاف الظاهر ، وكلما صعد الواحد منهم في سلم الارتقاء زادت الرقابة عليه، ولا يسثنى من ذلك صدر أعظم ووزير خطير، ولا ترعى حرمة شيخ إسلام وعالم كبير، بل كان صغار المأمورين أخف ضيما وأنعم بالا إذ كان يتاح لهم أن يزوروا ويزاروا ويختلفوا إلى المجالس.
وأما أولئك فكانوا سجينين في بيوتهم، توجس منهم الخيفة إذا تجاوزوا الأبواب، وعليهم العيون مبثوثة في المنازل والطرق، لا يعلمون أهم واقفون لهم في الطريق، أم قاعدون بين جلسائهم وندمائهم في بيوتهم، أم جاثمون بين خدمهم في غرف نومهم ومطابخهم. لا يجسر الوزير أن يزور وزيرا ولو كان حبيبا له قبل الوزارة. يمعن الفكرة طويلا قبل أن يفوه بكلمة؛ خوف أن تؤول أو تنقل. تأخذه الهواجس فلا يعلم مصيره مساء يومه، لا يعلم أيخرج عن منصة الأحكام إلى بيته فيلفي الجواسيس قد برزت من خفائها تحمل أوامر تفتيش غرف المكاتب والملابس والمطابخ والشرفات، أو الجنود قد حملت أمر سوقه إلى «المابين» ليستنطق ويهان أو صدرت الإرادة السنية بإيقافه إلى أجل غير مسمى. ولهذا كنت ترى معظم هؤلاء الأمراء الأرقاء على تحفز واستعداد حتى إذا خشوا الغدر بهم، تناولوا حقيبتهم المعدة لمثل هذا اليوم، وطلبوا ملجأ يتقون به شر السعايات. ولا يزال خبر التجاء سعيد باشا الصدر السابق إلى السفارة الإنكليزية يرن في الآذان.
ثم إذا ألفت إلى زعماء الخفية أنفسهم رأيتهم تحت رقابة خفية أخرى يقال في وصفها مثل ما تقدم، وعلى هذه رقابة أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية له، حتى تصل من أكبر كبير إلى أصغر صغير متسلسلة من ولي عهد السلطنة إلى أبناء الأسرة المالكة، إلى الوزراء والعلماء، إلى المشيرين والضباط، إلى الولاة المتصرفين، حتى مرتبي الحروف في المطابع وموزعي رسائل البريد والتلغراف.
Bilinmeyen sayfa