53

على أن «الطبيعة» الإنسانية التي قد نقول إنها أصل العقيدة الدينية، ليست تعني عند هيوم «الغرائز»، فليست العقيدة الدينية بهذا المعنى غريزة من الغرائز الأولية، بدليل أن الغرائز متشابهة دائما عند بني الإنسان جميعا، على حين أن العقيدة الدينية يتغير مضمونها من فريق إلى فريق، ومن عصر إلى عصر؛ بل العقيدة الدينية فرع عن الغرائز، بمعنى أنها تنشأ عنها وإن لم تكن واحدة منها، فهي إذن ثانوية وليست أولية في جبلة الإنسان وفطرته، شأنها في ذلك شأن طائفة من الفضائل الخلقية والسياسية، كالعدالة أو الوفاء بالعهود أو الولاء لولي الأمر وما إلى ذلك، فهذه كلها فضائل متفرعة عن أصول في الطبيعة الإنسانية، وليست في ذاتها أصولا؛ وإنما الأصول التي تفرعت عنها أمثال هذه الاتجاهات في سلوك الإنسان، هي طائفة من عواطف وانفعالات أولية؛ وكما قدمنا لك في الحديث عن تحليل العواطف الأولية (راجع الفصل الثامن) يكون لكل منها طرفان: سبب وهدف؛ فالشيء الذي منه تبدأ العاطفة سيرها يكون سببها، والنهاية التي تنتهي إليها تكون هدفها؛ وكذلك الأمر في العقيدة الدينية التي هي - كما قلنا - مستمدة من العواطف الفطرية؛ فأصل هذه العقيدة هو السبب الذي يستثيرها، وما ذاك السبب إلا آمال الإنسان ومخاوفه الناشئة عن اهتمامه بمجرى حوادث الحياة؛ والآمال والمخاوف التي هي التربة التي تنبت فيها العقيدة الدينية هي وجدانات أولية فطرية في طبيعة الإنسان؛ لكن لا هذه الوجدانات الأولية في ذاتها (الأمل والخوف) ولا مثيراتها (حوادث الحياة) هي ما نسميه بالدين؛ بل لا بد من إضافة الهدف أو طرف النهاية الذي تنصب عليه وترتبط به تلك الوجدانات الأولية، فإن ارتبطت آمالنا ومخاوفنا - مهما يكن الشيء الذي يثيرها - بقوة كونية عقلية غيبية، نشأ عن هذا ما نطلق عليه اسم العقيدة الدينية؛ بعبارة أخرى، يمكن تحليل الشعور الديني إلى مقومات ثلاثة؛ بداية تثير فينا وجدانات من خوف وأمل، ثم هذه الوجدانات نفسها وهي فطرية غير مكتسبة، وأخيرا نهاية تتعلق بها وجدانات الخوف والأمل، على أن تكون هذه النهاية قوة خفية عاقلة؛ وإنه لإجماع بين أفراد البشر جميعا أن تتعلق طبائعهم بتلك القوة الخفية العاقلة التي وإن تكن بذاتها جزءا من فطرة الإنسان إلا أنها متعلق تتعلق به تلك الفطرة.

على أن أفراد البشر وإن أجمعوا على وجود هذه القوة الخفية العاقلة، إلا أنهم يختلفون في طبيعتها وخصائصها باختلاف ثقافاتهم ودرجة علمهم، ومن ثم كانت العقائد الدينية المختلفة، وها هنا يأتي دور «العقل»، فبالعقل نحدد ماذا عسى أن تكون خصائص تلك القوة الخفية العاقلة، أما وجودها فلا شأن للعقل به؛ وعلى هذا الأساس ينكر هيوم موقف الملحد إنكارا تاما، ذلك إذا أريد بالإلحاد الشك العقلي في «وجود» الله؛ لأن «الوجود» الإلهي - كما قلنا - أمر ناشئ عن الوجدانات الفطرية ولا شأن للتفكير العقلي به؛ كل ما يستطيعه العقل هنا هو أن يثبت لله هذه الصفة أو تلك دون أن يمس «وجوده».

وهذه الفكرة الأخيرة هي مدار النقاش في «محاورات في الديانة الطبيعية»

119

فها هنا محاورات تدور بين ثلاثة أشخاص ذوي نزعات مختلفة، هم «ديميا» الذي يمثل رجل اللاهوت في تعصبه وجموده ورفضه أن يخضع موضوع الدين للعقل وتحليلاته، و«كلينثيز» العقلي الذي يركن إلى العقل ويؤمن بقدرته في الوصول إلى الحق ما دام يحصر نفسه في حدود الخبرات البشرية وتأويلها، و«فيلو» المتشكك الذي لا يريد أن يؤمن لا بالدين ولا بالعقل؛ وإن مؤرخي الفلسفة ليختلفون أحيانا فيمن يمثل هيوم من هؤلاء الأشخاص الثلاثة. لكننا نرجح بل نكاد نوقن بأنه يجري آراءه على لسان «كلينثيز» الذي يجعل للعقل حق البحث في خصائص الله، أما وجود الله فحقيقة لا مندوحة للإنسان عن الاعتراف بها بحكم طبيعته.

وتبدأ المحاورة بين المتحاورين الثلاثة: «ديميا» المتدين بإيمان أعمى، و«كلينثيز» المتدين مهتديا بالعقل، و«فيلو» المتشكك؛ تبدأ المحاورة بينهم بالنظر في موقف «فيلو» الذي يثير الشك في قدرة العقل على الوصول إلى أي شيء يقيني كائنا ما كان؛ فالعقل البشري - في رأيه - ضعيف وأعمى ومحدود بحدود هي أضيق الحدود، وهو حتى في شئون الحياة اليومية - ودع عنك شئون العلم - مضطرب الأحكام متناقض النتائج إلى غير حد معلوم؛ وواضح أن هذه الوجهة من النظر إلى العقل قد تؤدي - بالنسبة للدين - إلى إحدى نتيجتين، فإما أن يرتمي الإنسان في أحضان الإيمان الساذج ما دام العقل لا يغني عنه شيئا، وإما أن يرفض الإيمان رفضا تاما ما دام العقل لا يستطيع أن يهديه إلى شيء يطمئن إليه؛ أعني أن التشكك في قدرة العقل قد تحمل بعض الناس على الإيمان الديني الخالص، كما تحمل بعضهم الآخر على الإلحاد الديني الخالص؛ أما الموقف الأول فهو موقف «ديميا» وأما الموقف الثاني فهو موقف «فيلو»؛ وأما «كلينثيز» (ورأيه هو على الأرجح رأي هيوم) فيرى أن موقف الشك الشامل في قدرة العقل مرفوض من أساسه لأنه مستحيل ، فحتى صاحب الشك نفسه تراه يتصرف في شئون حياته بما ينفي عنه الشك في كل شيء كما يدعي؛ فبدل أن نشك في قدرة العقل شكا كاملا شاملا عاما، ينبغي أن نبحث في قدرته في كل موقف جزئي على حدة، وعندئذ سيتبين لنا أنه إن كان عاجزا في بعض المواقف، فهو قادر في بعضها الآخر.

والموضوع المعروض الآن أمام المتحاورين الثلاثة ليس هو وجود الله - لأنهم جميعا متفقون على وجوده - بل هو مدى ما يعلمه الإنسان عن طبيعة الله وخصائصه؛ وها هنا يتفق «ديميا» و«فيلو» معا على أن الإنسان يستحيل عليه أن يعرف عن تلك الطبيعة الإلهية شيئا مستعينا بعقله وحده؛ ولكن «كلينثيز» لا يوافقهما على ذلك، ويقول إن الإنسان في وسعه - مستعينا بعقله - أن يقيس طبيعة الله على طبيعة الإنسان لما بين الطبيعتين من تشابه؛ فالعالم كما تشهده أبصارنا دال على أنه يسير على خطة مرسومة، وهو في هذا شبيه بآلة يصممها الإنسان ويرسم لها طريق سيرها، فيعد أجزاءها بحيث يلائم بعضها بعضا لتتعاون على أداء ما أريد منها أن تؤديه، وإذن فما دامت صنعة الله شبيهة بصنعة الإنسان من حيث توافق الأجزاء والسير إلى غاية منشودة، فمن المعقول أن نهتدي على أساس التشابه والتماثل إلى خصائص الله مستنتجة من خصائص الإنسان، وعندئذ يكون الفرق بين الجانبين في الكم وحده لا في الكيف.

هنا يلتفت المتحاورون إلى هذا النوع من الاستدلال القائم على التمثيل: هل يجوز أو لا يجوز؛ وبالتالي هل يجوز أن نحكم على الله بما نحكم به على الإنسان؟ ويحاول «فيلو» المتشكك أن يهدم حجة «كلينثيز» هذه في تصوير العالم على غرار الآلة يصنعها الإنسان؛ فلماذا لا يكون العالم - مثلا - شبيها بالكائن العضوي في تكامل أعضائه وفي نمائه؟ لماذا لا يكون العالم أشبه بالشجرة في تكوينها منه بالآلة؟ وإذا كان في العالم نظام ملحوظ، فماذا يبرر أن ننسب هذا النظام لكائن أسمى ولا ننسبه لطبيعة المادة نفسها؟

هكذا يظل الحوار قائما حول إمكان معرفة الإنسان لطبيعة الله ، ويخرج «ديميا» المتدين المؤمن من النقاش، ويبقى الآخران «فيلو» و«كلينثيز» كل منهما يحد من إسراف الآخر في وجهة نظره حتى ينتهيا إلى الاعتراف الذي يلخص الموقف كله، وهو أن مبادئ «فيلو» المتشكك أرجح صوابا من مبادئ «ديميا» المؤمن، على أن مبادئ «كلينثيز» أشد رجحانا في صوابها من مبادئ زميليه معا، فبالعقل - كما يقول كلينثيز - يمكن أن نهتدي إلى خصائص الله وصفاته.

120 (11-2) المعجزات

Bilinmeyen sayfa