27
الحق أنه لا معنى لقولنا إن انطباعاتنا الحسية «تخدعنا» أحيانا حين تحملنا على الاعتقاد بأنها تصور أشياء خارجية مع أنها لا تصور شيئا، لا معنى لقولنا هذا، لأن الانطباعات - عند الوعي - على درجة سواء من حيث يقين الإدراك، فلا فرق عند الإنسان المدرك بين انطباع وآخر من حيث إدراكه له ويقينه بأنه هناك في وعيه؛ فها هنا لا تكون تفرقة بين ما هو وهم وما هو حقيقي، لأن كليهما انطباع حاضر في الذات الواعية؛ وإذن فما مصدر الخطأ حين نتوهم أن إدراكنا الحسي يمثل شيئا خارجيا عندما لا يكون كذلك؟ ما مصدر الخطأ إذا كانت الانطباعات الحسية في ذاتها لا تخطئ ولا تخدع؟
ليست هي الحواس - إذن - التي تحملنا على الاعتقاد بأن الشيء الذي نحس انطباعه عليها يتصف وجوده بالاستمرار، كما يتصف باستقلاله عنا؛ لأنه إذا كانت الحواس هي نفسها الدالة على أن الصورة التي تقدمها إلينا إنما هي صورة لأصل خارج عنها، لوجب أن تقدم لنا الأصل وصورته معا، لكنها بداهة لا تفعل.
28
كلا ولا هو «العقل» الذي يحملنا على الاعتقاد بأن الانطباع الحسي الذي يطبع حاسة من حواسنا إن هو إلا صورة لأصل خارج عنا؛ لأنه لو كان العقل هو وسيلة ذلك الاعتقاد للزم أن تكون النتيجة مستمدة من المقدمة؛ لكن الانطباع الحسي باعتباره هو المقدمة التي سنستدل منها، لا يحمل في طيه أبدا ما يلزمنا باستنتاج نتيجة تقول إن وراء هذا الانطباع أصلا مستقلا خارجا عنا؛ وحتى على فرض أن الفلاسفة قد استطاعوا أن يقيموا الحجة على أن الانطباع الحسي يلزم عنه وجود الأصل الذي نشأ عنه ذلك الانطباع، فليست هذه الحجة هي التي تحمل الطفل والساذج بل والكثرة العظمى من الناس - فنحن لا نستثني هنا إلا طائفة الفلاسفة وحدهم - أقول إن هذه الحجة ليست هي التي تحمل هؤلاء جميعا على الاعتقاد بأن انطباعاتهم الحسية صور لأشياء قائمة فعلا ولها وجود مستمر، لا، بل إن هؤلاء جميعا ليدمجون الشيء الخارجي في انطباعه على الحس دمجا لا يسمح حتى بالتفرقة بينهما وجعلهما طرفين: أصل وصورة ... ليس هو «العقل» إذن الذي يحملنا على هذا الاعتقاد، ولكنه «الخيال».
29
ذلك أن الإنسان إذا ما تعود انطباعا معينا يأتيه كلما وجه حاسته وجهة معينة كان أيسر عليه أن يفترض أن هذه الانطباعات المتشابهة التي تعاوده من ذلك المصدر المعين، إنما ترتبط كلها برباط الهوية، أي إنه يفترض أنها في الحقيقة ليست سلسلة انطباعات، كل انطباع منها قائم بذاته مستقل عن سوابقه ولواحقه (كما هي الحال في حقيقة الأمر) بل هي انطباع واحد بذاته يتأثر به كلما وجه حاسته إلى ذلك المصدر؛ مثال ذلك إذا نظرت إلى الشمس أو إلى البحر مرة بعد مرة، فإنني في كل مرة سأتلقى انطباعا حسيا هو في الحقيقة مستقل عن الانطباع الذي تلقيته في لحظة سابقة أو الذي سأتلقاه في لحظة مقبلة لكنني أجد أنه من الأيسر أن أفترض أن هنالك شمسا واحدة وبحرا واحدا، وأن الشمس يأتيني منها انطباع واحد، وأن البحر كذلك يأتيني منه انطباع واحد، بحيث يجوز لي أن أقول إن للشمس وجودا متصلا وكذلك للبحر وجود متصل، لا يتقطع بتقطع إدراكي لهما، فها أنا ذا أفتح عيني للشمس فأراها، ثم أغمضها فلا أراها، لكنها هناك لا تزال في سمائها، لأنني إذا ما عدت ففتحت لها عيني من جديد رأيتها؛ لو أنني اتبعت المنطق العقلي الصارم مع نفسي لقلت إن الانطباع الذي جاءني من الشمس أول مرة هو غير الانطباع الذي جاءني منها في المرة الثانية، ولذلك ففي حدود ما أعلمه من انطباعاتي الحسية هنالك شمسان، ما دام هنالك انطباعان متتابعان، أو هنالك ألف ألف شمس إذا كنت قد تلقيت ألف ألف انطباع من هذا القبيل، ولا يشفع لي أن أقول إنها انطباعات متشابهة كلها؛ لكنني لا ألتزم مع نفسي منطقا صارما هنا، وأدع نفسي للخيال يخيل لي أن هذه الانطباعات كلها هي انطباع واحد، وأنه ما دامت الشمس لا يغير منها أن أفتح عيني أو أغمضها فلا بد أن تكون هنالك شمس واحدة متصلة الوجود، خارجة عني ومستقلة عن إدراكي.
30 (2-2) مبدأ الذاتية
قلنا إن الإنسان إذا ما جاءته سلسلة انطباعات على لحظات من الزمن متتابعة شديدة الشبه بعضها ببعض، فإنه يميل بخياله إلى دمجها بحيث تصبح وكأنها انطباع واحد يدل على شيء واحد؛ فالشمس - مثلا - أراها مرة بعد مرة، وفي كل مرة تطبع عيني بانطباع هو في الحقيقة مستقل عن الانطباع الذي تطبعني به في المرة التالية، لكن الانطباعين يكونان على تشابه شديد، فأدمجهما بحيث أجعلهما وكأنهما انطباع واحد مبعثه شيء واحد في الخارج هو الشمس؛ هذا التوحيد الذي أدمج به ما هو في الحقيقة متعدد، هو الذي يسمى في الفلسفة بمبدأ الهوية أو مبدأ الذاتية.
فلو كان ما أراه انطباعا واحدا في لحظة واحدة، لما كان ثمة داع لهذا المبدأ، لأن المبدأ يقتضي أن تكون هنالك حالتان أو انطباعان على الأقل، يتلو أحدهما الآخر في لحظتين مختلفتين، ثم أقول عن الانطباع الثاني إنه هو هو بعينه الانطباع الأول؛ بعبارة أخرى لو كان هنالك وحدة واحدة لما كانت هنالك «ذاتية» أو «هوية»، لأن الوحدة واحدة بحكم تعريفها، فليس فيها التعدد الذي نحكم على وحداته بأنها تكون فردا، وبالتالي فليس فيها الإشكال الذي يحاول الفلاسفة أن يفسروه بمبدأ الذاتية.
Bilinmeyen sayfa