وإذا كانت طبيعة الفكرة الفردية الواحدة - فكرتي عن زيد من الناس مثلا أو عن مثلث رأيته مرسوما ذات يوم - لا تقتضي بحكم طبيعتها أن تكون ممثلة لغيرها مما يقع معها في نوع واحد، فكيف يحدث أن يجعل الإنسان منها نائبا ينوب عن سائر أفراد النوع في التفكير؟ يقول هيوم في ذلك إننا حين ندرك شبها بين مجموعة أفراد أو مجموعة أشياء، ترانا نطلق عليها اسما واحدا رغم ما بينها من اختلافات في درجة كمها أو كيفها، حتى إذا ما اعتدنا أن نطلق هذا الاسم الواحد على أفراد المجموعة، كان ذكر هذا الاسم بعد ذلك كافيا لاستعادة صورة ذهنية لأحد أفرادها، أو قل لاستعادة «فكرة» واحد من أفرادها - إذ لا فرق بين «الصورة الذهنية لفرد ما» و«فكرتنا عن هذا الفرد» - فهذا الاسم العام قد ارتبط بكل فرد من أفراد المجموعة على السواء، وهو كفيل إذا ما ذكر أن يستثير صورة أي فرد منها، أو يستثير صور أي عدد منها، لكنه في الأعم الأغلب يستثير في أذهاننا صورة فرد واحد، أو قل «فكرة» واحدة من بين عنقود الأفكار، ويكون في ذلك ما يكفي لنفهم معنى الاسم الذي ذكرناه، اذكر - مثلا - كلمة «إنسان» وسيرتسم في ذهنك صورة إنسان معين ببعض تفصيلاته الفردية لينوب عن بقية زملائه، فأين تكون بقية أفكارنا عن بقية أفراد الناس الذين صادفناهم في الحياة؟ إنها موجودة بالقوة، مستعدة أن تثار لو اقتضت الضرورة ذلك؛ نعم قد تكون استثارة جميع الصور الكامنة التي انطبعت في نفسي عن جميع الأفراد مما يتعذر حدوثه أو يستحيل، لكنه يكفينا لكي يكون الاسم العام صالحا للتفاهم أن يرتبط في أنفسنا بعادة التحفز لاستعادة «فكرة» أو بضعة «أفكار» بالقدر الذي يرضي.
19
ذلك لأن ذكر الاسم الكلي إذا ما أثار في عقلي صورة واحدة لفرد واحد من أفراد المجموعة التي أطلقت عليها ذلك الاسم، فقد تشاء المصادفة أن يرد إلى ذهني صورة لفرد لا يحقق الصفات التي أجعلها موضوع تفكيري عندئذ، فها هنا أراني بطبيعتي على استعداد أن أستثير صورة أخرى لفرد آخر. أو صورة ثالثة لفرد ثالث من أفراد المجموعة، لعلني أجد فيه الصفات التي التمستها في الفرد الأول فلم أجدها؛ فافرض مثلا أني ذكرت الاسم «مثلث» فوثب إلى ذهني صورة مثلث متساوي الأضلاع، فلو كانت هذه هي الصورة الوحيدة التي يمكن للفظ «مثلث» أن يثيرها في ذهني، لظننت خطأ أن معنى كلمة «مثلث» هو دائما هذا المثلث الخاص الذي تتساوى أضلاعه وزواياه؛ لكن لا، فسرعان ما تزدحم على عقلي أفكار أخرى لمثلثات أخرى، فترد - مثلا - صورة مثلث متساوي الساقين، وصورة أخرى لمثلث مختلف الأضلاع، كل هذه الصور سرعان ما تتعاقب على ذهني إذا ما ذكرت كلمة «مثلث» فأعلم عندئذ ما معنى الكلمة الصحيح، فلا أقول إن المثلث دائما متساوي الزوايا، أو دائما مختلف الزوايا، بل أعلم أمر المثلث على حقيقته،
20
نعم قد يحدث لأحدنا ألا يجد في خبراته الماضية صورا ذهنية فيها شتى صنوف الأفراد المختلفة، التي تقع تحت اسم كلي واحد، لكن مثل هذا الرجل هو الذي يتعرض للخطأ وللتفكير الناقص لأن الكلمة عنده ستعني مدى أضيق من مداها عند من اتسعت خبراته وعرف إلى أي حد تتنوع أمثلة الأفراد التي نضمها معا في مجموعة واحدة.
صفوة القول في تكوين الكلمات الكلية وطبيعتها، هي أننا إذا ما أردنا أن نطلق واحدة منها على مجموعة أفراد متشابهة من بعض الوجوه، كان علينا أن نستعرض عددا من صنوف هؤلاء الأفراد لنمثل أوجه الخلاف بقدر المستطاع؛ وبعدئذ إذا ما ذكرت تلك الكلمة فربما أثارت فردا واحدا من هذه الأفراد على اختلاف الأفراد فيما بينها، لكننا نكون على استعداد أن نستثير فردا آخر أو أفرادا أخرى من الصور الكامنة، بقدر ما يتطلبه الموقف الذي نكون بصدده؛ على أنه لا ينبغي أن يغيب عنا أبدا أن الفكرة التي يستثيرها اللفظ الكلي هي دائما فكرة جزئية في ذاتها، وإن تكن مستخدمة استخداما يجعلها فكرة عامة بسبب تمثيلها لبقية أفراد مجموعتها؛ إنه لا ينبغي أن يغيب عنا أن الفكرة الواحدة إنما تصبح «كلية» «عامة» «مجردة» لكونها ارتبطت ب «كلمة كلية عامة»؛ الفكرة الواحدة قد تطلق عليها اسم علم تنفرد به فتكون جزئية، وقد تطلق عليها هي نفسها اسما كليا لتستخدمها ممثلة لنوعها فتصبح فكرة كلية.
وقد يسأل سائل: إذا كانت كل فكرة في أذهاننا هي بحكم طبيعتها فكرة جزئية فردية، وأن الكلي المجرد منها لا يكون كذلك إلا بطريقة استعمالها؛ فكيف نفسر عمل العقل حين يجرد جانبا واحدا من فكرة معينة مطرحا سائر الجوانب، كأن يجرد من الكرة استدارتها أو من البرتقالة لونها؟
وجواب هيوم على ذلك هو أنه محال على العقل أن يعزل الاستدارة عن الشيء المستدير، أو اللون عن الشيء الملون؛ محال أن تقوم استدارة وحدها أو أن يقوم لون وحده؛ فإذا ما عرضت أمامي كرة بيضاء مثلا، جاءني انطباع دائري أبيض، بحيث يستحيل علي أن أدرك الاستدارة وحدها دون لونها الأبيض ولا اللون الأبيض وحده دون الاستدارة، لكنني بعد ذلك قد أرى كرة سوداء ومكعبا أبيض ، فأقارنهما بالكرة البيضاء لأدرك موضعين للتشابه في هذه الأشياء الثلاثة، فأرى الكرة البيضاء تشبه السوداء في الاستدارة، ثم أرى الكرة البيضاء تشبه المكعب الأبيض في البياض، فها هنا أبدأ في تمييز الاستدارة من اللون تمييزا عقليا؛ وبعدئذ إذا ما استعدت الكرة البيضاء وحدها فإنني لا يسعني سوى أن أكون عنها فكرة جزئية واحدة يندمج فيها الشكل واللون معا بغير انفصال أحدهما عن الآخر، لكنني في الوقت نفسه أوجه نظري إلى ما بين هذه الفكرة وفكرتي عن الكرة السوداء من شبه، وبهذا أحصل على فكرة الاستدارة؛ وكذلك إذا أردت فكرة اللون الأبيض فلا يسعني سوى أن أستعيد فكرة الكرة البيضاء باستدارتها ولونها معا، لكنني في الوقت نفسه أوجه نظري إلى ما بينها وبين المكعب الأبيض من شبه، وبهذا أحصل على فكرة البياض؛ أما من يطلبون منا أن ننظر إلى الكرة البيضاء وحدها لنجرد الاستدارة عن اللون، فإنما يطلبون منا محالا،
21
لأنه ليس بين الأشياء الحقيقية الواقعة استدارة قائمة بذاتها، وإذن فلا يمكن أن تنطبع حواس الإنسان باستدارة قائمة بذاتها، وبالتالي يستحيل أن تكون هذه الفكرة بين أفكارنا. (1-3) ترابط الأفكار
Bilinmeyen sayfa