İskenderiye Vuruşu
ضرب الإسكندرية في ١١ يوليو
Türler
ويلوح لنا أن الرجل مخلوق من طينة العبقرية التي يمتحن صاحبها بشقوتها كما يمتحن بنعمتها وفضلها، ففي رأي «لمبروزو» وغيره من علماء المدرسة النفسانية التي عنيت بدراسة الممتازين والنوابغ، أن العبقرية تمتزج بالأعراض العصبية، وقد رأى لمبروزو من دراسة نابليون الكبير نفسه أنه مثل لهذه الطبيعة
Epileptoid Nature
ورأى من دراسة القادة والزعماء أن عقولهم تتقبل البدوات والأعاجيب وتولع بالأسرار والخفايا. ومن قصة عرضية وقفنا عليها في خلال أجوبة عرابي على أسئلة المحققين يظهر لنا أنه لم يسلم من ضريبة العبقرية كما فرضتها الفطرة على نظرائه؛ فقد قال عن حادثة تفتيشه بعد القبض عليه: «صار يفتشني حتى أخرج الجزمة من قدمي وفتشها أيضا فلم يجد معي شيئا إلا جملة أحجبة كانت تحت ملابسي، وهي ليست بشيء وإنما كان حملها بسبب أن أولادي كانت تموت بداء التشنج في حال الصغر ولم تجدهم نفعا أدوية الحكماء، ففزعنا - وعلى حسب اعتقاد الناس في التحفظ على الأولاد - بحمل تلك الأحجبة، وبالواقع حفظهم الله بسبب ذلك ...»
على أن العلامة التي لا تخطئ من علامات العبقرية هي «الخصوبة الذهنية» وهي أن يثمر الذهن محصولا وافرا من بذور قليلة. وقد كانت الدروس التي تلقاها «عرابي» في صباه قسطا مشتركا بينه وبين كل صبي من صبيان القرى؛ حضر مبادئ القراءة والحساب وما إليها في الكتاتيب وأروقة الأزهر المعدة للمبتدئين، ولكننا نقرأ أقواله في الحكم النيابي والمبادئ الديمقراطية والحقوق العامة وقواعد الإدارة والنظام، فيتمثل أمامنا حظ وافر من الفهم والمعرفة لا يتهيأ للكثيرين ممن أحاطوا بالمعلومات المستفيضة في هذه الشئون.
ولد هذا الزعيم في عصر يتمخض بالأحداث الجسام - 1841 - وكان مولده بقرية «هرية رزنة» من إقليم الشرقية، وأبوه السيد «محمد عرابي» عالم تقي ينتمي إلى الحسين بن علي رضي الله عنه، ويبذل ماله القليل في عمل الخير ومواساة الفقراء من أبناء قريته. وقد أنشأ لهم مكتبا يتعلمون فيه، كان ابنه «أحمد» من تلاميذه. ثم دخل «أحمد» للجندية خلافا لعادة الوجهاء الذين كانوا يحتالون على الخلاص من التجنيد بما وسعهم من الحيل وهي كثيرة في ذلك الزمن، فانتظم في الجيش جنديا بسيطا وترقى في صفوفه بكفاءته واجتهاده. وكانت تبدو عليه مخايل الزعامة من نشأته الباكرة، فأحاط به رفاقه والتفت إليه رؤساؤه. واتفق في تلك الأيام أن تولى الإمارة «محمد سعيد باشا»، وأنه كان عظيم السخط على كبار الرؤساء؛ لأنهم اشتركوا في اضطهاده أيام ولاية «عباس باشا الأول»، فأعرض عنهم وأقبل على الناشئين من المصريين يشجعهم ويكافئهم بالترقية والعناية، فكان «أحمد عرابي» صاحب النصيب الأول من عنايته، وكان كما تقدم أول مصري وصل في الجيش إلى رتبة «قائم مقام»، وكانت ترقيته إلى رتبة الملازم بالامتحان أمام لجنة من الخبراء العسكريين. ثم تتابعت ترقيته في عهد سعيد وذهب إلى الحبشة في عهد إسماعيل وهو «قائم مقام»، فكانت له في الحرب الحبشية صفحة مشرفة بشهادة الأجانب والحبشان أنفسهم، ولم يرتق إلى الرتبة التي تليها إلا بعد تسع عشرة سنة في أيام الخديو توفيق، وقد ظلت فرقته خالية من رتبة «أميرالاي» ثماني سنوات وهو لا يرقى إليها.
ويعنينا من تاريخه في هذا الكتاب ما يرتبط بعلل الثورة ويساعد على تفسيرها. وخلاصة مواقفه منها أنه زج فيها ولم يكن له محيد عنها، وأن أول ما أخذ عليه أنه تظلم من الحيف فلم يغتفر له هذا التظلم ، وهو أهون ما ينتظر من ذي كرامة لقي ما كان يلقاه هو وزملاؤه، ولم يزل بمرصد للانتقام منذ وقع عليه الظلم فشكاه.
وليس في تاريخه ما يدل على أنه كان يتطوع للشكوى بغير سبب ملجئ إليها، فلما حدثت أول مظاهرة للضباط حول وزارة المالية في وزارة «نوبار باشا»، أقحم خصومه اسمه في الحركة ولم تكن له يد فيها؛ لأنه كان في دمياط وعاد منها ليلة وقوع المظاهرة، وقضى يومها وهو مشغول بتسليم عهدته في مخازن الوزارة.
ولما اعتقل هو وزميلاه «عبد العال حلمي» و«علي فهمي» - أول فبراير سنة 1881 - لم تكن فرقته من الفرق التي هجمت على معسكر قصر النيل لإنقاذهم من الموت المحقق، ولكنه اشترك مع الفرق التي توجهت بعد الإفراج عنهم إلى قصر عابدين لرفع خبر المكيدة المدبرة لهم إلى مقام الأمير.
وقد صدر الأمر بإقصائه عن القطر زمنا، وهو يعلم أن النتيجة المحققة لإخلاء مكانه هي التنكيل بكل من شاركه في طلب الإنصاف، وتشتيت شمل المتظلمين والمتطلعين إلى الإصلاح. فبقي في مكانه ليصيبه ما يصيب زملاؤه ومرءوسيه، أو تكتب لهم السلامة أجمعين.
ولو انحصرت شكايته في مظالم الرتب والوظائف لكان حكم التاريخ عليه وعلى أصحابه أنهم أناس لا يعنيهم من صلاح الحكم إلا زيادة المرتبات والأرزاق، ولكنهم طلبوا إصلاحا لم يكن في مصر كلها من لا يطلبه ولم يحل بينهم وبين تحقيقه إلا هوان شأن المصريين على الأجانب المسلطين عليهم، وأولهم أصحاب الديون.
Bilinmeyen sayfa