İskenderiye Vuruşu
ضرب الإسكندرية في ١١ يوليو
Türler
إن الكظم الذي عاناه أبناء مصر من عسف الامتيازات ليقع في نفوسنا اليوم موقع العجب من طول الصبر وطول الاحتمال. وقد كان الأفاقون يقابلون ذلك الصبر بمزيد من الشطط والمغالاة في الإيذاء؛ كأنهم يستصغرون كل طغيان يقف بهم دون الغاية من التحدي والإذلا. وروي عن بعضهم أنه كان يطلق عنان جواده في الطريق المزدحم، ويلذ له أن ينظر إلى الناس يتطايرون من حوله خوفا وهلعا ولا يقوى أحد منهم على كبح جماحه والوقوف في وجهه! ومن حوادث هذه الرعونة الوحشية حادث الحوذي الأوروبي الذي صدم جنديا فقتله وذهب به رفاقه إلى قصر رأس التين يطلبون من الخديو توفيق أن ينظر إلى هوان جنده على هؤلاء الزعانف من شذاذ الآفاق. فهذا الحادث قد كان من أسباب الثورة المباشرة كما كان مثلا للاستخفاف بالأرواح؛ حيث يظن أن لهذا الاستخفاف حدا يقف عنده على الأقل كرامة للجيش ورعاية للجندية وحسابا للنخوة العسكرية، فإذا هان الاستخفاف في هذا المقام فهو في غيره أهون ما يكون.
قال «لورد كرومر» في تقريره عن سنة 1905: «... الذي أغضب الوطنيين خصوصا أن يونانيا ووطنيا تشاجرا في السابع من ديسمبر على أمر حقير، قيل: إنه مشتري قطعة من الجبن، فاستل اليوناني سكينا وطعن الوطني طعنة كانت القاضية، وفي العاشر من ديسمبر جرت حادثة أخرى أذكرها بالتفصيل لأنها تدل «أولا» على صغر قدر الحوادث التي يمكن أن تفضي إلى عواقب وخيمة في مدينة مختلطة السكان مثل الإسكندرية، وثانيا على طيش كثيرين من رعاع الأجانب وخفتهم في استخدام السلاح: إن أربعة نجارين يونانيين دخلوا مطعما ووقفوا أمام مائدة حولها ثلاثة كراسي فقط، وكان على مقربة منها مائدة أخرى حولها ثلاثة كراسي أيضا، وقد جلس عليها يوناني اسمه قسطندي ووطنيان، ثم نهض أحد الوطنيين وخرج. وكان أحد النجارين الأربعة جالسا على ركبة رفيقه، فتقدم ليتناول الكرسي الخالي فمنعه قسطندي، فتشاجر الفريقان ولكن صاحب المطعم فصل بينهم ورد بعضهم عن بعض. ثم خرج قسطندي وما لبث أن عاد حاملا مسدسا، وكان النجارون قد خرجوا من المطعم في غيابه ودخلوا قهوة بالقرب منه، فتناول قسطندى كرسيا وجلس أمام باب المطعم حتى خرج النجارون من القهوة، فأطلق مسدسه على أحدهم فأخطأه ولكن الرصاصة أصابت وطنيا جالسا في حانوت مجاور وجرحته، فتجمهر الناس وحدثت مخاصمة جرح فيها ثلاثة وعشرون أوروبيا جروحا أكثرها خفيفة. وحضر رجال البوليس فقبضوا على كثيرين، ولم يمض إلا قليل حتى شاع أن يونانيا قتل وطنيا؛ فاجتمع رعاع الوطنيين في أسفل حي من أحياء الإسكندرية وجعلوا يصرخون: اقتلوا النصارى ... فحدثت مشاجرة أخرى وقبض فيها على كثيرين ... وأسرعت المحاكم فأنجزت قضية المشاغبين بالسرعة والدقة بعناية قاض وطني من الأكفاء ... وقد كان عدد الذين ضبطوا منهم 185 نفسا فبرئت ساحة 59 منهم وحكم على الباقين بالحبس من سنة إلى شهر ماعدا ثلاثة غلمان أدبوا بالجلد، ووقع أثقل الأحكام على الذين ثبت أنهم كانوا ينادون: اقتلوا النصارى ... وما شاكل ذلك من العبارات.»
روى اللورد «كرومر» هذه القصة ولم يكلف نفسه بعد مشقة أن يبحث عما أصاب الجناة من العقاب، وقد أطلقوا النار وأثاروا الفتنة لسبب لا يدعو عاقلا إلى التفوه بكلمة نابية، فضلا عن إطلاق النار بعد تربص وانتظار، ولم يكلف نفسه أن يذكر كم أجنبيا قبض عليهم في ذلك الشغب كما قبض على أولئك الوطنيين، ولم يكلف نفسه أن يذكر كم وطنيا أصيب غير ذلك القتيل كما كلف نفسه أن يذكر المصابين من الأجانب وأكثرهم مسلحون، وأكبر الظن - إن لم نقل: أقطع اليقين - أن حكاية «اقتلوا النصارى» هي التهويلة المعهودة التي تضاف دائما إلى الرواية لتسويغ هذا الإجحاف البين في المعاملة، حين يكون الوطنيون هم المصابين.
كتب «جورج بتلر» قنصل الولايات المتحدة إلى وكيل الخارجية الأمريكية في الحادي والثلاثين من شهر يناير سنة 1871، يقول عن أمن الأجانب في مصر: «لم أسمع قط أن وطنيا قتل أجنبيا في مدينة أو تعدى عليه.»
3
و«لورد كرومر» أحجى أن يعلم بعد أربعين سنة من كتابة هذه الشهادة الأجنبية أن تقدم الزمن قد أثبت هذه الحقيقة ولا يزال يزيدها ثبوتا بعد ثبوت، وأن الامتيازات الأجنبية أسيء استعمالها في كل حادث من حوادثها المشهورة قبل الاحتلال البريطاني وبعده بزمن طويل ، وهو الذي قال في كتابه «مصر الحديثة» بعد خروجه من مصر وبعد انقضاء ثلاثين سنة على الاحتلال: «إن هذه العهود - عهود الامتيازات - قد تحولت إلى أغراض خسيسة من أمثلتها أن تحمي جهنم القمار كما تحمي بائع الخمور المغشوشة والمتاجر في السلع المسروقة، والصيدلي الذي يبلغ به التهاون أن يعطي السم القاتل بدلا من الدواء الموصوف ...»
وقد قال «لورد ملنر» من قبله في كتابه عن إنجلترا بمصر: «إن الحركة الوطنية من الطبيعي أن تتجه بالتفاتها واهتمامها إلى المساوئ الشنيعة التي نجمت عن امتيازات الأجانب في الديار المصرية، فإن هذه المساوئ قد أصبحت أداة ينتفع بها شر الطغاة من الأوروبيين وأشباه الأوروبيين من متفرنجي الشرق الأدنى، ولا تزال حتى الآن كما سنرى كثيرا فيها بعد آخر بلاء مسلط على الديار المصرية، ولكنها تجسمت في أخريات عهد إسماعيل حتى بلغت مداها المخيف، وراح الأوروبي قناص الغنيمة وسمسار القروض المرهقة، والإغريقي صاحب الخان ومرتهن الأرزاق، واليهودي أو السوري المرابي ومن إليهم يسهل عليهم الاحتماء بإحدى الدول الأوروبية، يمتصون الخزانة العامة والفلاح والفقير ويقترفون في هذه الجناية ما يستعصى على التصديق ...» •••
ومع هذه الموارد التي استحل منها الأجانب ما يباح وما لا يباح، أعفتهم الامتيازات من الضرائب جميعا فلا يؤدون لخزانة الدولة درهما من ثرواتهم الضخام ولو نيفت على الملايين، ثم سمحت الدول في عهد إسماعيل بالتسوية بين الأجانب والمصريين في أداء ضريبة الأرض؛ لأنها تعلم أن الأجانب يعملون في التجارة والمراباة ولا يعملون إلا قليلا في الزراعة والفلاحة على أنواعها، وحيل بهذا بين المصريين ومنافسة الأجانب في ميادين التجارة؛ لأنهم مثقلون بأنواع من الضرائب أعفي منها الأجانب كل الإعفاء.
صبرت مصر زمنا على هذه الضربات التي لا تطاق، وارتفعت ضجة المصريين بالشكوى منها، تارة إلى الولاة وتارة إلى السلطنة العثمانية على غير جدوى. ثم تنبهت السلطنة العثمانية أخيرا إلى هذه النقمة، فأمرت «سعيد باشا» بالعمل على علاجها والتخفيف منها، وكأنها أحست أن الولاة يبتغون الزلفى إلى الدول الأوروبية بالسماح لها بالتوسع في تطبيق الامتيازات ، وأنهم يحتمون بهذه الزلفى في سلطان الآستانة، فتنبهت إلى الخطر بعد طول الغفلة عنه، وأمرت الوالي بالكف عن مجاراة القناصل في دعواهم، فلم يكترث لأمرها عجزا منه عن تنفيذه أو شعورا منه بالحاجة إلى مجاملة السلطة الأجنبية. ولم تتحرك حكومة مصر لتتدارك الخطر إلا في عهد الخديو إسماعيل بعد أن ثقلت عليه وطأة المغارم والخسائر وامتنع عليه التصرف في أمر من أمور الحكومة دون أن يتعرض للمقاومة والتهديد من قبل هذا القنصل أو ذاك؛ تمحلا لأسباب الشكاية أو المطالبة بالتعويض ولغير سبب معقول في كثير من الأحيان. وطالت المفاوضات بين الحكومة المصرية وحكومات الدول وحكومة الآستانة قبل أن تأذن بتوحيد القضاء وإنشاء المحاكم المختلطة التي كانوا يحسبونها في ذلك الوقت منحة عزيزة، وهي في حقيقتها نكبة من النكبات. ولم يمض على إنشائها غير قليل حتى صدمت الخديو إسماعيل صدمة لم تكن له في حساب؛ فقد كان يعتمد على المفاوضات السياسية بينه وبين أصحاب الديون في الخلاف على المطلوب منه وعلى مواعيد سداده، فلما أنشئت المحاكم المختلطة فصلت دفعة واحدة في قضية مستعجلة يتناول الخلاف فيها عدة ملايين من الجنيهات وألزمته بالنفاذ المؤقت وهدده قضاتها بإغلاق أبوابها ما لم يصدر أمره بتنفيذ الحكم في بضعة أيام.
على أن الدول لم تستجب إلى رجاء مصر في توحيد القضاء؛ رحمة بالمصريين أو حبا للإنصاف ورغبة في الإصلاح، بل استجابت هذا الرجاء في الواقع لأن الأجانب أنفسهم كانوا يشكون من تعدد القضاء بين القنصليات ويشكون من تناقض الأحكام ومحاباة بعض القناصل لرعاياهم في قضاياهم مع الأجانب الآخرين. وقد حدث أن شركة قناة السويس أجرت دارا في بورسعيد لبعض الأجانب فماطلها زمنا في سداد أجرته حتى اضطرت إلى مقاضاته عند قنصله، فنزل عن الإيجار لأجنبي آخر تابع لدولة أخرى، وما زال هذا النزول يتتابع من ساكن إلى ساكن سنوات عدة، وهي تنتقل بالقضية من قنصلية إلى أخرى حتى أنشئت المحاكم المختلطة، فأصبحت حيلة النزول غير صالحة للتأجيل والانتقال بالشكوى من قضاء إلى قضاء.
Bilinmeyen sayfa