Vicdan: Çok Kısa Bir Giriş
الضمير: مقدمة قصيرة جدا
Türler
شكر وتقدير
مقدمة
1 - الضمير المسيحي
2 - علمانية الضمير
3 - ثلاثة نقاد للضمير: دوستويفسكي ونيتشه وفرويد
4 - هل الضمير حق مدني؟
5 - صوت الضمير: هل ما زال مسموعا؟
المراجع
قراءات إضافية
شكر وتقدير
Bilinmeyen sayfa
مقدمة
1 - الضمير المسيحي
2 - علمانية الضمير
3 - ثلاثة نقاد للضمير: دوستويفسكي ونيتشه وفرويد
4 - هل الضمير حق مدني؟
5 - صوت الضمير: هل ما زال مسموعا؟
المراجع
قراءات إضافية
الضمير
الضمير
Bilinmeyen sayfa
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
بول ستروم
ترجمة
سهى الشامي
مراجعة
هبة عبد العزيز غانم
شكر وتقدير
أود أن أتوجه بالشكر إلى كل من روبرت ألتر وأكيل بيلجرامي وكريستوفر برادلي وأندرو كول وكاثرين كوبر ومونيكا كورتون وهولي كروكر وأنتوني دي كيرتس وكارولين دينشو وميكالينا إيفروز وجيس فين وكلير هارمان وبروس كوجوت وليديا ليو ومورا نولان ولورا بيريل وآسيا رو وكاتي بوبكين وميري روبن وجيمس سيمبسون وأبراهام ستول وجون بي ستروم وأرفيند توماس وديفيد والاس على تقديمهم للنصيحة والنقد.
مقدمة
Bilinmeyen sayfa
ظلت ظاهرة الضمير - المتغيرة والراسخة في آن واحد - حاضرة على امتداد عصور وإمبراطوريات ومعتقدات وعقائد، وأثرت في السلوك البشري منذ ألفي عام وأكثر. وقد عرفها الرومان (وأطلقوا عليها اسم «كونشينتيا»)، ثم استأثر بها المسيحيون الأوائل. وتساوى الإصلاحيون البروتستانت والكاثوليك المخلصون في اعتمادهم على نصائح الضمير وتحذيراته. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، أعاد الضمير اجتياز الحد الفاصل بين التدين والعلمانية، مبدلا موضع الاهتمام من الكمال الديني إلى التحسين الأخلاقي والاجتماعي. واليوم يؤمن به المتدينون وغير المتدينين على حد سواء. فهو يحظى بمكانة متميزة في علم اللاهوت والعبادات، ولا تقل مكانته عن ذلك في الفلسفة والفنون. ويدعي السياسيون التصرف وفق تعاليمه، وهم يفعلون أحيانا. ومن اللافت للنظر بالقدر ذاته اتساع نطاق الاحتكام إليه بين كل أطياف الناس وفئاتهم؛ فهو مبحث أكاديمي عظيم القيمة يستخدمه أيضا عوام الناس، ويستشهد به الناس في كل مناحي الحياة بثقة بوصفه أساسا لأفعالهم.
قد يبدو أن هذا الرسوخ المذهل الذي يتمتع به الضمير يشير إلى أنه كيان ثابت ووجهة نظر أحادية لا تتغير بمرور الزمن. والحق أن الضمير يحيا في الزمن، ومن أشد خصائصه جاذبية قدرته على التعديل الذاتي والتكيف مع الظروف الجديدة على نحو ثابت، وكذلك إدراكه اللامتناهي لشروط الملاءمة الجديدة والملحة. وفي هذه «المقدمة القصيرة جدا»، لن أعتبر الضمير ثابتا لا يتغير، بل سأعده منقبة من صنع البشر تحمل تاريخا مميزا وزاخرا بالأحداث.
يرفض الضمير أي محتوى ثابت أو غير متغير؛ فبإمكانه أن يبرر التضحية الكريمة بالذات وفي الوقت نفسه يبرر حب الذات الذي ينطوي على أنانية، وبوسعه أن يحض على عمل للخير أو على عمل إرهابي. وقد تكون إملاءات الضمير مسيحية أو وثنية، تستند إلى الدين أو شديدة العلمانية، قومية أنانية أو دولية سخية. بل إن جنس الضمير يظل مجهولا: فقد يكون مذكرا أو مؤنثا، وقد يكون صوتا روحانيا بلا جسد أو صوتا أبويا، بل إنه قد يتحدث بصوت جمعي كالرأي العام. ولما كان الضمير متغيرا بالقدر نفسه فيما يتعلق بمصدره وموضعه، فإنه قد يصغى إليه بوصفه صوتا محفزا من الداخل أو صوتا آمرا من الخارج، وغالبا ما يكون كليهما في آن واحد: كائن خارق للطبيعة يعلم عنا كل شيء لكنه يدين بولاء خارجي؛ سواء لإله أو للصالح العام. فقد فعلت أشياء رائعة وأخرى نكراء باسمه، كالإصلاح الاجتماعي الخاضع للعقل والاستثنائية الجنونية العارضة.
قد يكون الضمير بطبيعته مزعجا، فعادة ما يشعر المرء الذي يحضره الضمير - على الأقل في البداية - بأنه كان أفضل حالا دونه. وبالإضافة إلى ذلك، إذا كان الضمير متغيرا من حيث موضعه أو مضمونه، تظل بعض العناصر مما يمكن أن يوصف بأنه «شخصيته» ثابتة على نحو مؤسف. وأينما ووقتما قابلناه، نجد أن عادته المميزة هي النخز والوخز والتملق والاستنكار والمضايقة عوضا عن التهدئة أو الطمأنة. ورغم شيوعه فإنه يظل أقل الظواهر المعروفة بعثا للسرور في النفس. والسؤال هنا إذن: لماذا نحتاج في حياتنا إلى ذلك المفهوم المتقلب والقاسي وشديد الصرامة؟ والإجابة التي أقدمها أن أحوالنا في وجود الضمير أفضل كثيرا منها في غيابه.
لكنني توصلت إلى تلك الإجابة بعد مزيد من التفكير المتواصل في مصدر الضمير، وفيمن سانده، وفيما عناه بالنسبة للأجيال المتعاقبة. فالضمير له جذور تاريخية عميقة، وهو يتجدد ويكمل نفسه من تلك الجذور، وتكمن أقصى آماله للاستمرار في المستقبل في تقدير قيمة هذه «المنظومة الجذرية» - التي تتكون من كل الأشياء التي عناها الضمير ومثلها من قبل - كأساس لقابلية تطبيقه المستمرة والملحة على العالم اليوم.
الجغرافيا الثقافية للضمير
أثر الضمير في أشخاص عظيمي الشأن في جميع أنحاء العالم، بداية من مؤسسي الجمهورية الأمريكية ومرورا بغاندي ومانديلا وآخرين، لكن أصوله أوروبية أو مستمدة من الأوروبيين (كما أنهم لا يزالون حتى الآن رعاته، إلى حد ما).
لا يحتكر الغرب الرقابة الذاتية الأخلاقية أو الرفض الداخلي المستند إلى المبادئ للسلوك المستهجن أخلاقيا. وبالطبع فإن اللغات والمجتمعات كافة تملك مفاهيمها الخاصة والمميزة للواجب أو المسئولية أو الخجل من الإخفاق في الوفاء بمعايير المجتمع أو الذات. وعلى الرغم من أن العبرية القديمة لم يكن بها كلمة مرادفة تماما للضمير، فإن علم اللاهوت العبري قد تعامل جيدا مع مفاهيم الإرادة والنية والواجب الأخلاقي والمسئولية أمام إله يغرس الوصايا والتعاليم في قلب المؤمن (سفر التثنية 30 : 14، إرميا 31 : 33). وعلى الرغم من أن المفاهيم العبرية لها أصول منفصلة عن أصول الضمير، فإن تلك المفاهيم مثل الوصية الإلهية بالرقابة الذاتية الأخلاقية وتوطين قوة أخلاقية في الجسد كانت جزءا لا يتجزأ من تشكيل الضمير المسيحي، فضلا عن أنها خدمت هذا الضمير كتأثير محسن وقضية غائبة. (ومما يضيف مزيدا من الثراء لذلك التبادل، أن اللغة العبرية المعاصرة تضم في الوقت الحالي كلمة
matzpun
التي تقترب من كلمة «الضمير» من خلال علاقتها الاشتقاقية بالكلمة الإنجليزية التي تعني «داخلية» وأيضا بالكلمة العبرية التي تعني «بوصلة».) وللكلمة اليونانية
Bilinmeyen sayfa
syneidesis «سينيديسيس» التي تعني «سمة داخلية وأصيلة من سمات البصيرة الأخلاقية» خصائص مشتركة مع الضمير المسيحي، ويمكنها بالفعل أن تتشارك مع الضمير في معنى انعكاسي يتمثل في معرفة الذات، أو معرفة الذات عن طريق الذات. أما المرادفات البوذية والهندوسية فتقترب مما تطلق عليه اللغة الإنجليزية المعاصرة «الوعي» أكثر مما تقترب من «الضمير»، لكن المفهومين كانا غير منفصلين في اللغة الإنجليزية حتى القرن السابع عشر وأحيانا بعد ذلك. وتعني كلمة الضمير في اللغة الروسية
sovest «سوفيست»، وهي كلمة مقتبسة من اللغة اليونانية عبر «اللغة السلافية الكنسية القديمة»، وتشترك مع «الضمير» في معنى المعرفة المشتركة، وكلاهما يرمز للوعي ذاتي الانعكاس بالمعرفة، ومن الناحية الاشتقاقية، يمكننا المقارنة بين
con (مشترك) +
scientia (معرفة) و
so- (مع) +
vest (معرفة). والمفهومان الكونفوشيوسيان «ليانجشن» (وتعني المشاعر الودية للقلب/للعقل) و«ليانج شي» (وتعني الفكر الأخلاقي السليم أو حسن التمييز) يتشابهان تشابها مثيرا للاهتمام مع الضمير في تأكيدهما على وضع ضوابط ذاتية، وقد أثريا المناقشات الدائرة حول الضمير في القرن العشرين. وتضم اللغة العربية مفهوم «الزاجر» أو «المقيد» الذي يعرف كالتالي: «واعظ الله في قلب المؤمن، النور الملقى فيه والذي يعيده إلى الحق»، وهو تعريف مشابه للضمير في تأكيده على تحريم ارتكاب الآثام.
يقول المثل الذي يعود للقرون الوسطى «كل الطرق تؤدي إلى كومبوستيلا»، وتذكرنا تلك النظم الأخلاقية المتنوعة بأن هدف الرقابة الذاتية الأخلاقية يوجد خارج تقليد الضمير كما يوجد داخله. وعلى الرغم من أن تلك النظم البديلة تعمل على نحو مشابه للضمير، فإنها ليست مطابقة له، فكل منها يحتوي على فروق دقيقة وتقليدية تجعل دراسة كل منها على حدة دراسة مجزية. وقد افترضت الليبرالية الغربية في بواكيرها أن النظم الأخلاقية العالمية من الممكن أن تنطبق على الضمير بسهولة تامة، وأنه لا توجد بينهما فروق مهمة يجب الاعتراف بها. لكن اتضح أن هذا الأمر ليس دقيقا، وخاصة في سياق الإعلانات المقترحة للضمير الدولي أو المبادرات المقترحة بين الثقافات والمفترض تنفيذها باسم الضمير. فالاحترام المتبادل بين الثقافات لا يستفيد من التأكيدات العادية للتشابه مثلما يستفيد من الاهتمام التقديري بالخصائص المميزة لكل نظام.
ومما لا شك فيه أن مبدأ المقارنة الدولية يقع خارج نطاق هذه الدراسة وخارج حدود معرفة المؤلف. وسوف تركز هذه الدراسة على تعاليم الضمير الخاصة أثناء تطورها على مدى ألفي عام في الغرب. إن الضمير - في أفضل أحواله وأفضل أحوالنا - يستحق السمعة التي اكتسبها بوصفه أحد الإسهامات الغربية الباعثة على الفخر في مجال الكرامة الإنسانية. فهو، كما علق عالم اللاهوت هنري تشادويك ذات مرة، يقف حصنا «في مواجهة انتقاص قدر الإنسان». وطبقا لما تتضمنه وثائق مثل «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» الذي أعلنته الأمم المتحدة وتقوم به بعض المنظمات مثل «منظمة العفو الدولية» ومنظمة «رصد حقوق الإنسان»، فإن الضمير لديه الكثير كي يقدمه للمناقشات الدائرة حول حقوق الإنسان في أنحاء العالم. لكن في حالة التفكير في نشره للغات والثقافات الأخرى، فإن إدراك تطوره التاريخي - بما في ذلك حالات إساءة استخدامه والموضوعات التي يعمى عنها وما به من تناقضات - سوف يشجع على الوصول لدرجة التواضع المناسبة التي يمكننا بها تقديم هذا المفهوم للآخرين.
الفصل الأول
الضمير المسيحي
Bilinmeyen sayfa
الميراث الوثني
لما كانت الكنيسة في الماضي قد احتضنت الضمير سريعا وبلا عناء يذكر، فإنه غالبا ما يظن أن مفهوم الضمير مسيحي في أصوله. لكن الكلمة اللاتينية كونشينتيا (الضمير) كانت بالفعل مفهوما مزدهرا في فن الخطابة الإقناعي والمرافعات القانونية لدى الرومان قبل مولد المسيح بفترة طويلة. وقد منح مفهوم الضمير عند الرومان الأفكار المسيحية المبكرة عن الضمير قواما وثراء في الخيال، وسيلقي الكثير من خصائصه الضوء على التصورات الكاثوليكية والبروتستانتية عن الضمير. ولما كان هذا المفهوم قد انتقل عبر هذه التصورات، فقد ظل مؤثرا على رؤيتنا للضمير في العصر الحاضر.
كان أساس الضمير الكلاسيكي هو الرأي العام أو ما اتفق عليه المجتمع؛ ومن ثم فإن الناس الذين كانوا على خلاف مع الرأي العام أو الاتفاق الجمعي يجدون أنفسهم عرضة لتأنيب الضمير واتهاماته. وكان شيشرون في خطاباته الجماهيرية يستغل الآراء ويطوعها عن طريق إدخال الضمير في سجالاته نيابة عن الموكلين وفي إداناته للمذنبين والمتكبرين. وفي خطابه الذي يحمل عنوان «دفاعا عن مايلو»، يقول شيشرون إن الضمير هو المسرح الرئيس للفضيلة، وفي ذلك المسرح يؤدي المرء دوره في كل الأحوال. وهو يقول إن موكله مايلو قد سلم نفسه باختياره لأن قوة الضمير دعمته، كما أنها في الوقت نفسه طاردته كما تطارد المذنبين بتصورات عن العقاب. ويرى شيشرون أن الضمير السليم قد يكون أساسا للحصول على البراءة القانونية. أما الضمير الفاسد فهو ينضم إلى العقوبة القانونية كي يعاقب من أخلوا بالمعايير العامة. وهو يقول في خطابه الذي يحمل عنوان «دفاعا عن سيكستو روشو»: دعك من الغضب الشديد؛ فالمذنبون يعذبون أنفسهم بالتفكير في أفعالهم الآثمة، وكل منهم يشعر بالتنغيص ويكاد يجن لمعرفته بالجرم الذي ارتكبه وتروعه أفكاره وضميره الآثم. وقد حاول الخطيب الجدلي كوينتيليان أن يثبت أن من يحد عن طريق الفضيلة يعاني معاناة مضاعفة، سواء من العقوبة القانونية أو من الضمير المذنب. وفي كتابه الذي يحمل عنوان «الحروب الأهلية» والذي يرجع تاريخه للقرن الأول قبل الميلاد، يخبرنا يوليوس قيصر عن الضباط الفاسدين الذين يتحملون المهانة من رفاقهم وذويهم بالإضافة إلى العذاب الداخلي للعقل أو الروح من الضمير. ومرة أخرى يخبرنا شيشرون عن قيصر في خطبته التي تحمل عنوان «عن الواجبات» متسائلا: «ما الآثام التي تعتقد أن ضميره مثقل بها؟ وما الجراح التي تحملها روحه؟» وتعد خصائص الضمير مألوفة حتى إن أحد كتب البلاغة المعاصرة والذي يحمل عنوان «البلاغة لهيرينيو» ينصح المدعي بأن يقول إن خصمه قد أبدى علامات الضمير اليقظ، أي إنه شوهد ووجهه يحمر خجلا أو يصبح شاحبا أو يتلعثم أو يتفوه بكلام غير مترابط أو يبدي علامات الريبة أو يفضح نفسه.
وتلك اللغة التي يستخدمها الضمير - بما في ذلك قدرته على الخداع والجرح والوسم أو الوصم - لها طابع مألوف، فالضمير ما زال بالفعل في محاولات مستمرة منذ ألفي عام لمضايقة الأشرار ودعم الأخيار، وإصابة من يتجاهلون انتقاداته اللاذعة بالألم والرعب وشحوب الوجه والرجفة. كانت تلك اللغة وذلك التصوير مناسبين للدين المسيحي الناشئ الذي واجهته مهام متعددة تتمثل في هداية المترددين وتهذيب المؤمنين الجدد، بالإضافة إلى تشجيع المعرفة الذاتية والإصلاح الشخصي في نظامه. ولما كان الضمير قد أثبت بالفعل كونه محفزا على العمل ودافعا لتغيير الحياة، فقد كان قابلا للتكيف بسهولة مع التطلعات والاحتياجات المسيحية، ولا عجب أن الناس قد تمسكت به واستفاضت في الحديث عنه بحماس شديد حتى إنه أصبح أحد المكونات الأولى والرئيسة للرؤية المسيحية للعالم.
المذهب الكاثوليكي والضمير
كانت النتيجة الرئيسة لاستيلاء المسيحية على الضمير هو اختيار جيروم لكلمة «كونشينتيا» اللاتينية في ترجمته للعهد الجديد من الإغريقية إلى اللاتينية في أواخر القرن الرابع. ففي النسخة الإغريقية من العهد الجديد، تعتمد رسائل بولس على مصطلح
syneidesis «سينيديسيس»، وهو مصطلح عام شامل يسبق «كونشينتيا» في الإيحاء بمعنى المعرفة المشتركة أو المعرفة بواسطة الذات «التي تعرف بذاتها». وعن طريق ترجمة الاسم «سينيديسيس» إلى «كونشينتيا»، قدم جيروم هذا المصطلح الأخير في خطوة واحدة بوصفه نوعا شديد الأهمية من معرفة الذات في الديانة المسيحية. وبالطبع فإن المصطلحين ليسا مترادفين تماما، فباختياره مصطلح «كونشينتيا» لم يستطع جيروم تجنب بعض مدلولاته التي تكونت سابقا، فأولا كان تاريخ كلمة «كونشينتيا» يربطها حتما بالتوقعات العامة والمجال العام. وبينما تعد «سينيديسيس» صفة داخلية متأصلة في الفرد، تعد «كونشينتيا» مصطلحا ذا وجه مزدوج ينظر في اتجاهين: داخليا بلا ريب، لكن أيضا خارجيا إلى الرأي العام والقيم المشتركة كما هو الحال في الفهم الشيشروني والقانوني الكلاسيكي. وهكذا فقد أصبحت شخصية الضمير الإنجيلي والمسيحي شخصية مختلطة في بداية نشأتها؛ حيث مزجت بين مبادئ الوعي الأخلاقي الخاص والتوقعات العامة. وكان هذا المزج - أو ربما التشوش المحتمل - بين الجانبين الداخلي والخارجي يعني أن الضمير المسيحي ربما سيظل يخدم سيدين للأبد: صاحبه أو الخاضع له من ناحية، والآراء المذهبية أو اللاهوتية لراعيه الكنائسي من ناحية أخرى.
سوف تظل تصورات الضمير التي وردت في رسائل القديس بولس - كما نقلتها ترجمة جيروم اللاتينية إلى الغرب - مقاييس ثابتة وأيضا أسبابا للجدال عبر التاريخ المسيحي اللاحق. وتظهر أكثر هذه التصورات تأثيرا في رسالة القديس بولس إلى أهل رومية في الإصحاح الثاني الآيات 14-16، التي يوضح فيها القديس بولس أن اليهود تحكمهم قوانينهم، أما غير اليهود أو المسيحيين فهم يحكمون أنفسهم بالنواميس النابعة من أنفسهم، ويظهر أثر الناموس محفورا في قلوبهم، حيث إن ضمائرهم تشهد عليهم. وهكذا يعد الضمير لدى القديس بولس جزءا أساسيا من صاحبه؛ وهدية مباشرة وشخصية من الله إلى المؤمن؛ وهو رأي سوف يزداد أهمية مع ظهور العديد من المذاهب البروتستانتية الحديثة الأولى. لكن الضمير لديه يؤدي أيضا دورا قضائيا أعم، فهو يقضي بين الأفكار المختلفة، وأخيرا فهو يشهد أمام الله يوم القيامة.
تظهر بعض العناصر شديدة الأهمية من الضمير المسيحي الحديث بالفعل في رواية القديس أوغسطين من هيبو ريجيوس في أواخر القرن الرابع عن تحوله إلى الدين المسيحي. فقد ولد أوغسطين وثنيا، وثقف نفسه في الأدب الكلاسيكي والفلسفة، وقضى بعض الوقت متنقلا بين العقائد الإيمانية المختلفة قبل أن يتحول للمسيحية ويتبوأ مكانته كأحد مؤسسي الكنيسة الرومانية. وهو يصف في صفحتي 397-398 من كتابه «الاعترافات» طريقه إلى التحول للمسيحية، وهو طريق يتضمن الكثير من اللهو والتباطؤ. فحتى بعد أن تحول عدد من أصدقائه إلى المسيحية، ظل مترددا ينتظر اليقين بشأن خياره. ويخاطبه ضميره وهو في تلك الحال، وهو ضمير يقظ بالفعل بشأن تأخيره الذي لا داعي له:
لقد أتى اليوم الذي يجب أن أتجرد فيه أمام نفسي ويتمتم ضميري بداخلي قائلا: «أين لساني؟ صحيح أنك قد ظللت تؤكد أنك لن تطرح عبء الكبر لأجل حقيقة غير مؤكدة. لكن انظر، فالأمور الآن مؤكدة، ومع ذلك ما زلت مهموما بنفس العبء، بينما الآخرون الذين لم يرهقوا أنفسهم هكذا في البحث عن الحقيقة ولم يقضوا عشرة أعوام وأكثر يفكرون في الأمر قد تخلصوا بالفعل من أعبائهم.» وهكذا فقد أصبت بالضيق الداخلي وشعرت بالحيرة العنيفة والخزي الشديد.
Bilinmeyen sayfa
إن الضمير يتحدث من موقع مشترك مع النفس، لكنه يضم بعض العناصر ووجهات النظر الخارجية على النفس. ويكمن أحد المفاتيح الرئيسة للتناقض بين موقع الضمير وسلوكه في أصل الكلمة اللاتينية نفسها: «كون» + «شينتيا»؛ فكلمة «شينتيا» تعني المعرفة، لكنها معرفة مشتركة، أو «كون». والضمير هو معرفة الذات، لكنه يشير أيضا إلى المعرفة المشتركة مع شخص آخر أو أشخاص آخرين، أو انعكاسيا معرفة الذات عن طريق الذات. وهكذا يبدو أن الضمير يتحدث إلينا من الداخل كمعرفة داخلية - معرفة يشعر بها المرء في داخله - لكنه يدل أيضا على معرفة خارجية أكثر شمولا بشئون العالم، فهو ينتبه على سبيل المثال لما يفعله «الآخرون» وما فعلوه، أو لحقيقة أن العديد من رفاق أوغسطين قد تحولوا إلى المسيحية بالفعل.
كانت «شخصية» الضمير - التي يميزها نفاد الصبر وأيضا قدر من سرعة الغضب - مشكلة بالفعل على نحو كامل وسليم. وعلى الرغم من أنه جزء جوهري من أوغسطين، فإنه نادرا ما يعد محرضا له على الخطأ، وهو صوت «المعارضة المخلصة»، وهي مخلصة لكنها في الوقت ذاته عنيفة. استخدم أوغسطين هنا كلمة
increpare
بمعنى يتمتم، لكن من المعاني الأخرى للكلمة التوبيخ والتقريع، وهو ما يفعله ضمير أوغسطين بكثرة، حيث كان يهاجم أوغسطين لمراوغته الروحية مستعرضا قدرته على «إزعاجه» وإثارة شعوره بالخزي، وهي خصائص الضمير التي ما زالت تلازمه حتى اليوم. ولا تضم ترسانة أسلحته من الحيل المميزة الإلحاح المستمر فحسب، بل أيضا المحاكاة القاسية لنوبات التردد لدى أوغسطين وتبريراته. وأفضل ما يمكننا قوله عن الضمير أن قوته الدافعة إيجابية وحريصة على التحسين الذاتي، وصوته يسعى إلى اتخاذ إجراءات، وهو لن يصمت حتى يحقق أهدافه.
لماذا يحتمل أوغسطين ذلك الوجود المشترك العنيد صعب الإرضاء؟ من ناحية لأن الضمير موجود بالفعل داخل أسوار الذات، ويجب على أية حال أن يؤخذ في الاعتبار، ومن ناحية أخرى لأنه يمتلك معرفة وسلطة خاصتين من نوع أكثر شمولا؛ فهي معرفة أكثر أهمية يجب أخذها في الاعتبار. وبوسعنا أن نصوغ ذلك بطريقة مختلفة قائلين: إن الضمير يعلم كل ما يعلمه أوغسطين (كل شيء عن أعوامه العشرة من المراوغة والتأخير) بالإضافة إلى المزيد (كل شيء عن الطبيعة السامية للمعرفة المسيحية واستغلال أصدقاء أوغسطين لوقتهم على نحو أفضل). ولما كان الضمير يستغل هذا الموقع الاستراتيجي الأسمى - على الحدود بين الذات والآخر - استغلالا كاملا، فإنه ملائم تماما كي يدعو أوغسطين نحو مرحلة جديدة من الوعي بذاته وبالخيارات التي كان يتخذها في العالم.
وعلى تلك الحال المتقلبة سلم الضمير المسيحي البدائي إلى الأجيال اللاحقة في الفترة التي نطلق عليها الآن العصور الوسطى عندما ازدهر ووضحت بعض تناقضاته الغزيرة تحت رعاية الكنيسة. وبوصفه صوتا يتأرجح ما بين الداخل والخارج، فهو يتناوب بين دوري الصديق والعدو؛ حيث يقوم أحيانا بدور المشجع المؤيد وأحيانا أخرى يقوم بدور إصلاحي قاس. وهو يعلم أسوأ نقاط ضعف المرء، لكنه يخاطبها في نطاق معايير شاملة وعقلانية، وهو في آن واحد يؤسس شعورا قويا بالفردية من ناحية، وانقساما دائما لتلك الذات بين الميل الخاص والإجماع العام من ناحية أخرى. ولما كان الضمير المسيحي متنوعا بالفعل منذ بداية نشأته - وبذلك المعنى فهو حيوي ومتقلب في الوقت ذاته - فقد ضمن تاريخا طويلا لاحقا من التأثير الضخم والخلاف العقائدي الدائم.
لكن من ناحية واحدة كان لاتحاد الكنيسة والضمير في العصور الوسطى تأثير باعث على الاستقرار؛ فلأول مرة أصبح الضمير - بدلا من التحول حسب تقلبات الموقف والرأي العام - مزودا بمحتوى راسخ في صورة اللاهوت المسيحي والأمثلة الواردة من الإنجيل والممارسات المؤسسية. واحتفظ الضمير في العصور الوسطى بقدرته على الحديث الداخلي ومخاطبة باطن المرء، لكن لا حاجة له في معظم الأحيان للتساؤل عما يقول بالضبط.
وقد صورت تلك الحال التي «ينشأ» فيها الضمير ولديه معلومات بالفعل عن السلوك القويم والإيمان الصحيح في إحدى دراسات القرون الوسطى الأكثر تفصيلا لذلك الموضوع، وهي دراسة الراهب البنيدكتي بيتر من سيل التي تحمل عنوان «عن الضمير»، حيث يجري إعداد قاعة احتفال رائعة لكن الضيف الرئيس لم يصل بعد:
تخيل مائدة عامرة بأصناف مختلفة من الطعام ... وهب أن كل شيء مهيأ بنظام تام بحيث لا تعوزه الأناقة، ولا يكون زائدا عن الحاجة أو باعثا على الضجر. لكن في الوقت الحالي هب أن أجمل الأماكن وأكثرها اتساعا - ذلك المخصص للملكة وربة البيت - خاليا ... وأخيرا تصل المرأة التي يتوارى كل من الشمس والقمر رهبة أمام جمالها، وبينما تجلس تغلق الأبواب ويكتمل ضيوف وليمة الزفاف. ويعلن اسمها للبلاط الملكي: هذه السيدة تدعى «الضمير».
ولما كان الضمير مرسلا من الله إلى الروح المسيحية المتقبلة، فإنه لا يأتي خاوي الوفاض، بل حاملا خزائن اللفائف التي لا تضم أوراق هويته ووصيته فحسب، بل أيضا محتويات غرفته الممتلئة. وتتكون تلك المحتويات - هنا وفي أماكن أخرى - من آراء معروفة على نطاق واسع يعتنقها كثير من الناس: كالشهادة الجماعية من القديسين وكهنة الاعتراف والمجالس والمجامع الكنسية المخول لها تفسير نسخة الكتاب المقدس المكتوبة باللغة اللاتينية.
Bilinmeyen sayfa
بوسعنا تكوين ملاحظات مشابهة من الأعمال الكلاسيكية الإنجليزية التي ترجع للقرون الوسطى والتي تتناول موضوع الضمير. ويوحي العنوان المثير «الإزعاج المتكرر للضمير» بنوع من الإحساس بالذنب ينبع من الذات، لكن متن النص يتكون من سرد للملامح الخارجية والمتفق عليها للتوبة والتي يمكن لجميع المسيحيين أن يعتمدوا عليها في تنظيم حياتهم، وهي: وصايا الله والخطايا السبع المميتة وما يتفرع منها وقوانين الحياة التقية والصلاة الربانية والفضائل الأساسية وممارسة الاعتراف. وينشأ الضمير عرضا بوصفه نتيجة ثانوية لممارسة الاعتراف على نحو سليم، وعندئذ يقيم النادم تجربته طبقا للمعتقدات العامة للكنيسة؛ ومن ثم يشعر بالأسف الشديد و«غالبا ما يبلل وسادته بدموعه». وعلى الرغم من ذلك العنوان الذي يتضمن حسا صحفيا، فإن قصيدة «وخز الضمير» التي كتبت في القرن الرابع عشر أو الخامس عشر لا تعد تحليلا للضمير الفردي أو الشخصي قدر ما هي بحث في العقيدة المعروفة بالإجماع (الخوف من الموت والجحيم والمطهر وعلامات يوم القيامة والحساب ومكافآت السماء). ولم يذكر الضمير سوى عرضا في القصيدة، مرة بوصفه أحد المتهمين الخمسة عشر (إلى جانب الشياطين والملائكة والشهداء وما إلى ذلك) الذين يحضرون للشهادة ضد الأشرار يوم الحساب، ومرة أخرى بوصفه أحد أنواع الآلام الأربعة عشر في الجحيم (بالإضافة إلى البرد والجوع وما إلى ذلك). وكالعادة سوف يسبب الضمير مضايقة خاصة فريدة من نوعها - مثل «الإزعاج» و«العض كالحيوانات الضارة» - لكن مضمونه مشترك على مستوى العالم وليس خاصا بالفرد النادم وحده.
لا أرغب بالطبع في إطلاق أحكام عامة غير ذات جدوى عن العصور الوسطى بوصفها حقبة من العقيدة التوحيدية؛ وذلك لأن الضمير في العصور الوسطى كان مفهوما متحركا شديد المرونة، وحتى إذا كان الشكل الذي تتخذه نصائحه قابلا للتنبؤ به عموما، فما زالت هناك كل الموضوعات المألوفة والمتعارضة الخاصة بالتطبيق العملي. ويمكننا إيضاح عمق التفكير في مسألة الضمير في العصور الوسطى وتنوعه عن طريق أحد أهم القصائد التي ترجع للقرن الرابع عشر والتي كتبها ويليام لانجلاند بعنوان «الفلاح بيرس»، وهي قصيدة رمزية، تدعى الشخصية المحورية فيها باسم ويل، وهو شخص تواجهه صعوبات وتحديات خاصة بالتمييز والاختيار. وتمثل العديد من شخصيات القصيدة بما فيها الضمير (وهو الشخصية الوحيدة التي تظهر خلال معظم أجزاء القصيدة) صفات تقع داخل عقل ويل وخارجه. ويتفاعل الضمير - الذي أصبح الآن مذكرا، فهو في حالة تغيير دائم للنوع - مع ويل بعدة طرق بعضها أكثر تعقيدا من أن يعرض بالتفصيل هنا. وتعد مسئوليته الأساسية إلقاء المواعظ والمحاضرات على ويل حول أمور العقيدة التي يجب أن يعلمها وينفذها في سلوكه الشخصي. ومن ثم فإن نصيحته تتكون في الأساس من أمور معروفة: أمور يجب على كل مسيحي أن يعلمها، وعلى ويل أن يضبط حياته وسلوكه طبقا لها. ويصور الضمير في القصيدة بطرق متنوعة، فهو تارة حارس وتارة أخرى مستشار ودليل، أما رفيقه الدائم: «العقل» فهو يشجعه ويسهل له مهمته.
لكننا لا نستطيع اعتبار الضمير في القصيدة شخصية ثنائية الأبعاد، حيث يكمن جزء من أهميته في موقفه داخل عقل ويل وخارجه، فهو صوت في رأس ويل وفي الوقت ذاته شخصية مؤثرة في العالم. والطبيعة الرسمية والعامة لواجباته تؤكدها قدراته وألقابه المختلفة: فهو مستشار ودليل ويشغل منصب مسئول أمن قلعة الوحدة. وقد قادته تلك المشاركات الدنيوية إلى صعوبات متكررة. ولما كان مجبرا على اتخاذ قرارات في عالم معرض للفضح، فإنه يكشف الأخطاء التي كانت في ظروف أخرى لتمر دون أن يلاحظها أحد. وفي القصيدة، يعد الضمير قائمة مريبة بالمدعوين لحفل عشاء تضم حامل دكتوراه في اللاهوت يتسم بالغرور، وفي نهاية الأمر يحتاج إلى ترتيب أفكاره والاسترخاء فينصرف عن ضيوفه؛ ونراه في نهاية القصيدة محاصرا بأعداء خارجيين، وعلى الرغم من التحذيرات فإنه يرتكب الخطأ الكارثي المتمثل في السماح للرهبان بدخول قلعة الوحدة. وتوحي نهاية القصيدة بأنه قد يكون أفضل حالا إذا رفض بعض المهام الموكلة إليه وشق طريقه في الحياة بطريقة أقل جمودا كأنه عابر سبيل ورحالة في العالم. لكن في القصيدة كما هي بين أيدينا، فالضمير لا خيار لديه سوى الصراع مع بدائل معيبة بينما يقوم بمسئولياته العليا بوصفه حكما للإجماع المسيحي.
وهكذا فإن الضمير في قصيدة لانجلاند يثير قضايا ثابتة تتعلق بالتفسير والتطبيق، لكن على الرغم من أن الضمير قد يهزم مؤقتا أو يخطئ في أمور تتعلق بخيار محدد، فإنه لا يرتكب خطأ عقائديا صريحا أبدا ولا يدافع عن الآراء المنحرفة أو الشاذة التي تتشكل خارج الكنيسة. ويقر القديس توما الأكويني وبعض المحللين الآخرين بإمكانية وجود ضمير مهرطق أو مذنب، لكن في معظم التطبيقات اليومية يظل الضمير في القرون الوسطى أورثوذكسيا وحسن النية.
لكن الفكرة الحديثة المألوفة القائلة إن الضمير يمكنه مواجهة كل سلطة معروفة وحده لم تتبلور بعد. ويلزم لهذا التحول تصور وجود ضمير خاص داخلي يستطيع أن يضع نفسه في منافسة مع الضمير العام أو الرسمي. وغالبا ما يقترن هذا التحول باسم مارتن لوثر وصعود نجم البروتستانتية، لكن علاماته الأولى تظهر في أواخر العصور الوسطى، بل أيضا في النسخ الأحدث من قصيدة لانجلاند. وقد كتبت قصيدة «الفلاح بيرس» على مراحل منذ الستينيات وحتى الثمانينيات من القرن الرابع عشر، وتتضمن نسختها الأخيرة المعروفة باسم النص «ج» جزءا إضافيا يخصص فيه لشخصية ويل (الذي يرتبط الآن أكثر من ذي قبل بالمؤلف ويليام لانجلاند) ضمير شخصي بالإضافة إلى الضمير العام. والأكثر إثارة للاهتمام من ذلك أن ضميره الشخصي والآخر المجازي يدخلان في مجادلة، وفي ذلك المقطع يوجه كل من العقل والضمير الاتهام لويل بأنه يحيا حياة منغمسة في الملذات لا طائل منها. ويحدث هذا في مقطع أضيف إلى بداية القسم الخامس من القصيدة، حيث يعترض كل من العقل والضمير على الطرق المتكاسلة التي يتبعها ويل، ويرد ويل (على الضمير) قائلا: ... أنت تعلم ما كان المسيح [يتمنى] أن تكتبه في ضميري
صلوات رجل مثالي وتوبة متواصلة
هي العمل [الأعلى قيمة] الذي يرضي الله.
لا يتأثر الضمير بتفسير ويل القائل إن ضميره الشخصي يوافق على ممارساته المعتادة من التضرع للقديسين الأثرياء والتوبة من حين إلى آخر. وفي ذلك المقطع يفرض الضمير (بوصفه كيانا مشتركا أو جماعيا) نفوذه على ضمير ويل (أو إدراكه الشخصي للصواب والخطأ)، لكن حقيقة أن الضمير المؤسسي والضمير الشخصي قد يدخلان في مجادلة تعد تنبؤية على نحو ذي دلالة؛ فضمير ويل «الخاص» ليس لديه أي شيء مبتكر بشدة كي يدلي به؛ بل إن الضمير الجماعي في حقيقة الأمر يجد ملاحظاته (ملاحظات الضمير الخاص) عادية وسطحية وينحيها جانبا وهو غاضب، وبالطبع ينتصر الضمير الجماعي في نهاية الأمر. ومع ذلك فإن هذا الخلاف بين الضمير الخاص والعام ينذر بظهور وضع سوف يتكرر كثيرا في القرن الخامس عشر، ثم يصبح منتشرا في القرن السادس عشر عندما ينشأ فرق بين الضمير الفردي ورؤية الضمير بشكل أكثر شمولا وقبولا لدى العامة. وقد ينظر لهذا الفرق في قصيدة «الفلاح بيرس» التي كتبت في أواخر القرن الرابع عشر بوصفه مساحة تخيلية أو محتملة، أو ثغرة لم يملأها بعد ضمير شخصي أو إصلاحي بالفعل، لكن قد يتكون وينمو داخلها ضمير شخصي.
يظهر لجوء ويل للضمير الشخصي في موقف ينطوي على إكراه؛ إذ يجد ويل نفسه فيه تحت ضغط شديد من العقل والضمير الجماعي. وهو أمر مفهوم، فالشخصية التي تقع تحت ضغط من سلطة عليا - خاصة إذا كانت سلطة روحية أو دينية - تحتاج إلى ملجأ أو بديل، واللجوء إلى ضمير شخصي يفتح على الأقل مساحة صغيرة لحجة مضادة تتسم بالحكمة. وقد شهد القرن الرابع عشر والخامس عشر في إنجلترا وفي القارة بأكملها مضاعفة للتحديات الشخصية والعقائدية التي تواجه الكنيسة المؤسسية (وبعضها، كتلك التي واجهت لانجلاند، سعت إلى تعديل بسيط لممارساتها، والبعض الآخر قد ينظر إليه بوصفه نذيرا للسخط البروتستانتي في القرن السادس عشر). ويجد الأشخاص العالقون في هذه التحديات عزاء متزايدا في فكرة الضمير الشخصي عوضا عن الضمير الذي تراقبه المؤسسات.
وعلى الرغم من أن بعض الكتاب التقليديين في القرن الرابع عشر - مثل عالم اللاهوت الشهير والتر هيلتون والسياسي الحزبي توماس أوسك - يحتكمون إلى مفاهيم الضمير الشخصي، فإن المصدر الأقوى لذلك الاحتكام يوجد في كتابات عالم اللاهوت جون وايكليف وأتباعه اللولارديين (نسبة إلى لولارد أحد أتباع وايكليف). وقد أثار هؤلاء المنشقون دينيا في القرن الرابع عشر والخامس عشر عدة موضوعات سوف تصبح بارزة في الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر. ولما كان وايكليف تحت ضغط على كل الجبهات من السلطة الكنائسية بشأن موضوعات سوف تؤدي في نهاية الأمر إلى إدانته رسميا (وإلى نبش قبره وحرق جثته)، فقد نادى في الخطبة التاسعة والأربعين بأنه يحسن بالفرد المسيحي أن يحكم على الفضيلة بضميره الخاص بدلا من الاعتماد على آراء الآخرين، واستمر مؤكدا أن: المنبر الأخير للفضيلة «يكمن في ضميري الخاص». وكان نص هذه الخطبة - على نحو ذي دلالة - وفي ضوء التاريخ اللاحق على نحو تنبئي من رسالة الغلاطيين 6 : 5: «ليحمل كل فرد العبء الخاص به.»
Bilinmeyen sayfa
لكن العقود الأولى من القرن السادس عشر كانت الفترة التي برزت فيها رؤية فردية جديدة للضمير في إنجلترا، وربما نجد الخطوة الأولى في هذا التحول في سلوك خصمين متكافئين على نحو غريب.
هنري الثامن والمستشار مور
يعد القول بظهور رؤية جديدة تماما للضمير في القرن السادس عشر تقليلا من شأن الدقة والتنوع اللذين اتسم بهما التفكير فيما يزيد عن ألف عام سابق، وبخسا لقدر التباين الذي تحدث به تلك التغيرات. ومع ذلك فقد صعدت تيارات جديدة بارزة في القرن السادس عشر، وبدأ الكثير من الناس، مدفوعين بعلم اللاهوت البروتستانتي الذي يؤكد على التواصل المباشر مع الله وأهمية الإلهام الشخصي، يرون الضمير ملاذا للرأي الفردي، بل حتى الرأي الشاذ، أكثر مما هو مسألة تتعلق بالإجماع الكنائسي الجدير بالثقة. وتماشيا مع هذا الطابع الشخصي الجديد، فقد قل اعتبار الضمير مجموعة من المفاهيم الكنسية الوافدة من «الخارج للداخل»، وازداد اعتباره مجموعة من المعتقدات الراسخة التي تتحدث من «الداخل للخارج». وبدلا من اعتباره نصيرا للوحدة وتوحيد الآراء، فقد أصبح الضمير سلطة ربما تثير الشقاق وحافزا داخليا عميقا ملحا قد يضع المرء في صراع مع المؤسسات وأنماط المعتقدات المعترف بها، وهو ما قد يدفع بصاحب الضمير إلى مواقف شديدة الخطورة والمجازفة، لكنه على الرغم من ذلك يجب أن يتبع خشية أن يغامر المرء باستقامة روحه وخلاصها النهائي.
تتضح الخطوط العريضة لما يطلق عليه «الضمير الإصلاحي» في القارة الأوروبية في مطلع العشرينيات من القرن السادس عشر وفي إنجلترا بعيد ذلك. وتعد التيارات البروتستانتية التي بلغت ذروتها في تلك الحركات المعروفة باسم «حركات الإصلاح» أكثر تعقيدا من أن توصف وصفا بسيطا، لكن بعض خصائصها بالإضافة إلى بعض عناصر رد الفعل الكاثوليكي يمكن ملاحظتها في التصادم الشهير الذي وقع بين هنري الثامن والسير توماس مور (الذي عرف لاحقا بالقديس توماس). لطالما اعتبر مور خصم هنري النصير الأول للضمير؛ إذ رفض من حيث المبدأ قبول تأدية «قسم السيادة» للملك هنري ورفض قطع العلاقات مع كنيسة روما، لكن هنري ذاته كان النصير الدائم على نحو مدهش لصورة جديدة أكثر تطرفا من الضمير الشخصي.
شكل 1-1: الملك هنري الثامن: رجل حي الضمير؟ بورتريه لهانز هولباين الأصغر، عام 1537 تقريبا.
1
في ربيع وصيف عام 1527، بدأ هنري علاقته الغرامية بآن بولين وعقد النية على الحصول على الطلاق من الملكة كاثرين التي كان قد تزوجها منذ زمن طويل. وكانت «دوافعه» أن يتبع منهج الشرعية القانونية المستند إلى الكتاب المقدس، حيث اعتمد على عدم شرعية زواجه بكاثرين أرملة شقيقه، لكن «حجته» تضمنت عذابات حيرة الضمير، وهو ضمير ليس مستندا إلى موافقة بابوية أو سلطة كنسية أو آراء العامة ككل.
لا شك أن المناقشات السابقة حول الضمير قد بدأت في جلسات مغلقة، لكن طبقا للسجلات المكتوبة فإنه في ديسمبر من عام 1527 أوضح وولسي لأحد رسل الملك قائلا:
إن الملك باجتهاده في الدراسة والعلم من ناحية، وتشاوره مع علماء اللاهوت من ناحية أخرى، وجد أن ضميره مثقل إلى حد ما بزواجه الحالي، وسعيا إلى طمأنينة روحه ثم إلى تأمين خلافته ... اعتبر إصراره على هذا الزواج إهانة لله وللإنسان، وهو يشعر بتأنيب ضمير شديد؛ ذلك لأنه يحيا منذ زمن طويل مرتكبا إساءة بحق الذات الإلهية.
لم ينحرف هنري عن هذا العذر، فعندما اقترب هذا الأمر من نهايته يقول تشابويس، مبعوث الإمبراطور، في خطاب أرسله بتاريخ السادس عشر من أبريل عام 1533 يصف فيه مقابلة اتضح من خلالها أن هنري شديد العناد، وأذاع فيها أنه قد تزوج آن بولين سرا، وقال تشابويس إنه توسل إلى هنري أن يوقر الله على الأقل حتى إذا كان لا يوقر غيره من الرجال قائلا: «لقد أخبرني بأنه فعل ذلك، وأن الله وضميره على علاقة طيبة.»
Bilinmeyen sayfa
من يمكنه أن يؤكد ما إذا كان هنري مثقل الضمير «بالفعل» أو أن المشكلة كانت تكمن في جزء آخر من جسده (وهو الاحتمال الأكبر)؟ وتكمن النقطة الأساسية في نشوء مناخ فكري جديد، كان هنري يتفهمه ويدركه تماما، وقد أتاح هذا المناخ لمؤيدي أي موقف ملتبس أو غير شائع بأن يظلوا على تأييدهم لهذا الموقف أو التوجه إذا أمكنهم أن يتوصلوا إلى حجة مقنعة للإلحاح المستمر للضمير الشخصي. وحتى إذا كان حديث الضمير الخاص بهنري بأكمله مجرد ذريعة، فقد نجح نجاحا باهرا في استخدام نفوذه بوصفه ملكا ومهاراته الجدالية في اجتذاب الناس إلى المناقشة بشروط منحته حق التذرع بالضمير. وحصل هنري على تنازلات جزئية - على الأقل في بداية الأمر - حتى من أشخاص ثابتين على موقفهم مثل الكاردينال جون فيشر، ففي عام 1528 أو نحو ذلك كتب فيشر (منفعلا لكن في الوقت ذاته مفعما بالأمل) قائلا: «إنني مقتنع بأن الرغبة الملكية لا تتمثل في رفض القوانين الإلهية، وأنه إذا كان الملك قد استجاب لحيرة الضمير بناء على المحرمات اللاوية فسوف ينحيه جانبا حقا.» وقد أشيع عن البابا نفسه أنه يفكر في مخطط قصير الأجل يمكن هنري من الزواج بامرأتين بهدف أن يرتاح ضمير هنري. وهكذا أيضا نجد مور خلال فترة توليه منصب المستشار منذ عام 1529 وحتى عام 1532 يميل نحو التسوية الجزئية، حيث كان موقفه المتلون إلى حد ما خلال فترة توليه منصبه يتمثل في مساعدة الملك في الأمور التي لا يرفضها ضميره الخاص، لكن آخرين هم من قد يتطوعون لملاحقة قضية الطلاق الكبرى وهم يضمون «فقط هؤلاء الذين لاحظ فيهم نيافته وجود الضمير (وهم عدد كاف) وأقنعهم تماما بأداء هذا الدور». وكان مور يأمل في بداية الأمر (وهو الموقف الذي سيتراجع عنه نادما خلال أحداث 1532-1534) أن يجد هنري طريقة «كي لا يسبب لأي إنسان إزعاج الضمير أو اضطرابه أبدا» في تلك المسألة، وأن الضمير الخاص بكل مشارك في هذا الأمر لن يمس. وهكذا نجد حتى كبار المتشككين مثل فيشر ومور مستعدين للميل على الأقل جزئيا نحو الخطاب الناشئ حول قدسية الضمير الفردي.
كان التحول الذي مر به هنري من الضمير العام إلى الضمير الفردي مصحوبا بحملة أيديولوجية طموحة. ففي مرحلة مبكرة جند مجموعة من علماء اللاهوت المشتركين في الجريمة وأعطاهم تعليمات بأن يؤلفوا «سينشورا»، وهو منشور ظهر في عام 1531 عن القرارات المؤيدة لطلاقه، وقد دعمت حججهم نظرية تتعلق بالضمير الخاص، وهي تعيد بعث المفاهيم السابقة الخاصة بقدسية القانون الخاص الذي كتب في صدور الناس وتعمل على نشرها على نطاق واسع.
وفيما يلي استشهاد بترجمة إنجليزية كتبت في الفترة نفسها تقريبا عن الأصل اللاتيني:
إن القانون العام هو ما أكدته كتابات البابوات، أما القانون الخاص فهو ما كتب في صدور الناس عن طريق الوحي من الروح القدس كما قصد المصلحون الأخلاقيون الذين يحملون القوانين الإلهية منقوشة في صدورهم بالضبط.
وبالنسبة لمفهوم القانون الخاص الذي كتب في صدور الناس، يمكننا العودة لتلك الفقرة من رسالة الرومان في الآية 14 من الإصحاح الثاني، وهي فقرة لا تنسى بالطبع، لكنها تكتسب اهتماما ملحوظا من جديد عن طريق مجموعة من المصلحين البروتستانتيين والمناهضين للمؤسسات. فعندما يعلن المرء أنه قد تأثر بالتواصل المباشر الشخصي مع الروح القدس وأنه صاحب قانون نقش في صدره على نحو فريد، فإن الاختبارات الخارجية في القانون العام أو كتابات الكهنة أو أي عنصر آخر من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية ينسحب معترفا بالهزيمة:
إذا تتبعنا حركة الروح القدس وحركة ضمائرنا فلن نصبح خاضعين للقانون العام الذي يجب دائما أن يفسح المجال للقانون الخاص، فبالنسبة للأمور التي يحرمها القانون الإلهي علينا أن نطيع ضمائرنا، وفي الأمور الأخرى علينا أن نطيع الكنيسة.
من الواضح أن النظرة الأكثر تقليدية للضمير بوصفه أداة للتأنيب لكن ليس للتمرد كان لديها المزيد لتقدمه للكنيسة الرومانية التي كانت متورطة في صراعات في القرن السادس عشر أكثر مما كان لدى الضمير الخاص الذاتي المنفلت - الذي فضله هنري ومستشاروه. فقد شارك الكاردينال فيشر في الهجوم على الضمير الخاص في دفاعه الذي كتبه عام 1531-1532، أما مور الذي دعم جزئيا من قبل موقف هنري في توقعه بأن الأفراد قد يسمح لهم باختيار برنامجه أو الانسحاب منه، فقد دفعه كل من «قسم السيادة» و«مرسوم الخلافة» إلى اتخاذ موقف تقليدي أكثر حسما. وفي خطاباته الأخيرة التي يرجع تاريخها إلى أعوام 1532-1534، اتخذ موقفا ضد الضمير الفردي الجانح الذي أساء توجيهه شخص غريب الأطوار أو مهرطق بما يعارض شئون العقيدة المتفق عليها. وقد كتب إلى ابنته مارجريت متحدثا عن ذلك الأمر في حالة رجل «اتخذ موقفا معارضا من حقيقة واضحة تتجلى عن طريق العقيدة المسيحية المتفق عليها بالاعتماد على عقله وحده، أو بالإضافة إلى القليل لكن ليس الكثير من الأشياء الأخرى»، حيث توصل إلى أن «هذا الضمير ملعون بشدة». وخلال التقلبات اللاحقة التي مر بها مور، أكد تأكيدا متزايدا على فكرة الاتفاق الخارجي على الاعتقاد الصحيح. فهو يوصي في «حوار المواساة» على سبيل المثال بأن يخضع حكم الضمير للتصحيح الخارجي، حتى وإن كان ذلك في شكل نصيحة من شخص آخر صالح فحسب. وفي الشهور الأخيرة التي قضاها في السجن والتي كان فيها أشد عزلة وبعدا عن نصائح الرجال الصالحين، ضغطت الظروف على مور ضغطا أكبر من المعتاد كي يعتمد على إيعازات ضميره الخاص فقط، لكنه وجد طريقة كي يستحدث درعا واقيا من السلطة الخارجية؛ وهي أن يخلق صوته الداخلي أو الحكيم الخاص به وجمهوره أو مجتمعه الخاص. وهذا المجتمع غير موجود، فهو لا يتكون من أشخاص كان يتمكن من الاشتراك في أحاديثهم، لكن يتكون مما يعتبر هيئة «متحركة» من المجامع الكنسية والقديسين والمصلحين الأخلاقيين الذين سعى إلى الحصول على موافقتهم، أو حتى تصويبهم، إذا اقتضت الضرورة ذلك. وهو يصوغ تلك النقطة ببلاغة في خطبة ما بعد الإدانة كما هو مثبت في مذكرات تشاستلمان:
قاطعه المستشار قائلا: «ماذا هناك يا مور؟ هل ترغب في أن تعتبر أكثر حكمة وذا ضمير أكثر يقظة من كل الأساقفة ونبلاء المملكة؟» وأجاب مور قائلا: «سيدي، في مقابل أسقف واحد في رأيك لدي مائة قديس؛ وفي مقابل برلمان واحد من عندك - والله أعلم بنوعه - لدي كل المجالس العامة لمدة ألف عام؛ وفي مقابل مملكة واحدة لدي فرنسا وكل الممالك المسيحية.»
شكل 1-2: «السير توماس مور متأملا»، بريشة ويليام هيكمان سميث أوبري، عام 1890 تقريبا.
2
Bilinmeyen sayfa
ضمير «إصلاحي»؟
في حالتي هنري ومور نجد معاصرين لهما يشتركون في الإيمان بكلمة «الضمير» لكنهم يعنون بها أمورا مختلفة. وقد أكد كل من هنري وكرومويل - خليفة مور - وإنجيليو منتصف القرن المحيطين بإدوارد السادس - ابن هنري - تأكيدا غير مسبوق على الطبيعة الداخلية المتفردة والمتشددة لمتطلبات الضمير الشخصي. كان لدى هنري أسبابه كي يفضل نزعات ضميره الخاص، لكن معاصريه وخلفاءه الأكثر تعصبا طوروا الاعتماد على الضمير الخاص إلى هوية عامة جديدة مولعة بالمظاهر نوعا ما. هل تعبر تلك الهوية عن ضمير «بروتستانتي» أو «إصلاحي» مميز؟ ربما كان الأمر كذلك، بل أكثر من ذلك لأن هذا الضمير يدعمه ويضيف إليه المثال الأوروبي.
يمكن تلخيص التيار القوي من الاهتمام البروتستانتي بالضمير والذي يتدفق في اتجاه إنجلترا، في كتابات مارتن لوثر الذي يؤكد تأكيدا قاطعا على الضمير الشخصي، وقد ركز على هذا التأكيد في إعلانه الشهير عام 1521 في مدينة فورمس الذي أعلن فيه أن ضميره لا يخضع سوى لكلام الله مضيفا: «لا أستطيع أن أتراجع عن أي شيء مما قلته ولن أفعل، فمعارضة الضمير ليست أمرا آمنا ولا فاضلا .» وجدير بالذكر أن فكرة أن يكون الإنسان استنتاجا شخصيا خاصا بالضمير بناء على كلام الله الموجود في الكتاب المقدس فحسب؛ ومن ثم يتخطي سلطة الكنيسة تماما - من الصعب أن تمر دون ملاحظة. وفي حقيقة الأمر، ففور أن تحدث مارتن لوثر هتف يوهان إيك أمين الاجتماع، طبقا لروايته عن هذا الموضوع قائلا: «فلتنح ضميرك جانبا يا مارتن! عليك أن تنحيه جانبا لأنه مخطئ.» لم يكن خلاف إيك بالطبع مع الضمير بمفهومه التقليدي، لكن مع مفهوم جديد ضار للضمير بوصفه مرشدا شخصيا شديد الخصوصية للسلوك. ولما كان لوثر واثقا في صحة موقفه طبقا للكتاب المقدس، فلم يكن لديه النية لتنحية ضميره جانبا.
لم يكن الخلاف مع قراءة الإنجيل ذاتها، لكن مع إصرار لوثر على حقه في تكوين استنتاجاته الخاصة حول توصياته. وتجنب لوثر منهج الإيمان بالذات عن طريق قبول نص الكتاب المقدس بوصفه «أداة تحكم» خارجية، لكنه أصر على حقه في تفسير نص الكتاب المقدس. وكان ما أصاب ممثلي البابا بالضيق هو رفضه منح السلطات الوسيطة - مثل استنتاجات المجالس والمجامع الكنسية - أي دور تحكيمي في العلاقات بين الله والإنسان. كان لوثر يعلن مولد فهم جديد للضمير، تحول من الضمير الملتزم تجاه المؤسسات في الكاثوليكية إلى ما يمكن أن يطلق عليه الضمير «الإصلاحي» الذي لا يلتزم بأي شيء سوى بتواصله المباشر مع الله فحسب كما هو موضح في الكتاب المقدس. ويعني هذا الإصرار على التفسير الشخصي بدلا من التفسير المؤسسي أو الجمعي للكتاب المقدس أنه لن يكون ملتزما على الإطلاق من وجهة نظر ممثلي الكنيسة الرومانية ذوي التفكير المؤسسي. وهكذا ففي كتابه الذي يحمل عنوان «حول عبودية الإرادة» الذي صدر عام 1525 وكان جزءا من سجاله ضد أحد رواد الحركة الإنسانية الكاثوليكي إراسموس، يصر لوثر على أن «الضمائر لا يقيدها سوى أمر من الله، وهكذا يصبح استبداد البابوات وتدخلهم ... لا مكان له بيننا». وكان الأمر الحاسم بالنسبة للوثر يتمثل في أن النفحات المباشرة للروح القدس قائمة على الاختيار الحر وليست آمرة، بينما احترام إراسموس للمؤسسات - سواء أكانت كنائسية أم سياسية - لا يفهم منه سوى التقييد: «فالقوانين البشرية لا يمكن اتباعها مع أوامر الله؛ لأن الأولى تقيد الضمائر، أما الثانية فهي تحررها.»
شكل 1-3: مارتن لوثر في فورمس.
3
ولم تنتقص الادعاءات البروتستانتية بشأن الضمير بالطبع من ولاء الكاثوليكيين لفهمهم الخاص لنفس المفهوم. لكن الآراء التي يطلق عليها «كاثوليكية» و«بروتستانتية» بدأت تتباعد؛ حيث ادعى كل من إراسموس الكاثوليكي ولوثر البروتستانتي أن «الضمير» هو ما فوضهما لتفسير الكتاب المقدس، ومن ثم فهو البوصلة التي يسترشدان بها في الحياة. إلا أن لوثر يرسخ الادعاء الإنجيلي المعتاد بأن الضمير الشخصي هو أساس تفسيره للإنجيل، بينما يزعم إراسموس، على نحو لا يخلو من المعقولية، أن ممارساته التفسيرية تعتمد على الضمير وعلى القدرة على التمييز على حد سواء. ويرى إراسموس (بالإضافة إلى توما الأكويني وعظماء آخرين في اللاهوت الكاثوليكي) الضمير مرتبطا بالحفاظ على القانون الأخلاقي، وهي ملكة فطرية تتعلق بالاختيار العقلاني من بين الخيارات المتنافسة. لكن لوثر لا يعتقد ذلك، فالضمير لديه كشرارة البرق، أي إنه رسالة استثنائية حارقة من الروح القدس تغير حياة المرء، وهي رسالة بالكاد يتحملها الإنسان (ويتضح ذلك بشدة لدى كالفن). ويؤكد لوثر - على النقيض من إراسموس - أن «الروح القدس ليس متشككا، وهو لم يضع في قلوبنا الشكوك أو الأفكار فحسب، لكنه وضع تأكيدات أكثر يقينا من الحياة ذاتها ومن كل التجارب التي مررنا بها».
شكوك حديثة
لكن الضمير الإصلاحي اصطدم بشكوك ومصاعب في نفس لحظة انتصاره الواضح. فقد كان تحرير الضمير البروتستانتي من قيود المسلمات والعقيدة الجمعية بالطبع ذا دلالات توحي بالنصر (وتتضح الدلالات الموحية بالنصر في اللوحات المعاصرة للوثر وهو يقود الضمير المحرر حديثا بعيدا عن أنقاض الكنيسة الكاثوليكية). وما إن رسخت فكرة الضمير المستقل المستوطن - وربما المعصوم من الخطأ - حتى سقطت فريسة لمجموعة ضخمة من الشكوك وأوجه القصور الواضحة؛ حيث بدا فجأة للعديد من أقوى مؤيدي هذا الضمير الداخلي الشخصي أنه قد لا يكون معصوما من الخطأ أو كفئا لتحمل المسئوليات المبالغ فيها التي وقعت على كاهله. ويدور أحد التحديات - وهو تحد إنساني أكثر منه ديني - حول وقوع الضمير في شرك الجسد وحيدا. أما الضمير الإصلاحي الذي يتريث أكثر ويكمن على عمق أكبر، والذي يظل بطبيعته يقظا منعزلا في انتظار بيانات وتعليمات جديدة من الروح القدس، فكان غالبا ما يجد نفسه في موضع الجاسوس المنعزل الذي هبط بالمظلة في أرض العدو حاملا جهاز استقبال يلتقط الموجات القصيرة، وبطارية أوشكت على النفاد وظل ينتظر رسالة قد لا تأتي أبدا. وبصرف النظر عما قد يقال أيضا عن الضمير المؤسسي الخاص بالكنيسة الكاثوليكية، فهو لم يكن منعزلا قط ولا يفتقر إلى أدوات الدعم والتأييد الخارجية، سواء أكانت تاريخية أم مؤسسية أم داخلية. وفور أن تحرر الضمير نفسه من القيود اللاهوتية والكنسية وأصبح شخصيا تماما في عمله، تعرض لمجموعة متنوعة من الاختيارات والإغراءات. ولما كان الضمير الشخصي قد أضحى مرتبطا بفكرة الفرد غير المعصوم من الخطأ، فقد أصبح مشكوكا في أحكامه على أنها خداع الذات ونقص في العزيمة وشيء مشابه للفساد المادي.
لا تغيب هذه الشكوك الحديثة حول الضمير عن ملاحظة شكسبير القوية؛ فقد توصف «هاملت» عمليا بأنها مسرحية تدور حول كيفية عمل الضمير، وهو ليس وصفا مشجعا على الإطلاق. حيث يعاني كلوديوس من «سياط» الضمير لكنه لا يستطيع أن يتصرف طبقا له، ويصاب هاملت في النهاية بالعجز بسببه بدلا من أن يستمد منه القوة. وفي مناجاته الأشهر التي يوازن فيها بين العمل وفناء الذات، يتردد هاملت لخشيته مما بعد الموت:
Bilinmeyen sayfa
ذلك العالم المجهول، الذي لا يرجع من تخومه أحد
فتملكنا الحيرة، وتؤثر احتمال الشرور التي نعرفها
على الوثوب نحو أخرى نجهلها كل الجهل،
وهكذا أمكن لضمائرنا أن تجعلنا جميعا جبناء. (3.1.78-82)
لا شك أن هذا الضمير المسبب للعجز يتكون بالتساوي من أول معنيين حديثين للكلمة: الوعي (بمعنى المعرفة المزعجة) والضمير (الذي يسبب القلق للعقل بأفكار عن القصاص في الآخرة بسبب الأفعال الآثمة). لكن سواء أكان هذا أم ذاك أم كلاهما، فإن الضمير يقدم هنا بوصفه مشكلة شديدة التعقيد وعائقا بدلا من أن يكون حافزا للعمل.
وتتضح هذه النظرة للضمير المشتبه به في مسرحية «الملك هنري الثامن» لكل من فليتشر وشكسبير، والتي تستخدم فيها كلمة «الضمير» 24 مرة، وهو ضعف العدد الذي استخدمت فيه في أي من مؤلفات شكسبير الأخرى. وأصبح هذا الضمير الخاص بهنري كما لو كان جزءا من جسمه مشبعا باشتهاء آن بولين. فضمير هنري «قضيب حساس»، فهو يفكر في الموقف الذي «تبدت فيه حساسيته لأول مرة وتعرض للإثارة والوخز»، وهي ليست تورية جنسية فحسب، بل هي إعادة صياغة لفهم القرون الوسطى الذي يقوم فيه الضمير «بوخز» صاحبه المذنب، بينما يعد الضمير الآن عضوا قابلا للإثارة ومعرضا لنفس النوع المنحرف من التجسيد. أما ضمير آن بولين فهو بدوره يشبه بأعضائها التناسلية، فهو «ضمير رقيق ناعم» مصنوع من الجلد اللين قابل «للتمدد» بحيث يتسع لما يقدمه هنري.
كان علم اللاهوت في ذلك الوقت مفعما بالحياة بالقدر ذاته في وصفه لهذا الضمير المجسد حديثا، فقد ارتكب لوثر (في فقرة يستشهد بها إدوارد أندرو) خطأ تصويريا عندما قارن الضمير برحم المرأة والعهدين بالخصيتين. وفيما يمكن أن يطلق عليه مركز جنيف الإصلاحي، كان كالفن يواجه مشاكله الخاصة مع الضمير وتجسيده؛ فبينما أوكل دورا مهما للضمير، لم يعد ينظر إليه بوصفه موضعا للتقييم الذاتي الهادئ والتقدير المنصف قدر ما هو أرض ملوثة دمرتها الإثارة وخدرها الذعر. وفي سياق كتابه الذي يحمل عنوان «المؤسسات»، يشير كالفن إلى عدة نقاط مألوفة حول الضمير (في ترجمة توماس نورث القديمة) مثل أنه «مطبوع بواسطة الله في عقل الإنسان»، وأن ضميره يؤدي واجبا مألوفا في فضح الآثام أمام منصة الحكم الإلهي. لكننا أيضا نقابل أمورا جديدة تدعو للقلق حول ما إذا كان هذا الضمير المقيم أهلا للمهام الموكلة إليه أم لا، فهو أولا ضمير داخلي تماما لا يعتمد على الدعم الخارجي أو المؤسسي، ويواجه كل أخطار التجسيد؛ من التحيز المفرط لصاحبه غير المعصوم من الخطأ، بل والأسوأ من ذلك، «التأقلم» مع موطنه داخل الجسد. ويتخيل كالفن ضميرا ملموسا ، ضميرا تبدو عليه «الجراح»، وبدلا من أن يستحث صاحبه على التحسن الذاتي فإن هذا الضمير ذاته بحاجة إلى مساعدة، فهو يحتاج إلى الله بوصفه طبيبا كي «يشفي آلامه». ولما كان هذا الضمير بالكاد منتصرا، فهو ضمير في محنة متزعزع في دخيلة نفسه ويرتجف هلعا من غضب الله: «عندما لا يبصر ضميرنا سوى السخط والانتقام، فكيف يمكنه ألا يرتجف ويرتعد خوفا؟» وهو ضمير قد فقد ثقته بنفسه، بدلا من أن يكتسبها، وفقد قدرته على القيام بواجباته التحذيرية. ولا يتطلب تلك المساعدة سوى «ضمير فاسد»، وفساده ذو علاقة وثيقة بالظروف التي نشأت عن مكوثه في الجسد. ولم يعد الضمير لدى كالفن يمثل شرارة العقل أو الصديق المخلص أو حتى كاتب الحسابات المحايد التابع لله، بل كان يجبن أمام الشكوك الإلهية التي في محلها.
ولدى كالفن وأتباعه يظل دائما الاحتمال النهائي وجود ضمير نقي، ليس بفضل جهوده الخاصة لكن بفضل الله وحده. وتتمثل مشكلة الضمير الذي ترك وحيدا كي يتعامل مع خطايا العالم، أو لم يدعمه سوى ما اعتبره كالفن آليات التوبة غير الكافية على الإطلاق في أن جهوده قاصرة على نحو حتمي في مواجهة قوة الخطيئة اللامتناهية. وفي الجزء الثالث والأخير من كتابه «المؤسسات»، يعرض كالفن حالة «الحرية المسيحية»، والتي يحل فيها تجلي رحمة المسيح محل قيود القانون التي لا تجلب سوى الخوف الشديد للمسيحي الذي يحدد عقوبته الملائمة أمام المنصة الإلهية. وفي حالة الرحمة تلك، يتجدد الضمير وينقى عن طريق رحمة المسيح؛ حيث يتحرر من عوائق الإيمان الكاثوليكي بالأسرار المقدسة ويصبح أهلا لمواجهة المشكلات كافة، لكن تلك الحالة من اليقين عرضة لأن تظل بعيدة عن إدراك عامة المسيحيين الذين ما زالوا يقاومون المشكلات الإيمانية في العالم.
ومن أبرز ممثلي الضمير الكالفيني في إنجلترا في القرن السادس عشر آن فون لوك، التي ترجمت خطب كالفن وكتبت مجموعة قصائدها الأولى باللغة الإنجليزية. وفي قصيدتها التي تحمل عنوان «تأملات مذنب تائب، حول المزمور الحادي والخمسين»، تصف ضميرا واهنا عاجزا، لكنه في الوقت ذاته قادر على النقد والجرح، وهو من ناحية مجروح مرتبك:
الرعب الذي يسببه ذنبي ينمو كل يوم
Bilinmeyen sayfa
ويزيد من ضعف أملي في العفو الإلهي
وأنا أشعر وأعاني في روحي المستعبدة
من الندم الخفي وتآكل فؤادي.
لكن من ناحية أخرى، فإن ضميرها يحتفظ بالقدرة على المبالغة في رد الفعل والانتقام العنيف:
ضميري القاسي يشق قلبي الممزق
بسكين حاد ويطرح خارجا
الأسرار الكريهة لحياتي القذرة.
لا يزال هذا الضمير النادم محاصرا في مكان ما بعيدا عن بشرى الحرية المسيحية، ويتقلب بالتبادل بين اتهام الذات المذعور ورد الفعل المبالغ فيه.
ويبدي كل من لوثر وكالفن قلقا بشأن كفاءة الضمير وقدرته على أن يكون وعاء للتوقعات المرجوة منه، لكن معاصريهما الذين تلقوا تشجيعا من قبل أفكار غير مؤكدة حول الضمير كضمان لثورة جذرية كان من الصعب توقع أن يدركوا تلك الفروق الدقيقة أو أن يستوقفهم تحذير لوثر بأن الضمير يجب أن يتلقى دعما من الكتاب المقدس في كل مرحلة، أو تحذير كالفن بأنه ينتظر الخلاص على يد رحمة المسيح وفضل الله. ويمكن لي آراء كل من لوثر وكالفن على يد المتعصبين البروتستانتيين مما يؤدي إلى نتائج مخيفة. وقد حذر إراسموس الذي كتب إلى لوثر قبل اندلاع حرب الفلاحين التي وقعت عام 1525 بعام واحد من الاضطرابات القادمة قائلا: «إنني أرى أواصر الصداقات تتمزق وأخشى أن تحدث اضطرابات دموية.» ورد لوثر باحتقار قائلا إنه من المفترض أن تتسبب كلمة الله في حدوث فتنة، مستشهدا بإنجيل متى 10 :34: «ما جئت لألقي سلاما بل سيفا.» وعندما واجه لوثر الاضطربات الفعلية عام 1525، كان حاسما في تنصله منها وتوقعه لقمعها بواسطة السلطة المدنية. ومع ذلك - وكما هو الحال مع الأنواع الأخرى من الأقوال المتطرفة - لم يكن لوثر يتمتع بسلطة نهائية على كيفية فهم كلماته، وكان ثمة راديكاليون اجتماعيون حقيقيون بالإضافة إلى المتطرفين الدينيين. وعلى الرغم من ملاحظات لوثر النقدية القائلة بالعكس، فقد يعتبر توماس منتسر - منكر العماد المتمرد وأحد قادة حرب الفلاحين عام 1525 والذي كان يعتقد أن المؤمنين الحقيقيين تحركهم روح الله التي تختلج في قلب الإنسان - بمثابة ابن لوثر. وكما قال شتيفن أوزمنت: «عند تطبيق علم اللاهوت القلبي على المجتمع، فإنه يصبح عقيدة ثورية حقا.» ومن تمرد أتباع جون هس في جمهورية التشيك في القرن الخامس عشر وحروب الفلاحين في وسط أوروبا في القرن السادس عشر مرورا بالحرب الأهلية الإنجليزية في القرن السابع عشر، نجد الضمير والآراء المتعارضة بشأن إملاءاته في قلب الاضطراب الاجتماعي.
لا عجب أن بعض البروتستانتيين القلقين - مثل الإنجيلي ريتشارد هوكر في كتابه «قوانين الدولة الكنسية» (1594) - قد سعوا إلى إعادة ترسيخ الضمير أو «تحليله» عن طريق إعادة احتوائه في القيود المؤسسية. وينصب اهتمام هوكر على البيوريتانيين ومنكري العماد وأعضاء الطوائف المتعلقة بهم الذين يفضلون ثمار «التنوير الخاص»، كما يتضح في الاعتماد على «ضمائرهم الخاصة» في مواجهة أحكام المجالس والمجامع الكنسية والهيئات ذات الخبرة التي توفر أساسا ملائما للاعتقاد. وهو يشير إلى الدور التقليدي للمجالس في الكنيسة، وهو الموازنة بين الأمور موضع الخلاف والوصول إلى قرارات رسمية؛ مما يوفر «أساسا كافيا لضمير أي شخص عاقل كي يبني عليه واجب الطاعة». ويمنح هوكر الناس الحق في مقاومة القوانين التي يؤمنون في قرارة أنفسهم بأنها تعارض القانون الإلهي، لكنه يؤمن بأن تلك المعارضة يجب التخلي عنها عند مواجهة خلاف «عندما يطرح على أي شخص ويتفهمه فلا يمكن للعقل سوى أن يوافق عليه في قرارة نفسه». وهو يؤمن بأن تلك الحجج كافية لإبراء ذمة أكثر الضمائر تشككا، «فالاستحسان العام الذي تبديه هيئة الكنيسة لتلك الأمور الثابتة يجعل جودتها أمرا مرجحا». وليست تلك الحجة من السلطة الجمعية جديدة، فقد كانت حجر الزاوية للسلطة في الكنيسة الرومانية، وتم التأكيد عليها بشدة في إنجلترا أثناء مقاضاة وايكليف وأتباعه في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وهي حجة يعود لها هوكر الإنجيلي استجابة لمفاهيم الضمير التي تخفي الرأي فيما يطلق عليه «غشاوة من العاطفة العميقة»، وهو هنا يستبق ويعارض ما يصفه فيلسوف القرن العشرين الكاثوليكي ماكس شيلر بأنه «مبدأ الفوضى الأخلاقية» الذي ينشأ عندما «يمكن لأي شخص ... الاحتكام إلى «ضميره» ومطالبة الآخرين بالاعتراف المطلق بما يقوله».
Bilinmeyen sayfa
بعض وجهات النظر المسيحية المستمرة
للضمير أبعاد روحية وأخلاقية، وقد استمر بوصفه مبدأ علمانيا أخلاقيا بلا دعم من الاعتقاد الديني، لكن النظريات الروحية عن الضمير تظل قوة فاعلة في العالم اليوم، فالدين غالبا حاضر ضمنيا حتى في العديد من نظم الاعتقاد التي تبدو علمانية. وتواجه المفاهيم الروحية للضمير اليوم مشكلة مألوفة تتعلق بالتعريف، وهي الموازنة بين مطالبات الوحي الشخصي الداخلي والسلطة العامة المؤسسية.
في كتابه الذي يحمل عنوان «النزعة الشكلية في الأخلاق» (1913-1916)، يبحث ماكس شيلر عن نقطة وسط بين الضمير الشخصي إلى حد كبير من ناحية ومذهب الخلاص من ناحية أخرى. وهو يجادل بحدة أن الضمير بالفعل لديه موجز صحيح لما «يصلح لك، ولك وحدك»، لكن مطالب الضمير الفردي يجب أيضا أن تقدم في إطار التزام أكثر شمولا بالبصيرة الأخلاقية:
فقط التعاون بين الضمير ومبادئ السلطة ومضمون التعاليم بالتصحيح المتبادل ... لمصادر شخصية للمعرفة يضمن [تلك البصيرة].
وتتمثل وجهة نظره في أن الضمير المنعزل أو الادعاء بوجود ضمير مستنير على نحو مميز يفضي إلى الفوضى الأخلاقية ما لم تمنح السلطة والتعاليم دورا ملطفا.
كان شيلر عالم لاهوت كاثوليكي، ومعروفا بذلك، إلا أن آراءه لم تكن تحظى بتأييد واسع في الكنيسة الكاثوليكية المعاصرة. وثمة منهج كاثوليكي سلطوي أكثر تشددا يتضح في كتابات الكاردينال راتسينجر، الذي أصبح يعرف باسم البابا بينديكت السادس عشر، والذي يستكشف التنويعات المحتملة للنسبية الأخلاقية ويهاجم السلطة المؤسسية بشدة ليس بوصفها أحد عناصر النظرة المتوازنة فحسب، بل أيضا بوصفها أمرا متعلقا بالقرار النهائي. وفي كتابه الذي يحمل عنوان «الضمير والحقيقة» (1991) يقلص راتسينجر من دور الضمير في نواح عديدة، وهو يحاول أن يبرهن بعقلانية على أن الضمير الشخصي المجرد قد يخطئ، لكنه يعود فيقترح على نحو أقل إقناعا أن الشعور بالذنب الذي بني على الضمير صورة خادعة وغير ضرورية من صور الإدراك بحاجة إلى التعامل معها خارج نطاق الاختيار الأخلاقي الشخصي. وفي رأيه، يملك الناس كافة حبا غريزيا للحقيقة والخير، لكنهم أحيانا ينسون تلك الميزة، ولا يمكن أن نتوقع من البشر أن يستعيدوها بلا مساعدة. ويتمثل دور السلطة الكاثوليكية في مساعدة الإنسان الضال كثير النسيان على إعادة اكتشاف هذه الميزة الخفية. وباختصار فإن الضمير بحاجة للسلطة كي يصغي لنفسه أو يميز أهدافه الصحيحة. وبهذا المعنى فإن الضمير ظاهرة ثانوية، والشعور بالذنب من جراء الآثام التي يقترفها المرء عاطفة خيالية ثانوية. ويتمثل دور السلطة الكنسية في إعادة تعريف الضمير بالحقيقة السابقة، حتى وإن كان الشعور بالذنب يمكن استئصاله بمزيد من الدقة عن طريق كفارة المسيح.
وعودة إلى ثالوث شيلر المكون من الضمير والسلطة والتعاليم، أعتقد أن راتسينجر يبالغ في تقدير السلطة ويقلل من شأن الضمير؛ مما يقلل من وصاية المسئولية الفردية في الاختيار الأخلاقي. (وفي مصادفة غريبة، فهو يطابق هنا جزئيا حجة كالفن السابقة القائلة إن الضمير الذي لا يتلقى مساعدة، وآلام الشعور بالذنب الناتج عن الضمير، غير قادرين على أداء مهامهما ما لم يخلصهما العفو الإلهي.) ويمكن الدفع بالحجة المضادة القائلة إن عمل الضمير المسيحي السليم بالتزامن مع بعض الشعور الشخصي بالذنب شرط كي يعمل بفاعلية. وفي أحد المقالات في كتاب «الأخلاقيات وما وراءها»، يظل عالم اللاهوت البروتستانتي الليبرالي بول تيليك مخلصا للتعاليم الإصلاحية المبكرة عن طريق محاولة إثبات أن الشعور الشخصي بالذنب هو في حقيقة الأمر الحالة المفترضة للضمير. وهو يحاول أن يبرهن (بأسلوب مستوحى من نيتشه لكن مع التوصل لاستنتاج مختلف) أن «الضمير المضطرب المنتقد الذي يوجه أصابع الاتهام هو الظاهرة الأصلية، وأن الضمير السليم ما هو إلا غياب للضمير الفاسد ...»، وهو يؤكد أيضا أن «الذات-الأنا والضمير ينموان بالاعتماد أحدهما على الآخر، وأن ... الذات تكتشف نفسها في تجربة الانفصام بين ما هي عليه وما يجب أن تكون عليه»، وأن الذنب هو العرض الرئيس لهذا الانفصام. لكن تيليك يعد مفكرا متفائلا، فبدلا من أن يستسلم لمخاوفه الخاصة فإن ضميره المذنب يخضع للعمل البناء بوصفه حافزا إيجابيا للإصلاح الذاتي.
لا وجود لبابا بروتستانتي كي أستشهد به في تلك الموضوعات، لكن سيطرة كل من عالمي اللاهوت الليبراليين بول تيليك وراينهولد نيبور في منتصف القرن العشرين تقترب بأقصى درجة ممكنة من اللحظة التي يمكننا فيها أن نلمح إجماع البروتستانتيين المتعلمين حول الذات واستخدامات الضمير. وبعد مراجعة «منهج» شيلر في اتجاه «الإجماع الاجتماعي المستنير»، يعرض هذان العالمان الشخصية الاجتماعية للوجود والمطالبة الشرعية بالرفاهية الاجتماعية العامة للحد من الإفراط الفردي في القيم الإيجابية التي قد ينجذب نحوها الضمير المضطرب. ويصر تيليك على أن الموضوعات المتعلقة بالضمير «نوع من الحكم الذاتي والإرشاد الذاتي الذي لا يمكنه أن يهدأ حتى يشير إلى وجود آخر جامع ومجتمع جامع»، وهو يصر أيضا على أن وجود الله يمكن إدراكه وتمييزه - ولو على نحو ضعيف - في الطموح الجامع.
ويحتمل أن يعتبر الإنجيليون المعاصرون تلك المواقف المجتمعية مطاطة ونسبية، وهم يرتابون في حركة الإنجيل الاجتماعي المجتمعية والإيمان بالنية الحسنة المجتمعية الخاصة بالبروتستانتية الليبرالية. وفي حقيقة الأمر فإن نيبور نفسه كان لديه قلق مماثل عبر عنه في صورة اهتمام الإنسان العصري بالإرضاء المستمر «لضميره السليم». وفي كتابه الذي يحمل عنوان «طبيعة الإنسان ومصيره» (1941)، يتأمل نيبور نفسه ملاحظا «عالمية الضمير المطمئن لدى المعاصرين» ويتعجب من أن:
التاريخ المعاصر مليء بمظاهر نوبات الهستيريا والغضب لدى الإنسان وبأدلة على قدرته وميله الشيطانيين لكسر إيقاع الطبيعة المتناغم وتحدي المبادئ الحكيمة لضبط النفس العقلاني، لكن لا يبدو أن ثمة ذروة للدليل العكسي تغير من رأي الإنسان المعاصر الإيجابي في نفسه.
Bilinmeyen sayfa
لا شك أن فظائع الهولوكوست والمصائب الأخلاقية الأخرى التي حدثت منذ أن كتب نيبور هذا الكلام في عام 1941 قد أضعفت من الرضى الذي يتحدث عنه، لكن اللاهوت البروتستانتي الليبرالي يقع عرضة للاتهامات بالإذعان المبالغ فيه والتكيف الاجتماعي. وتشير الدراسات إلى أن المادة التي تتكون منها معظم المواعظ في الكنائس البروتستانتية التقليدية اليوم تتعلق بالتوافق الاجتماعي ومساعدة الذات وليس بالموضوعات الروحية المتعلقة بارتكاب الخطايا والخلاص، ومن وجهة نظر الأب بتلر في القرن الثامن عشر وصولا إلى الطوائف المعترف بها اليوم قد يتهم الضمير ببعض «التخفيف»، وذلك بشأن مسئوليته عن قيادة المذنب الخاطئ نحو التوبة والخلاص.
ما زالت فكرة الضمير الشخصي العنيد مهيمنة على المناطق الإنجيلية المعاصرة، دون أن تخضع لمراقبة السلطة أو التعاليم. وفي أواخر القرن السابع عشر عندما استنكر جون لوك الحماس غير المنظم، كان المؤمن الإنجيلي الحقيقي يستجيب لضوء في عقله الخاص ظنا منه بأنه من عند الله حتى وإن كان «مجرد قوة اقتناعه الخاص». وتحتفظ الضمائر حامية الوطيس والأقل سلطة بقدرتها على إثارة الأفعال غير المتوقعة في العالم، ويعظم الاقتناع الشخصي المستمر بالتفويض الإلهي من تأثيرها مهما كانت الظروف.
قد يعتبر الضمير المسيحي منذ نشأته - وبالطبع الآن - ظاهرة تعددية إلى حد كبير وليس ظاهرة فردية، لكن إنجازاته الكاثوليكية والبروتستانتية المتنوعة ما زالت تحتفظ بقوة كبيرة في العالم اليوم، وإن لم تعد مقتصرة عليهما.
هوامش
الفصل الثاني
علمانية الضمير
عادة ما ينظر إلى تحرر الضمير من قيود الدين المؤسسي كنتيجة للعلمانية التي سادت في عصر التنوير، لكنه قد يعتبر أيضا - على نحو أكثر تناقضا - نتيجة غير مقصودة للحماس الإنجيلي الشديد في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وكانت هجمات كالفن على الضمير شديدة القسوة؛ حيث صوره من ناحية ناقدا قاسيا على يقين من أن الجنس البشري لا يستحق الخلاص، ومن ناحية أخرى ملكة تعاني من العقاب والخوف وتعجز عن أداء المهام الموكلة إليها وترتجف هلعا أمام الله. ولم يقتصر تأثير نظرية كالفن اللاهوتية على تجنب نظم الاعتراف والتوبة الخاصة بالكنيسة المؤسسية، بل أيضا على تجنب الضمير بوصفه أداة فعالة للخلاص، مفضلا أن يوكل تحديد أمر الخلاص إلى مدى إيمان الفرد بالمسيح. وهكذا فقد نزعت صفة المؤسسية تماما عن الضمير في البروتستانتية الإنجيلية، ولم يعد حافزا مؤيدا من الكنيسة لإصلاح الذات وأعمال الخير. لقد ترك الضمير وحيدا كأنه شخص يائس يعمل مستقلا، أو ممثل ارتجالي يتناوب استعطاف الله والشعور بخشيته، فأحيانا ما يشن هجوما على صاحبه وأحيانا أخرى يعترف صاغرا بعجزه.
لكن العلاقة الخاصة بين الضمير والمعتقد الديني المؤسسي لم تنته تماما بالطبع، فالضمير لا يحظى بدعم كبير في الطوائف المسيحية المنظمة حتى الآن فحسب، بل إن الله يظل كيانا ضمنيا غامضا بوصفه راعيا أو كفيلا في العديد من نظم الإيمان المعاصر التي تبدو علمانية. وحتى في وقتنا الحالي ما زالت العديد من المواقف المتعلقة بالضمير التي لا يناشد فيها الله مباشرة تعتمد على التفويض الإلهي بوصفه قضية غائبة أو عقوبة نهائية. ومع ذلك، فعلى الرغم من أن الإله قد يوجد في مكان ما في جنبات المسرح المعاصر للضمير، فإن المشاركة الإلهية تتزايد النظرة إليها بوصفها «مرحلة أخيرة» أو إقرارا رسميا لا نصل إليه أبدا، مثله في ذلك مثل الأنواع الأخرى من المراحل المنطقية الأخيرة.
وقد أدى تفكك الروابط بين الشعائر الدينية والضمير الفردي إلى إيجاد وضع ملائم لظهور ضمير أكثر «دنيوية»، أو لعلنا نستطيع أن نقول «إعادة ظهوره»، فرغم كل شيء كان الضمير لدى الرومان اجتماعيا أكثر منه دينيا في بدايته، وهكذا فإن رؤية الضمير على أنه كيان مستقل جزئيا أو حتى كليا عن الوازع الديني كانت دائما مطروحة وموجودة. ومنذ أواخر القرن السابع عشر، بدأ الضمير العلماني في التنافس بشكل عملي مع الضمير المسيحي على التأثير على تنظيم شئون البشر.
لكن إذا كان الضمير سيعمل دون مساعدة الكنيسة المؤسسية وتحكيمها، ودون أن يحظى بمركز مضمون كمبعوث من الله، فإنه سيتعرض لخطورة التقليل من شأنه واعتباره شخصا فضوليا متطفلا أو واشيا أو متعسفا سليط اللسان. ويلزم للحفاظ على الضمير العلماني للأبد إعادة تأسيس المفاهيم وإعادة منحه سلطات واسعة كي يتمكن من التأثير في العالم. وقد تطورت مهمة إعادة منح السلطات على مستويات ثقافية متعددة وبدرجات مختلفة من الشدة، لكن قدرا كبيرا من العمل الشاق التوضيحي ألقي على عاتق مجموعة متعاقبة من فلاسفة التنوير وكتاب المقالات ورجال الدين البارزين.
Bilinmeyen sayfa
فصل الضمير عن الكنيسة
تلقى تحرير الضمير من إشراف أي طائفة دينية زخما منذ وقت مبكر من مناقشات القرن السابع عشر حول التسامح الديني المتسع مع مجموعة من المعتقدات الدينية. وكانت تلك المناقشات عادة توحيدية إلى حد بعيد، مثل «بحث عن السلطة المدنية في القضايا الكنسية» لجون ميلتون، لكن تلك المناقشات من أجل حرية الاختيار الديني والاعتقاد الديني أوجدت خلفية مناسبة للحرية الفكرية الموسعة من كل الأنواع، بما في ذلك الحرية المتزايدة للضمير.
ويظهر اتساع كبير للمناقشة في اتجاه الحرية العقلية في كتابات جون لوك بدءا من رسالته التي تحمل عنوان «خطاب حول التسامح الديني» (1689). ونظرا لأن حجته في هذه الرسالة تنشأ عن القلق بشأن التعصب بين الطوائف المختلفة للدين المسيحي، فإنها من الصعب أن تعتبر نصا ضد الدين أو غير ديني. ومع ذلك فهي تقدم منظورا واسعا عن طريق تأسيس دفاعها عن حرية الضمير الديني على مفهوم الحقوق الطبيعية. ويتمثل اقتراح لوك في أن الصراع الطائفي الذي عانت منه إنجلترا مؤخرا كثيرا وكان ذا نتائج كارثية، لن يهدأ ما لم «تجبر الكنائس على جعل التسامح الديني أساسا لتحررها وتعليم الناس أن حرية الضمير حق طبيعي لكل فرد منهم أو من المنشقين على حد سواء». وعلى الرغم من أن الصراع الديني هو موضوع لوك، فإنه لا يقصر ما خلص إليه من نتائج على هذا المجال، بل إنه يرى أن النتائج المتعددة للضمير يجب أن تعتبر طبيعية وألا تمس سواء عن طريق السلطة المدنية أو السلطة الدينية لكنيسة معترف بها أو مسيطرة. وتظل الممارسة الدينية مجالا خاصا من مجالات الضمير، لكن القانون المدني تتاح له ممارسة حقوقه ومسئولياته في هذا الشأن. وتعد الحدود بين الممارسة الدينية وإشراف الدولة ضبابية، حيث يظل الفرد المسيحي الذي يدفعه الاعتقاد الديني إلى انتهاك القانون المدني معرضا للعقوبة المدنية وعليه أن يتقبل تلك العقوبة بوصفها نتيجة لاختياره أو لأفعاله. وما زال الإله حاضرا في مكان ما في هذا الخليط، لكن القانون المدني بدأ يستأثر بالسلطة عن جدارة، ممليا قواعد التسامح الديني والسلوك القويم. وكما تصور رسالة «خطاب حول التسامح الديني»، فإن هذا الضمير المختلط لا يمكن وصفه بأنه يعمل بطريقة «علمانية» تماما. وعلى الرغم من ذلك فإن لوك يضع نظاما للاستخدام السليم للضمير في مجتمع يحكمه القانون المدني، وهو نظام يأخذ في الاعتبار رؤية الضمير بوصفه محفزا من قبل الله، لكنه لا يصر على مثل هذا التحفيز كي يعترف به ضميرا.
وفي مقاله بعنوان «مقال عن الفهم البشري» (1690) يعود لوك إلى موضوعات مشابهة في إطار أكثر علمانية وإثارة للجدل، ويفترض صورة مختلفة من القواعد للضمير، وهي أن يحكمه سمو العقل البشري واستخدامه. وهو يرفض الادعاءات غير المدروسة بأن الضمير ينبع من الإيمان الفطري (الذي يولد به الإنسان) أو أنه هدية مرسلة من الوحي الإلهي (أي إن الله هو من أرسله)، بل يذهب إلى أن العقل هو الحكم الذي يفصل في شرعيته، وعليه أن يفصل في ذلك الأمر بدلا من ادعاء الوحي الإلهي. وهو لا ينكر إمكانية التنوير الإلهي المباشر، لكنه يؤكد أنه إذا أخفق ذلك التنوير في اجتياز اختبار العقل، فإن الادعاء بوجوده يصبح موضع ارتياب. وعلى أية حال، فالوحي الإلهي ليس المصدر الرئيس للقيم الأخلاقية، لكنه يؤكد قائلا:
بنفس الطريقة التي يعلم بها كثير من الناس عن أمور أخرى، فهم يوافقون على العديد من القيم الأخلاقية ويقتنعون بالالتزامات التي تمليها عليهم. وقد يتفق معهم في الرأي آخرون من نفس التعليم والجماعة وعادات البلاد والذين تساهم معتقداتهم - أيا كانت الطريقة التي توصلوا بها إليها - في حث الضمير على العمل، وما هي إلا آراؤنا أو أحكامنا الخاصة عن الاستقامة الأخلاقية لأفعالنا أو فسادها.
وعلى الرغم من اختلافه مع توماس هوبز في معظم النقاط، فقد كان لوك يوافق على أن الضمير قائم على «الرأي»؛ ومن ثم فإنه لا يمكن أن يكون موحدا أو متسلطا بالضرورة في إملاءاته. ويبدو أن مسألة كون أحكام الضمير اليقظ غير كاملة ومرتبطة بالثقافة - وليست تامة أو فطرية - كانت واضحة له من خلال الملاحظة. وهو يستشهد بأمثلة مكررة معظمها بأسلوب ميشيل دي مونتين، والتي يترك الناس فيها أطفالهم الرضع في العراء لقتلهم أو يربونهم لأكل لحومهم وما إلى ذلك، ويستنتج من تلك الأمثلة أنه «إذا كان الضمير برهانا على المبادئ الفطرية، فقد تكون مخالفة المبادئ المتفق عليها من المبادئ الفطرية، حيث إن بعض الناس يرتكبون من الأفعال ما يتجنبه آخرون بنفس الوازع من الضمير». وهو يؤكد مرارا وتكرارا على أننا نواجه «جرائم منكرة ترتكب بلا ندم»؛ مما يوحي بأن الضمير ليس شيئا واحدا بالنسبة لجميع الأطراف ولا يمكن أن يصبح كذلك.
ولذلك فهو لا يثق «بالمتعصبين» الذين يسعون إلى فرض الاستنتاجات الخاصة بمعتقداتهم المتطرفة أو غير المتسامحة على الآخرين، ومهما كان المتعصب مقتنعا بأن آراءه نتاج التنوير الإلهي، فمن المحتمل أن يجد الآخرين من ذوي المعتقدات المشابهة رغم اختلافها قليلا يعارضونه:
إذا كان الضوء الذي يظن كل شخص أنه يحمله في عقله - وما هو في تلك الحالة إلا قوة اقتناعه - دليلا على كونه من عند الله، فإن الآراء المعارضة لها نفس الحق في أن تعتبر وحيا، ولن يكون الله أبا الأنوار فحسب، بل أيضا أبا الحقائق المتعارضة والمتناقضة.
وهو يستنتج من ذلك أن أي وحي مزعوم يجب تقييمه بناء على أسس معينة غير الاقتناع العاطفي، ويجب أيضا باختصار أن «يحكم عليه بالعقل». وغالبا قد نجد عند البحث أن آراء أكثر الناس اقتناعا «لم تبن على العقل أو الوحي الإلهي، لكنها تنشأ عن أوهام عقل متحمس أو متعجرف ...». والعقل - وهو صورة من التجلي الطبيعي - هو الترياق الصحيح لتلك الأوهام شديدة التطرف، ويجب أن نفضل النتائج التي يتوصل إليها.
شهد لوك شخصيا الصراعات البيوريتانية-الأنجليكانية والصراعات البرلمانية- الملكية في إنجلترا في القرن السابع عشر، وهي سلسلة من الصراعات ادعت فيها أطراف شديدة التطرف ذات قناعات راسخة على حد سواء أن الضمير هو دليلها. ولما كان لوك يحتقر ادعاءات التنوير غير المدروسة وقدسية القناعات المطلقة، فقد شكل رؤية للضمير لا تعتمد فيها ممارسته أو تقييمه النهائي على العقاب الإلهي بأي حال من الأحوال، رغم تقبلها لإمكانية أن يقدم العقاب الإلهي دليلا مؤيدا للضمير. وبعد لوك، قد تدعي أي رؤية للضمير امتلاكها للتفويض الإلهي أو لا تدعي ذلك، لكن الأكيد أنها ليست مضطرة لبناء دعواها للاهتمام الأخلاقي على أي من تلك الادعاءات. ولأول مرة منذ عصر الرومان يعود الضمير للعالم، وتعد دعائمه الأساسية العادات والإجماع واستخدام العقل.
Bilinmeyen sayfa
ثمة مكسب وخسارة هنا، حيث تتمثل الخسارة في أن فصل الضمير عن الوحي الإلهي وتحويله إلى ضمير متحيز يعتمد على الظروف ويخضع لاختبار العقل يجعل لوك ينتقص من سلطته المؤكدة، أما المكسب فيتمثل في ترسيخ الضمير بوصفه نظاما محدودا لكنه مؤثر لصنع المعاني في النطاق الأوسع من الشئون الإنسانية. إنه ضمير واضح لا مركزي؛ ضمير مجرد من غلافه من العصمة الزائفة من الخطأ، لكنه أيضا ضمير مستعد للدخول في منافسة قوية في حلبة السلوك الدنيوي.
تبع لوك في بعض الجوانب أنتوني أشلي كوبر، الإيرل الثالث لشافتسبيري، الذي كان يؤمن بأن الناس يملكون «حاسة أخلاقية» فطرية، حتى وهو يرى أن تلك الحاسة قابلة للحكم عليها وتصحيحها عن طريق العقل. وفي كتابه الذي يحمل عنوان «خصائص البشر والأشياء والآراء والعصور» (1711-1714)، وضح مفهوم «العاطفة الطبيعية» الذي يدعمه الاستبطان الذاتي بوصفه أساسيا للسلوك البشري. ويلقي شافتسبيري مسئولية ذلك الاستبطان على عاتق الضمير، وهو ملكة تحدد السلوك الذي يستحق العقاب، ويجب تمييزها عن حساب المرء البسيط لمصالحه الشخصية. والضمير بهذا التعريف شيء مشترك بين الجميع؛ فحتى مرتكبو الشر في رأيه يدركون أنهم يستحقون الشر في مقابل ذلك. وهو يعلق بموضوعية إلى حد ما قائلا إن الضمير قد يفهم على نحو أخلاقي أو ديني، لكنه يجد أن الضمير الديني يعتمد على الضمير الأخلاقي أو الفطري، وهكذا فهما لازمان له كي يعمل. ولأننا لدينا ما يجعلنا نخشى العقاب الإلهي عندما نعلم بالفعل أننا قد ارتكبنا فعلا يستحق اللوم، فإن تقديرنا لأفعالنا له الأولوية على أية مخاوف قد نشعر بها حول الغضب الإلهي، أي إن تحديد السلوك الذي يستحق اللوم أمر شخصي خاص بنا يرتكز على معايير التقييم الفطري. ويصور الإله مشاهدا لعملية التقييم الذاتي التي نقوم بها؛ أو «كيانا مفترضا» يستحق التوقير بالفطرة، لكنه ليس طرفا فاعلا ذا شأن في العملية نفسها:
ومع ذلك، فإن [للضمير] قوته التي يستمدها من الانحراف الأخلاقي للأفعال وبشاعتها مع الاحترام الكامل للحضرة الإلهية والتوقير الفطري المستحق لهذا الكيان المفترض. ففي مثل هذا الخيار يجب أن يكون للخزي الناتج عن الشر أو الرذيلة قوته المستقلة عن الخوف الزائد من مثل هذا الكيان وتوزيعه للثواب والعقاب في المستقبل.
وعلى الرغم من أن شافتسبيري يتحدث بقدر كبير من الاحترام الظاهر عن هذا الكيان، فإنه أيضا يبذل جهدا كبيرا كي يبعده عن أي دور مهم، فهو يرى أننا نتخذ قرارنا النهائي بشأن أفعالنا «باستقلالية» عن قدرات الله المسيطرة الخاصة بالثواب أو العقاب. وفي حقيقة الأمر فإن الدين قد يكون له تأثير مشوه في نظام شافتسبيري، مثلما يحدث عندما نرتكب فعلا يستحق العقاب نتيجة «لأية أوامر مزعومة من السلطات العليا». وبالإضافة إلى ذلك، فهو يؤكد أن تلك السلطات غير ضرورية سواء للحث على أداء فعل ما أو تقييمه، بل إنه يقول أيضا: «إذا ما استبعدنا كل الأفكار والشكوك في أي سلطات عليا للأبد»، فإن المذنبين سيظلون يعاقبون من وجهة نظرهم، حتى ولو كان ذلك بالمعنى الثانوي أو غير المباشر المتمثل في تعريض مصلحتهم أو سعادتهم للخطر. وعلى الرغم من أن ضمير شافتسبيري يصنف مع مفردات التوحيد المخففة إلى حد ما، فإنه ضمير دنيوي وعلماني تماما - يقيم من خلال التفاعل الاجتماعي ويعتمد على مفهوم الخزي الشخصي.
وقد كان لشافتسبيري بدوره تأثير كبير على جوزيف بتلر؛ وهو رجل دين تناول المسائل المتعلقة بالضمير في مؤلفه «خمس عشرة موعظة ألقيت في كنيسة رولز» (عام 1726). وعلى الرغم من أن سمعته قد تراجعت، إلا أنه قد يعتبر أكثر الخطباء شعبية في موضوع الضمير في إنجلترا في القرن الثامن عشر، وبالطبع أثرت آراؤه في الآراء السائدة عن الضمير والتي استمرت في القرن التاسع عشر وما زالت موجودة حتى اليوم. وهو يعترف بخشوع أن الضمير هبة من الله أو ملكة «غرسها بداخلنا حاكمنا الفعلي» و«خصصها لنا خالق طبيعتنا»، لكن يبدو أن تلك الهبة ما إن تمنح حتى تتوقف عن الاعتماد على الله في استمرار أدائها لعملها. والضمير لدى بتلر هو صورة من «التفكير ... واستحسان بعض المبادئ أو الأفعال واستنكار البعض الآخر». ويكمن هذا الضمير في طبيعتنا، ويجب أن يتيح عمله الصحيح غير المشوه لأي شخص تفضيل «الإنسانية على القسوة» باعتبار ذلك أمرا طبيعيا.
وفي تحول ذي مغزى عن النظريات اللاهوتية الإنجيلية السابقة التي كانت تعتبر الضمير هو ناموس الله المكتوب في قلب الإنسان، يرى بتلر أن هناك العديد من النزعات مكتوبة في قلوبنا - بعضها إلى الخير والبعض الآخر إلى الشر - ويضع الضمير في موضع الملكة التي تقوم بوظيفة «الشاهد» على نزعاتنا وتتيح لنا التمييز بينها. وفي رأيه أن الأحكام التي تصدرها ضمائرنا جديرة بأن «تدعم وتؤيد» من الله، لكنه يعطي الله دورا تقنيا أو تمهيديا فحسب، بالإضافة إلى التأثير الإضافي الذي تثيره رغبتنا الطبيعية في استحقاق رأي الله الإيجابي فينا (مثلما يرى شافتسبيري). وفي مزيد من التقييد للسبل التي يؤثر بها الله على قراراتنا الأخلاقية، يعارض بتلر أي «استبداد» للمؤسسات الدينية على الضمير. وعلى الرغم من أنه يؤمن بأن المؤسسة الدينية ضرورية لإنشاء الحكومة المدنية، فإنه يحاكي لوك في التماس التسامح الديني وعدم التدخل في شئون الضمير:
أي مؤسسة دينية بلا تسامح ديني تعتقد أنها لا يمكنها في قرارة نفسها الالتزام به هي في حد ذاتها دكتاتورية عامة؛ لأنها تزعم امتلاك سلطة مطلقة على الضمير، وسرعان ما تتسبب في أصناف أخرى من الاستبداد من نوع أسوأ.
قد يبدو أن بتلر يكرر قول كالفن فيما يتعلق بسوء الظن في سيطرة المؤسسات الدينية على الخيار الفردي، لكن بنغمة من الواضح أنها مختلفة. إلا أنه لا ينتقد القوة الجبرية للكنيسة فحسب، بل إنه أيضا يتقدم إلى موقع كان ليفزع البروتستانتيين الإنجيليين السابقين عن طريق تقييد الاتصال بين الله وقلب الفرد المسيحي؛ ومن ثم تأسيس الاختيار على العقل وليس الوحي. ويعتقد بتلر أننا نعبر عن توقيرنا لله من خلال ممارسة سلطاتنا في الاختيار العقلاني، وهو موقف يدل على الإيمان بالله بالفعل ما كان أي من الإنجيليين ليعتبره دينيا على الإطلاق.
الضمير والإجماع الاجتماعي
أكد أهم فلاسفة القرن الثامن عشر تأكيدا متزايدا على مفاهيم العقل والعاطفة، وأخيرا الإحساس، في الأمور المتعلقة بالاختيار الأخلاقي. إلا أن أي اختيار أخلاقي يتم بالكامل داخل عقل صاحبه يظل عرضة للدوران في حلقة مفرغة وعرضة للسفسطة. والعقل وحده - أو حتى بعد تطبيقه على الدليل التجريبي - غير كاف لمراقبة عمل الضمير، وخاصة عند تطبيقه بواسطة الفرد المستقل، فهو يظل عرضة للخطأ أو للتأثر بالمصلحة الشخصية عندما يستخدم في غياب سلطة خارجية أو قيد. وإذا كان ذلك القيد لن يوفره إله متدخل بقوة، أو توفره أوامر الدين - ويعتقد كل من لوك وشافتسبيري أنه يجب ألا يحدث ذلك - فإن الميل نحو القواعد الاجتماعية والإجماع يوفر أساسا بديلا لنظرية السلوك الأخلاقي.
Bilinmeyen sayfa
وقد تناول إيمانويل كانت هذه الفكرة باختصار مقتصد في كتابه الذي يحمل عنوان «ميتافيزيقا الأخلاق» (1797). ومن وجهة نظره، فالضمير يدير «محكمة داخلية في الإنسان»، مخاطبا إياه بصوت لا يملك حتى الفاسد إلا أن يستمع إليه، وهذا الصوت يعبر عن نزوع الإنسان لإصدار الأحكام، وهو مندمج في كيان الإنسان نفسه، لكن المشكلة في ذلك الصوت وفي المحكمة الداخلية بالكامل أن المرء لا يمكنه الحكم على نفسه بموضوعية، ولا يمكنه أداء أدوار المدعي وهيئة المحلفين والقاضي الحاسم دون أن يحدث تضارب في المصالح. ونظرا لصعوبة تقييم المرء لسلوكه، عليه أن يضمن وضعا مميزا خارج نطاق الاختيار الشخصي يمكن تقييم هذا الخيار منه. والحل الذي يقترحه كانت هو القول بأنه على الرغم من أن مسألة الضمير تخص المرء وحده، فإن نتائجها يجب أن تعتبر كما لو كانت خاصة بشخص آخر:
نظرا لأن المهمة التي تقع على عاتق ضمير المرء هي أن يفكر في شخص آخر بخلاف ذاته ... بوصفه حكما لأفعاله حتى لا يتعارض الضمير مع نفسه.
وهذا «الشخص الآخر» في النهج الذي يسير عليه كانت قد يكون حقيقيا أو مجرد شخص خيالي ينسجه العقل من وحي خياله، ويعد أعظم تجسيد له هو الله، لكن بوصفه مبدأ شخصيا وليس كيانا مستقلا بذاته:
يجب أن يعمل ذلك الشخص الخيالي (الحكم المعتمد للضمير) على تحري القلوب، فالمحكمة قد نصبت «داخل» الإنسان، لكنه أيضا عليه أن «يفرض كل الالتزامات»، أي أن يكون - أو يعتبر - شخصا تنسب إليه كل الواجبات أيا كانت باعتبارها أوامره ... ولما كان ذلك الكيان الافتراضي كلي القدرة هو الله، يجب أن يعتبر الضمير هو المبدأ الشخصي المسئول أمام الله عن كل أفعال المرء.
وعلى الرغم من ذلك فهو يؤكد أن هذا مبدؤنا، ونحن ننشئه بأنفسنا: «في حقيقة الأمر فإن المفهوم الأخير متضمن دائما ... في الوعي الذاتي الأخلاقي الخاص بالضمير.» وعلى الرغم من أننا نجتهد داخليا كي ننشئه، فإن هذا المفهوم النقدي يعتمد على مواد خارجية عن أنفسنا؛ ومن ثم فإنه وسيلة يتدفق بها الإجماع الاجتماعي والقيم الجماعية المشتركة عائدين إلى تقييم الاختيار أو الفعل الشخصي. «محكمة» الضمير
في محكمة إنجلترا العليا التي يطلق عليها أيضا محكمة الضمير، يمكن دراسة كل وقائع القضية بقدر أقل من الإجراءات القانونية الشكلية. وهذا الارتباط بين المحكمة والضمير له إيحاءات عديدة. وأيا كانت نقائصه (اقرأ «المنزل الكئيب»!) فإن نظام العدالة في أفضل حالاته - مثله مثل الضمير في أفضل حالاته - يسعى إلى تحقيق التوازن بين الصرامة والرحمة. وقد كثرت التشبيهات القضائية على مدى تاريخ الضمير، حيث وظف الضمير مفاهيم الدفاع والمقاضاة وحكم المحلفين والحكم النهائي لتوضيح إجراءاته.
كان الضمير لدى الرومان وثيق الارتباط بالمحاكمات القضائية، ففي أحد مرات ظهوره الأولى في المسيحية يبدي الضمير استعداده «للشهادة» على صفاتنا الداخلية (رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس، الآية 12 من الإصحاح الأول). ويتخيل كالفن والبروتستانتيون الأوائل الضمير شاهدا ملكا لا يعرف الصفح يلقي القبض على المذنبين و«يسحبهم بوصفهم متهمين إلى قفص المحاكمة أمام الله.» وينقل السير توماس براون الدعوى القضائية إلى الداخل، متخيلا «محكمة قائمة داخلنا تقوم بالاستجواب وتصدر أحكام البراءة والإدانة في محكمة الذات». ويضيف جوناثان سويفت إلى الاستعارة قائلا إن الضمير «يمكن أن يطلق عليه بدقة مدعيا وقاضيا في الوقت ذاته»، وفي حقيقة الأمر هو ليس مجرد مدع، لكنه مدع مخيف، «فعندما يتهمنا ضميرنا نكون بالطبع مذنبين». ويرى إيمانويل كانت الضمير أيضا قاضيا، لكن مخاوفه تكمن في الاتجاه المضاد، فهو يخشى أن تشجع المصلحة الشخصية على التساهل الزائد: «فإذا اعتبرنا أن ثمة إنسانا يتهمه ضميره وهو في الوقت ذاته القاضي، فتلك طريقة عبثية لتمثيل المحكمة، فبهذه الطريقة سوف يخسر المدعي طوال الوقت.» ويتمثل الحل لديه في إعادة تسوية الملعب عن طريق دعوة صاحب الضمير إلى أن يفكر في «شخص آخر غير نفسه كي يكون حكما على أفعاله».
إن الضمير مثل السلطة القضائية المستقلة؛ فلا نستطيع أن نتأكد من حكمه أبدا، لكنه يمثل غاية آمالنا لجلسة استماع عادلة والحصول على البراءة في نهاية الأمر.
كان الشخص الذي وضع كل ذلك على أساس اجتماعي بطريقة لطيفة، وهو أساس لا يحتاج إلى إنكار مشاركة الله في الشئون المتعلقة بالضمير لكنه لا يتطلب إطلاقا حضور الله - هو الفيلسوف الاسكتلندي آدم سميث. كان سميث معاصرا لكانت وأصغر منه قليلا، ويمكننا أن نجد نموذجا سابقا لنظرة كانت للضمير بوصفه مشاهدا موضوعيا في كتاب سميث الذي يحمل عنوان «نظرية المشاعر الأخلاقية» (1759)، وهو عمل كان كانت قد اطلع عليه بالطبع. ويعتبر سميث زعيم التغيير الجريء في أي تاريخ ناشئ للضمير؛ حيث وسع من مجاله عن طريق إعادة تأسيسه بناء على الحكم الأخلاقي والتعبير عن نظام للضمير مستقل تماما عن العقوبة الدينية. ولا يستبعد سميث الإله تماما من نظامه، لكنه يقدمه في صورة ضعيفة لا تتيح له السيطرة مستقلا فيما يتعلق بأحكام السلوك البشري، وهو يقر بأن حتى المشاهد الموضوعي - أو «نصف الإله الذي يكمن داخل النفس» - أحيانا ما يخجل من الاستنكار العام لأفعال المرء.
وفي تلك الحالات، يكمن العزاء الفعلي الوحيد للإنسان الذليل المعذب في الاستئناف أمام محكمة أعلى، أمام قاضي العالم البصير بكل شيء الذي لا يمكن خداعه أبدا.
Bilinmeyen sayfa
لكن الأساس الذي يرتكز إليه إيماننا بذلك الإله يتطلب المزيد من البحث، حيث يقول سميث إن فكرة وجود عالم مستقبلي تصدر فيه الأحكام على نحو صائب بواسطة إله معصوم «تتملق عظمة الطبيعة البشرية» إلى حد لا يمكننا فيه أن نستغني عنها، أي إنه لا يصرح بالضبط لكنه يلمح إلى أن تلك النظرة الباعثة على العزاء لإله معصوم اختراع بشري. وهي في الحقيقة مسألة تتعلق بالأولويات، حيث تتقدم أفكار الإنسان عن المساءلة البشرية على أفكاره عن الإله وترشدها:
يجب عليه [الإنسان] أن يعتبر نفسه عرضة للمساءلة أمام رفاقه من البشر قبل أن يكون فكرة عن الإله أو عن القوانين التي يستخدمها ذلك الرب في الحكم على سلوكه.
وقد سبق سميث كانت في القول بأننا «نحاول مراقبة سلوكنا كما نتخيل أن أي مشاهد آخر عادل موضوعي قد يراقبه». وهذا الفحص الذاتي التأملي لم يخرج ببساطة من عقل الإنسان، لكنه بدوره اجتماعي: «فالإنسان وحده» كما يؤكد سميث «لا يمكنه التفكر في سلوكه»؛ وبناء على ذلك فليس الله أو العقل الفطري هو ما يقدم معيارا للتقييم، لكنه المجتمع ووضع المرء فيه: «أدخله في المجتمع، وسوف يزود في الحال بالمرآة التي طلبها من قبل.» ويعد كيان المرء الأخلاقي مزدوج التكوين، حيث يتكون من الفرد وبالقدر ذاته من الآخر. وهو يقول بشأن الحكم على السلوك الشخصي:
إنني أقسم نفسي - إذا جاز التعبير - إلى شخصين ... فأنا الباحث والقاضي أمثل شخصية مختلفة عن تلك الأنا الأخرى؛ أو الشخص الذي يخضع سلوكه للفحص والحكم. والأول هو المشاهد الذي أحاول مشاركته رأيه فيما يتعلق بسلوكي عن طريق وضع نفسي في موقفه وتخيل كيف كان الموقف سيبدو بالنسبة لي ... وأما الثاني فهو الفاعل أو الشخص الذي أطلق عليه نفسي حقا والذي أحاول تكوين رأي ما في سلوكه وأنا في ثوب شخصية المشاهد.
أعيد تعريف الموضوعية حسب فهم سميث بأن ذاته الثانية تتحدث من منبر اجتماعي أكثر اتساعا، يمثل المنظور الواسع ل «رجل الإنسانية في أوروبا» الذي يمتلك في حوزته إجابات نموذجية موحدة. وهنا تقابلنا مشكلة، وهي أننا اليوم نشك في وجود مثل هذا الشخص، أو أنه حتى لو وجد مثل هذا الشخص ذي الحس الإنساني المثالي، فإننا نشك في أن تعليمه ونوعه والمعايير الغربية التي يرجع إليها تؤهله بالضرورة كي يكون حكما نهائيا على كل المواقف الأخلاقية التي تنشأ في عالم متغاير. ويبدو اقتراح سميث بأن «نفحص سلوكنا بالطريقة التي نظن أن أي مشاهد آخر عادل موضوعي قد يفحصه بها» جذابا في تعهده بالرقابة الذاتية، لكن ذلك «المشاهد الموضوعي» يبدو عند الفحص إلى حد بعيد امتدادا لقيم سميث الخاصة ويقل اعتباره وجهة نظر جديدة موضوعية لا غبار عليها. واستكمالا لتلك السلسلة المهمة، تعد افتراضاته المطمئنة حول سهولة الوصول للموضوعية الكاملة غير مقنعة من وجهة نظر علم النفس الحديث أو علم الأخلاق الحديث.
وعلى الرغم من تلك الاعتراضات، فإن محاولته البحث عن معيار معتدل داخل الذات وخارجها، بالإضافة إلى تهذيب الميل الفردي بما يتفق مع حكم الإجماع الاجتماعي، تظل جديرة بالثناء. ولا تعد وجهة نظره مبالغة أو عاطفية على نحو مفرط، فما زال بإمكان ضميره الخدش والعض وقيادة الفرد نحو الإصلاح الذاتي كما فعلت ربات الانتقام بعد أن استيقظن في مسرحية أورستيا. وهكذا، فحتى من يرتكب جريمة في السر سوف يصدر على نفسه حكما معارضا لوجهة نظر المشاهد الموضوعي: «فتلك الآلام الطبيعية للضمير الخائف هي الشياطين، أو ربات الانتقام، التي تطارد المذنبين في الحياة الدنيا.» وعلى الرغم من إدراك سميث للضمير بوصفه أمرا متعلقا بالشعور المرهف، فإنه يقدم وصفا رائعا لضمير يطمح إلى تأديب الذات، ضمير قوي يميل إلى التدخل ويشغل نفسه بالعواقب.
مشكلة المبادئ الأخلاقية العامة
يرفض فلاسفة التنوير المفهوم الضيق للضمير ويفتحون مجال البحث فيه لآفاق الإجماع الاجتماعي الأكثر اتساعا، وهذا المنظور الواسع ضروري لتكوين تصور سليم عن الضمير، على الرغم من أنه يمثل صعوبة جديدة. فعن طريق قطع الصلة بين الدين والضمير تماما وإعادة ترسيخ الضمير في الإجماع الاجتماعي، يخاطر سميث وآخرون يشاركونه نفس الرأي بترك الفرد حي الضمير تحت رحمة تحيز الجمهور غير الخاضع للمساءلة. ومع ملء المبادئ الأخلاقية العلمانية للفراغ الذي خلقه الدور المتناقص لله وللدين في رعاية الضمير، ينشأ احتمال أن ينجرف الخيار الأخلاقي بتيار من الآراء الخارجية غير المفندة. وكان أساس الاحترام الأحدث للضمير وجوده نصيرا للفرد المنعزل خلافا للآراء الثابتة الإلزامية، وهكذا فمن الصعب أن يقنع المرء برؤية الضمير بوصفه مجرد تفسير لما «يعتقده الجميع». وقد تولى كل من لوثر وأبطال الإصلاح البروتستانتي الآخرين الدفاع عن حقوق الضمير الفردي أو حتى المنحرف (فيما يتعلق بالآراء السائدة) في مواجهة أشكال العبادة الثابتة ومؤسساتها على نحو رائع وفعال، لكن ما زال الخلاف التالي دفاعا عن حقوق الضمير الفردي في مواجهة الآراء الراسخة في مجتمع علماني لم يحسم بعد.
بدأ ذلك المأزق يظهر في القرن التاسع عشر عندما انتشرت آراء في الضمير - بعضها متزمت والبعض الآخر عاطفي وشائع - في المجتمع المدني. وتبدو الرواية في القرن التاسع عشر أحيانا مسرحا رائجا للضمير يستخدم فيه هذا المفهوم بكفاءة بوصفه آلية للحكم على الخيارات والأفعال في المجتمع الإنساني. وبوصفها قالبا اجتماعيا، فإن الرواية مناسبة تماما لتناول مشكلة الضمير في المجتمع وميله لأن يتخذ دائما دور المؤيد للمبادئ الأخلاقية المتعارف عليها.
عندما كان بيب الصغير في رواية «آمال عظيمة» على وشك أن يسرق طعاما ومبردا من أجل ماجويتش الهارب كان لديه ضمير كهذا، ضمير يسبب له الكثير من المتاعب لكنه أداة أكثر تبلدا وتقليدية من أن تكون ذات نفع له في تحليل ورطته. فبعد أن أخفى شريحة من الخبز في جيب سرواله كي ينجز المهمة التي كلف بها، تعرض للهجوم بعنف:
Bilinmeyen sayfa
يعد الضمير شيئا رهيبا عندما يتهم رجلا أو طفلا، لكن في حالة الطفل فعندما يتعاون هذا العبء الخفي مع عبء خفي آخر مخبأ في جيب سرواله، يعد ذلك عقابا كبيرا (ويمكنني أن أشهد بذلك).
وفي طريقه لتأدية مهمته، يجد نفسه متهما من كل ما في الطبيعة ويغرق في الهلاوس:
اعترض طريقي ثور أسود يرتدي ربطة عنق بيضاء - وكان له بالنسبة لضميري المستيقظ سيماء كهنوتية - ورمقني بثبات بعينين متصلبتين ... حتى إنني انتحبت قائلا: «لم يكن بوسعي فعل شيء يا سيدي، فلم آخذه لنفسي!»
وبالتأكيد كان بيب سيغدو أفضل حالا بلا ضمير متمسك بالعرف كهذا على الإطلاق، فهو متشبع تماما بمبادئ أخلاقية عامة غير ناقدة وطائشة، حتى إنها تعوق قدرته على تحليل الموقف الغامض الذي وضع فيه بدلا من أن تحسن منها.
شكل 2-1: شخصية جيميني كريكيت تلهو بشارة الضمير («الضمير الرسمي»).
1
ولاحقا في نفس القرن يمثل هاكلبري فين - الشخصية التي رسمها مارك توين - ضحية أخرى للمبادئ الأخلاقية العامة والضمير التقليدي، حيث يبدو أن اشتراك هاك في فرار جيم من العبودية يعطيه أسبابا لاتهام الذات أقل من بيب الذي قد يكون مذنبا لسرقة طعام العائلة من أجل شخص يبدو أنه مجرم، لكن هاك يوجه الاتهام لنفسه بخليط من التفسيرات الأخلاقية التقليدية حول السرقة وحقوق الملكية والسلوك القويم والتدين الظاهري. وهنا يوبخ هاك نفسه على السماح للظروف وتعلقه الشخصي بجيم بأن يطغى على الأخلاقيات العامة في مساعدة جيم على الفرار:
من يلام على ذلك؟ يا للعار! أنا! لم أتمكن من انتزاع ذلك الأمر من ضميري بأية طريقة أو كيفية، وأصبح مثيرا للضيق حتى عجزت عن الراحة، وعجزت عن البقاء ساكنا في مكان واحد ... وحاولت أن أوضح لنفسي أنني لا لوم علي، فلم أساعد جيم على الفرار من مالكه الشرعي، لكن ذلك لم يجد نفعا، حيث يستيقظ ضميري كل مرة قائلا: «لكنك كنت تعلم أنه يفر من أجل الحصول على حريته» ... وهنا كان ضميري يؤنبني ويسألني: «ماذا فعلت لك الآنسة واتسون المسكينة حتى ترى عبدها الزنجي يرحل أمام عينيك ولا تتفوه بكلمة؟»
صرصور الليل المتكلم
لم تنجح شخصية «صرصور الليل المتكلم»، وهي إحدى الشخصيات في رواية «بينوكيو» لكولودي التي كتبت في القرن التاسع عشر، حيث أعطى بينوكيو العديد من النصائح المفيدة قبل أن تسحقه الدمية سريعة الغضب في الحائط بمطرقة خشبية. لكنه يعود في ثوب «جيميني كريكيت» في نسخة عام 1940 التي أنتجتها شركة ديزني، ويرتقي على يد الجنية الزرقاء إلى دور ضمير بينوكيو، وهي تذكره قائلة: «هو السيد المحافظ على معرفة الصواب والخطأ، والمستشار في لحظات الإغواء الشديد ، والمرشد في الطريق المستقيم الضيق.» ويبدأ جيميني العمل للمرة الأولى عندما تخبر الجنية الزرقاء بينوكيو بأن عليه أن يتعلم الاختيار ما بين الصواب والخطأ، ويتساءل بينوكيو كيف له أن يعرف الفرق بينهما، فتجيبه بأن ضميره سوف يخبره، فيتساءل: «وما الضمير؟» مشيرا إلى أن تلك الملكة عليها أن تفعل أولا، وهنا يظهر جيميني قائلا: «ما الضمير؟ دعني أخبرك، الضمير هو ذلك الصوت الضعيف الخافت الذي لا يستمع الناس إليه.» ويعد جيميني متواضعا على نحو ملائم فيما يتعلق بقدراته، فهو يتحمل الهزائم المتتالية والتقريع المتواصل (حيث يتوجه لامبويك لبينوكيو متسائلا: «أتعني أنك تتلقى الأوامر من الجراد النطاط؟») لكنه يثابر ويحصل على شارة الضمير الذهبية تقديرا لجهوده.
Bilinmeyen sayfa