في تلك الدقيقة دخل فتى تضم رأسه عصائب بيضاء كتبت عليها الهيجاء أحرفا قرمزية، واقترب من الصبية وحياها بدمعة وابتسامة، ثم أخذ يدها ووضعها على شفتيه الملتهبتين، وبصوت تألفت فيه عوامل الحب الخارج ومفاعيل اللقاء المفرح قال: «لا تجفلي فقد أتى من تبكين من أجله، افرحي فقد أعاد إليك السلم من سرقه الحرب، وأرجع إليك فتى الإنسانية ما سلبه ابن المطامع، كفكفي الدمع يا حبيبتي وابتسمي؛ لأن للشعوب أيمة ترحم متى عمت قساوة أيمة الشعوب، لا تعجبي من إيابي حيا، فللحب وسم يراه الموت فينصرف، ويتوسمه العدو فيقهقر. أنا هو، فلا تحسبيني خيالا جاء من مرتع المنايا ليزور مربعا يسكنه جمالك والسكون: لا تخافي فأنا حقيقة سلمت من بين الأسنة والنار لتخبر الناس بلغة الحب على الحرب، أنا كلمة لفظها رجل السلم لتكون توطئة لرواية سعادتك».
انعقد اللسان إذ ذاك وناب الدمع عن الكلام، وحامت ملائكة السرور حول ذلك الكوخ الحقير واسترجع القلبان ما فقداه عند الوداع.
ولما جاء الصباح وقف الاثنان في وسط الحقل يتأملان في جمال الطبيعة، وبعد سكينة فيها من الأحاديث ما فيها، نظر الجندي نحو المشرق الأقصى وقال لحبيبته: «انظري الشمس طالعة من الظلمة».
الشاعر
حلقة توصل بين هذا العالم والآتي، منهل عذب تستقي منه النفوس العاطشة، شجرة مغروسة على ضفة نهر الجمال ذات ثمار يانعة تطلبها القلوب الجائعة، بلبل يتنقل على أغصان الكلام وينشد أنغاما تملأ خلايا الجوارح لطفا ورقة، غيمة بيضاء تظهر خط الشفق ثم تتعاظم وتتصاعد وتملأ وجه السماء وتنسكب لتروي أزهار حقل الحياة، ملك بعثته الآلهة ليعلم الناس الإلهيات، نور ساطع لا تغلبه ظلمة ولا يخفيه مكيال ملأته زيتا عشتروت إلهة الحب، وأشعله أبولون إله الموسيقى.
وحيد يرتدي البساط ويتغذى اللطف، ويجلس على أحضان الطبيعة ليتعلم الإبداع، ويسهر في سكينة الليل منتظرا هبوط الروح، زراع يبذر حبات قلبه في رياض الشواعر فتنبت زرعا خصيبا، تستغله الإنسانية وتتغذى به.
هذا هو الشاعر الذي تجهله الناس في حياته، وتعرفه عندما يودع هذا العالم ويعود إلى موطنه العلوي، هذا الذي لا يطلب من البشر إلا ابتسامة صغيرة، والذي تتصاعد أنفاسه وتملأ الفضاء أشباحا حية جميلة، والناس تبخل بالخبز والمأوى.
فإلى متى أيها الإنسان، إلى متى أيها الكون تقيم من الفخر بيوتا للألى جبلوا أديم التراب بالدماء وتعرض بتهامل عن الذين يهبونك من محاسن أنفسهم سلاما ووداعة؟ وحتى م تعظم القتلة والذين أحنوا الرقاب بنير الاستعباد، وتتناسى رجالا يسكبون نور الأحداق في ظلمة الليل ليعلموك أن ترى بهاء النهار، ويصرفون العمر بين مخالب الشقاء كي لا تفوتك لذة السعادة.
وأنتم يا أيها الشعراء يا حياة هذه الحياة، قد تغلبتم على الأجيال قسرا عن قساوة الأجيال، وفزتم بإكليل الغار غصبا عن أشواق الغرور، وملكتم في القلوب وليس لملككم نهاية وانقضاء، يا أيها الشعراء.
يوم مولدي
Bilinmeyen sayfa