منيتان
في سكينة الليل هبط الموت من لدن الله نحو المدينة النائمة، واستقر على أعلى مئذنة فيها، وخرق بعينيه النيرتين جدران المساكن، ورأى الأرواح المحمولة على أجنحة الأحلام، والأجساد المحكومة بمفاعيل الكرى.
ولما توارى القمر وراء الشفق، وتوشحت المدينة بنقاب الخيال، سار الموت بقدم هادئة بين المساكن حتى بلغ صرح القوي الغني فدخل ولم تصده الحواجز، ووقف جنب سريره ثم لمس جبينه فانذعر من غفلته، ولما رأى خيال الموت أمامه صرخ بصوت تجسمت فيه عوامل الحنق والخوف وقال: «ابعد عني أيها الحلم المخيف، اذهب أيها الخيال الشرير، كيف دخلت أيها السارق؟ وماذا تروم أيها الخاطف؟ أذهب فأنا رب البيت، اذهب وإلا ناديت العبيد والحراس فيمزقونك إربا».
حينئذ اقترب الموت وبصوت يحاكي الرعد قال: «أنا هو الموت فانتبه واعتبر!» فأجاب القوي الموسر: «ماذا تريد مني الآن وماذا تطلب؟ لماذا جئت وأنا لم أنه أعمالي بعد! ماذا تطلب من الأقوياء نظيري؟ اذهب إلى السقماء، اغرب عني ولا ترني أظافرك الجارحة وشعرك المسدول كالأفاعي، رح فقد سئمت النظر إلى جناحيك الهائلين وجسدك البالي» وبعد سكيبة مزعجة زاد: «لا لا أيها الموت الرءوف، لا تحفل بما قلته فالخوف يوحي ما يحرمه القلب، خذ مكيالا من ذهبي أو قبضة من أرواح عبيدي واتركني وشأني ... لي يا موت مع الحياة حساب لم أنهه، ومع الناس مال لم أستوفه، لي بين أمواج البحر مراكب لم تصل إلى الساحل، وفي قلب الأرض غلة لم تنبت، خذ ما شئت من هذه الأشياء واتركني، لي جوار كالصباح جمالا فاختر منهن ما تريد، اسمع أيها الموت لي وحيد أحبه وهو عقدة آمالي، خذه واتركني، خذ ما تشاء، خذ كل شيء واتركني».
حينئذ وضع الموت يده على فم عبد الحياة الترابية، وأخذ حقيقته وأعطاها للهواء.
سار الموت بين أحياء الفقراء الضعفاء حتى بلغ بيتا حقيرا فدخله واقترب من سرير عليه فتى في ربيع العمر، وبعد أن تأمل في وجهه الهادئ لمس عينيه فاستيقظ، ولما رأى الموت واقفا بجانبه جثا على ركبتيه ورفع ذراعيه نحوه وقال بصوت أودعه كل ما في نفسه من المحبة والشوق: «هأنذا أيها الموت الجميل، اقتبل نفسي يا حقيقية أحلامي وموضوع آمالي، ضمني يا حبيب نفسي، فأنت رحوم لا تتركني ها هنا، أنت رسول الآلهة، أنت يمين الحق فلا تتخل عني، كم طلبتك ولم أجدك، وكم ناديتك ولم تسمع! قد سمعتني الآن فلا تقابل شغفي بالصدود، عانق نفسي يا حبيبي الموت».
وضع الموت إذ ذاك أنامله اللطيفة على شفتي الفتى وأخذ حقيقته ووضعها تحت جنحيه.
ولما حلق الموت في الجو نظر نحو العالم ونفخ في الهواء هذه الكلمات: «ولن يرجع إلى الأبدية إلا من جاء من الأبدية».
على ملعب الدهر
ودقيقة تتراوح بين تأثيرات الجمال وأحلام الحب لهي أسمى وأثمن من جبل ملأه المجد الذي يمنحه الضعيف المسكين للقوي الطامع.
Bilinmeyen sayfa