وتصاعد من أعالي فم ميزاب المحيط بغابة الأرز طيف فتى مكتنفا بأيادي الساروفيم، وجلس على العرش بقرب الحورية فعادت الأرواح ومرت من أمامها هاتفة: «قدوس قدوس قدوس! فتى لبنان مجده ملء كل الدهور».
لما أخذ المحب يد حبيبته ونظر إلى عينيها، حملت الأرواح والأمواج هذه المناجاة إلى جميع الأقطار: «ما أكمل بهاءك يا ابنة إيزيس، وما أعظم حبي لك!». «ما أجملك بين الفتيان يا ابن عشتروت، وما أكثر شوقي إليك!». «محبتي نظير أهرامك، فلا تهدمها الأجيال يا حبيبتي». «محبتي تحاكي أرزك، فلن تغلبها العناصر يا حبيبتي». «حكماء الأمم يأتون من المشرق والمغرب ليستحكموا حكمتك، ويستفسروا رموزك يا حبيبتي». «عظماء الأرض يجيئون من الممالك ليسكروا من رحيق جمالك وسحر معانيك يا حبيبتي». «إن راحتك منبت خيرات غزيرة، تملأ الأهراء يا حبيبتي». «إن ذراعيك منبع المياه العذبة، وأنفاسك نسيمات منعشة يا حبيبتي». «قصور النيل وهياكله تذيع مجدك، وأبو الهول يحدث بعظمتك يا حبيبتي». «الأرز على صدرك وسام شرف أثيل، والأبراج حولك تروي بطشك واقتدارك يا حبيبتي». «آه ما أميلح محبتك، وما أحيلى الأمل المناط بارتقائك يا حبيبتي!». «آه ما أكرمك خليلا، وأوفاك حليلا، وما أجمل هداياك وأنفس عطاياك، بعثت إلي بالفتيان فكانوا يقظة بعد نوم عميق، أتحفتني بالفارس فغلب ضعف قومي وحبوتني (بالأدب) فأنهضهم وبالنجيب فأثملهم ...». «بعثت إليك بالبذور فصيرتها أزهارا، وبالأنصاب فجعلتها أشجارا. فأنت حقل بكر يحيي الورد والسوسن، ويرفع السرو والأرز ...».
أرى بعينيك حزنا يا حبيبتي، أتحزني وأنت بقربي؟!». «لي أبناء رحلوا إلى ما وراء البحار، وخلفوني حليف بكاء وأليف شوق». «ليت لي ما يشابه حزنك، وتنصرف عني مخاوفي يا حبيبتي».
أتخافين يا ابنة النيل وأنت عزيزة الأمم؟». «أخاف من طاغية تقترب مني بحلاوة روغها، وتمتلك أعنتي بقوة ساعديها». «إن حياة الأمم يا حبيبتي مثل حياة الأفراد، حياة يؤاخيها الأمل، ويقارنها الخوف، وتحف بها الأماني، ويرمقها القنوط».
وتعانق الحبيبان وشربا من كئوس القبل رحيقا عطرا، فمرت أجواق الأرواح منشدة: قدوس قدوس قدوس! المحبة مجدها ملء السماء والأرض.
مخبآت الصدور
في صرح فخيم واقف تحت جنح الليل وقوف الحياة بين ستائر الموت، جلست صبية بقرب منضدة عاجية تسند رأسها الجميل بيدها، مثلما تتكئ زنبقة ذابلة على أوراقها، وتنظر إلى ما حولها نظرات سجين يائس يريد أن يخرق بعينيه جدران حبسه ليرى الحياة السائرة في موكب الحرية.
مرت الساعات مرور أشباح الظلمة، وتلك الصبية مستأنسة بدموعها، مستأمنة بانفرادها ولوعتها، حتى إذا ما اشتدت على قلبها وطأة عواطفها وامتلكت شواعرها خزائن أسرارها، تناولت قلما وأخذت تمزج على صفحات الورق قطرات الحبر بدموعها، وتجمع بين الكلام ومكنونات نفسها، وهاك ما كتبت:
أيتها الأخت المحبوبة
عندما يضيق القلب بأسراره وتتقرح الأجفان من حرارة دموعها، وتكاد الضلوع تتمزق من نمو مخبآت الصدور، لا يجد المرء غير الكلام والشكوى. فالحزين يا صديقتي يستعذب الشكوى يجد المحب تعزية بالتشبب، والمظلوم لذة بالاسترحام، فأنا أكتب إليك الآن لأنني أصبحت كشاعر يرى جمال الأشياء فينظم تأثيرات ذلك الجمال محكوما بقوة ألوهيته، أو كطفل الفقير الجائع يستغيث مدفوعا بمرارة جوعه غير راحم فاقة أمه وانكسارها.
Bilinmeyen sayfa