وسكت الفتى هنيهة كأنه يريد أن يتعلم الكلام من خرير النهر وحفيف أوراق الغصون، ثم عاد فقال: «وأنت يا من أخاف من أمها أن أدعوها باسمها، أيتها المحبوبة عني بستائر العظمة وجدران الجلال، أيتها الحورية التي لا أطمع بلقائها إلا في الأبدية حيث المساواة، يا من تطيعها الصوارم وتنحني أمامها الرقاب وتتفتح لها الخزائم والمساجد! قد ملكت قلبا قدسه الحب، واستعبدت نفسا شرفها الله، وخلبت عقلا كان بالأمس حرا بحرية هذه الحقول، فصار اليوم أسيرا بقيود هذا الغرام، رأيتك أيتها الجميلة فعرفت سبب مجيئي إلى هذا العالم، ولما عرفت رفعة منزلتك ونظرت إلى حقارتي علمت أن للآلهة أسرارا لا يعرفها الإنسان، وسبلا تذهب بالأرواح إلى حيث المحبة تقضي بغير الشرائع البشرية، أيقنت لما نظرت إلى عينيك أن هذه الحياة فردوس بابه القلب البشري، ولما رأيت شرفك وذلي يتصارعان صراح مارد ورئبال، علمت أن هذه الأرض لم تعد وطنا لي، ظننت لما وجدتك جالسة بين نسائك كالوردة بين الرياحين، أن عروس أحلامي قد تجسدت وصارت بشرا مثلي، ولما تخبرت مجد أبيك وجدت أن دون اجتناء الورد أشواكا تدمي الأصابع، وأن ما تجمعه الأحلام تفرقه اليقظة ...».
وقام إذ ذاك ومشى نحو الينبوع منخفض الجناح، كسير القلب، مجسما الأسي والقنوت بهذه الكلمات: «تعال يا موت وأنقذني، فالأرض التي تخنق أشواكها أزهارها لا تصلح للسكن، هلم وخلصني من أيام تخلع الحب عن كرسي مجده وتقيم الشرف العالي مكانه، خلصني يا موت فالأبدية أجدر ببقاء المحبين من هذا العالم، هناك أنتظر حبيبتي، وهناك أجتمع بها».
بلغ الينبوع وقد جاء المساء وأخذت الشمس تلم وشاحها الذهبي عن الحقل، فجلس يذرف الدموع على حضيض وطئته أقدام ابنة الأمير وقد حنى رأسه على صدره كأنه يمنع قلبه عن الخروج.
في تلك الدقيقة ظهرت من وراء أشجار الصفصاف صبية تجر أذيالها على الأعشاب، ووقفت بجانب الفتى ووضعت يدها الحريرية على رأسه، فنظر إليها نظرة نائم أيقظه شعاع الشمس، فرأى ابنة الأمير واقفة حذاءه فجثا على ركبتيه مثلما فعل موسى عندما رأى العليقة مشتعلة أمامه، ولما أراد الكلام أرتج عليه فنابت عيناه الطافحتان بالدمع عن لسانه.
ثم عانقته الصبية وقبلت شفتيه، وقبلت عينيه راشقة المدامع السخينة، وقالت بصوت ألطف من نغمة الناي: «قد رأيتك يا حبيبي في أحلامي، ونظرت وجهك في وحدتي وانقطاعي، فأنت رفيق نفسي الذي فقدته، ونصفي الجميل الذي انفصلت عنه عندما حكم علي بالمجيء إلى هذا العالم، قد جئت سرا يا حبيبي لألتقي بك، وها أنت الآن بين ذراعي فلا تجزع! قد تركت مجد والدي لأتبعك إلى أقاصي الأرض وأشرب معك كأس الحياة والموت، قم يا حبيبي فنذهب إلى البرية البعيدة عن الإنسان».
ومشى الحبيبان بين الأشجار تخفيهما ستائر الليل ولا يخيفهما بطش الأمير ولا أشباح الظلمة.
هناك في أطراف البلاد عثر رواد الأمير على هيكلين بشريين في عنق أحدهما قلادة ذهبية، وبقربهما حجر كتبت عليه هذه الكلمات: «قد جمعنا الحب فمن يفرقنا، وأخذنا الموت فمن يرجعنا؟».
في مدينة الأموات
تملصت بالأمس من غوغاء المدينة، وخرجت أمشي في الحقول الساكنة حتى بلغت أكمة عالية ألبستها الطبيعة أجمل حلاها، فوقفت وقد بانت المدينة بكل ما فيها من البنايات الشاهقة والقصور الفخمة تحت غيمة كثيفة من دخان المعامل.
جلست أتأمل عن بعد في أعمال الإنسان فوجدت أكثرها عناء، فحاولت في قلبي ألا أفتكر بما صنعه ابن آدم، وحولت عيني نحو الحقل، كرسي مجد الله، فرأيت في وسطه مقبرة ظهرت فيها الأجداث الرخامية المحاطة بأشجار السرو.
Bilinmeyen sayfa