وسحنون أول من نظر في الحسبة؛ إذ كانت قبل للأمراء دون القضاة، وأول من فرق أهل البدع من الجامع، وأول من جعل في الجامع إماما يصلي بالناس؛ إذ كان للأمراء، وأول من جعل الودائع عند الأمناء، وكانت قبل في بيوت القضاة. من مآثره في القضاء أنه كان جالسا على باب داره؛ إذ مر به حاتم «من حواشي الأمير المقربين»، ومعه سبي من سبي تونس، فقال سحنون لأصحابه «قوموا وأتوا بهم»، فذهبوا وخلصوهم من حاتم لأنه أبى أن يسلمهم، وهرب حاتم على برذونه بعد خرق ثيابه، ودخل على الأمير وشكا إليه، وكان الأمير إذ ذاك محمد بن الأغلب، فأرسل الأمير غلامه إلى سحنون، وقال له: يقول لك الأمير اردد النسوة على حاتم؛ فإنهن إماء له. قال سحنون: فإن كن إماء فمثل حاتم لا يؤمن على الفروج، وقل للأمير أيها الغلام: جعل الله حاتما شفيعك يوم القيامة. ولما ذهب الرسول، قال سحنون: هذا الأسود - يعني حاتما - يذهب هكذا. فأمر بجلبه وسجن بعد أن طرحت عمامته.
ثم أقبل رسول الملك بوجه غير الذي أقبل به أولا، فقال لسحنون: يقول لك الأمير: إنك تعديت عليه، ارددهن له كما أمرتك وسرحه من السجن. فقال سحنون: قل له: أنت الذي تعديت، والله لا رددتهن عليه حتى يفرق بين رأسي وجسدي. فانصرف الخادم، فأقبل محمد بن سحنون على أبيه وقال: اكتب له والطف يا سيدي. فدعا سحنون بدواة وقرطاس، وكان جالسا بالأرض وابنه محمد مشرفا على مقعده، فكان سحنون يكتب، وابنه محمد ينظر ما يكتب ويقول لأبيه: دون هذا، دون هذا. حتى فرغ سحنون من كتابه، ثم طبعه وسلمه مع عونه إلى الأمير، فأخذه الأمير وضرب به وقال: والله لا أدري هذا علينا أم نحن عليه. واسود وجهه، وكان له جمال، فركب فرسه وانصرف لعسكره راجعا إلى القصر القديم، وهو الذي أنشأه بقصر الماء إبراهيم بن الأغلب سنة 185ه، يبعد عن القيروان بنحو ثلاثة أميال، ويسمى العباسية، وقد اندثر الآن، فأقام الأمير بالقصر غاضبا من أول النهار إلى وقت العصر لم يدخل عليه أحد، ثم سكن غضبه ورجع له رشده، فأذن لأصحابه ووزرائه بالدخول، وقال لهم: إني لأظن هذا الرجل - يعني به سحنون - ما يريد بنا إلا خيرا ونحن لا ندري، أرسلوا إليه يرسل محتسبيه ويكتب لهم سجلات إلى أقصى عملي يأخذون من وجدوا من الحرائر. فأرسل سحنون أصحابه يأخذون السجلات، فخرجوا وردوا من وجدوا.
امتحن سحنون في مسألة خلق القرآن، وأراد الأمير الانتقام منه، فمات الأمير قبل الانتقام ونجي سحنون. ولد سحنون سنة 160ه، وتوفي لست خلون من رجب قبل نصف النهار سنة 240ه، ودفن من يومه، ووجه إليه محمد بن الأغلب بكفن وحنوط، فاحتال ابنه محمد حتى كفن في غيره وتصدق بذلك. قال أبو بكر المالكي: لما مات سحنون رجفت القيروان لموته، وحزن له الناس. ولسحنون تآليف كثيرة في فنون متنوعة، فقدت كلها وبقيت منها المدونة المشهورة إلى الآن، ولو لم يكن له غيرها لكفاه. وقبره بداره بباب نافع، بجانبه قبر العالم الشهير أبو إسحاق السبئي المتوفى سنة 356ه، وبجانبه أيضا قبر خلف بن منصور من أتباع أبي إسحاق المذكور رضي الله عنهم، وضريح سحنون مشهور يزار.
محمد بن سحنون
سمع العلم من والده سحنون، ومن عبد العزيز بن يحيى المديني، وموسى بن معاوية الصمادحي، وعبد الله بن أبي حسان. ورحل إلى المشرق سنة 335ه، فلقي أبا مصعب الزهري، وابن كاسب وسلمة بن شبيب النيسابوري. ألف كتبا كثيرة في فنون شتى، ولما سافر إلى مصر كان بها يهودي قوي العارضة، محجاجا في المناظرة، معروفا بذلك عند أهل مصر؛ فأخذ محمد بن سحنون يناظره من صلاة الظهر إلى أن طلع الفجر، فانقطع اليهودي في الحجة، وخرج ابن سحنون وهو يمسح العرق عن وجهه، وأسلم اليهودي، وشاع ذلك بمصر فأتى فقهاء مصر إلى محمد بن سحنون، ومن جملتهم أبو رجا بن أشهب، وسأله أن ينزل عنده ففعل، ولما جلس وحلق عليه العلماء وسألوه، فكان من جملة من أتى إليه المزني صاحب الشافعي، فجلس كثيرا لينفض الناس ويخلو به، فلما خرج قيل له: كيف رأيته؟ قال والله ما رأيت أعلم منه ولا أحد ذهنا على حداثة سنه، وكان إذ ذاك ابن خمس وثلاثين سنة.
ثم سافر محمد بن سحنون إلى المدينة، ودخل مسجد النبي عليه السلام، فوجد جماعة عظيمة محلقين على شيخ وهو متكي لكبر سنه، وهم يتنازعون في مسألة من مسائل أمهات الأولاد، فنبههم محمد بن سحنون على نكتة، فاستوى الشيخ جالسا وقررها، فزاد ابن سحنون أخرى، فقال الشيخ: من أي بلاد أنت؟ قال: من إفريقية. قال: من أي بلدة منها؟ قال: من القيروان. قال: ينبغي أن تكون أحد الرجلين؛ إما محمد بن سحنون، وإما محمد بن لبدة ابن أخي سحنون. فقال له: أنا محمد بن سحنون. فقام إليه وصافحه وخرجا من المسجد، وجعل ابن سحنون يملي على الشيخ بالطريق وهو يكتب المسألة.
من كمالاته وكرمه رضي الله عنه، عن أبي الحسن بن القابسي رضي الله عنه قال: إن رجلا كان يشتم محمد بن سحنون، وينال من عرضه ويؤذيه، فافتقر الرجل واشتد عليه الحال، فمضى إلى محمد بن سحنون لما يسمع من كرمه، فدخل عليه مترديا بأطمار فسلم، فأقبل عليه محمد بن سحنون، وقال له: ما حاجتك؟ وكان قبل ذلك يأتي إليه فيقول له «أحب أن أكلمك في أذنك» فيشتمه ويذهب، فيقول له محمد «جزاك الله خيرا» ولا يعرف أحد ما يقوله له إلى ذلك اليوم، فقال له: أصلحك الله، جئتك تائبا مما كنت أفعل. فقال له ابن سحنون: دع هذا واذكر حاجتك. فقال: والله ما أتاني إليك إلا الحاجة. فاسترجع ابن سحنون واغتم لذلك، وقال: يا أخي، نزل بك هذا وأنا في الدنيا! ثم كتب إليه رقعة وقال امض بها إلى فلان الصيرفي، فمضى إليه فأعطاه عشرين دينارا، فأخذها واشترى ما يحتاج إليه، وأتى بالحمالين إلى الدار، فقالت زوجته: ما هذا؟ فقال: هذا ما أعطاني الرجل الذي كنت أشتمه، وبعد أيام أرسل إليه محمد بن سحنون وقال له: تقدر على السفر؟ قال: نعم. فكتب إليه كتابا وقال: امض إلى قسطيلية. وسلمه إلى أناس من أهلها، وسمى له أفرادا، فلما وصل دفع الكتاب فأضافوه وأعطوه ثلاثمائة دينار وهدايا نفيسة، فظن الرجل أنها لمحمد بن سحنون، فلما وصل إلى القيروان دخل إلى محمد فأعطاه كتاب القوم، فلما قرأه استرجع وقال: حال الناس ما هكذا عهدناهم. فقال الرجل: يا سيدي، إن كان قد بقي لك عندهم حاجة فأنا أرجع إليهم ثانية. قال محمد: يا أخي إنها لك، فكأني لم أجد من أبعث إلا أنت، وإنما عجبت من تغير الزمان في هذا الوقت.
وحكى بعض الثقات قال: كنت بجامع المنستير وإذا برجل يقرأ في جوف الليل هاته الآيات:
وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور ، ويبكي ودموعه تقع على الحصير لكثرتها وهو يكرر الآية، وما زال يكررها حتى طلع الفجر، ولا أدري من يكون، فلما خرج إذا هو محمد بن سحنون.
ولي محمد بن سحنون رئاسة القضاء بالقيروان، وكانت وفاته بالساحل، وأتي به إلى القيروان، وغلقت الكتاتيب والحوانيت من أجل وفاته؛ وذلك سنة 256ه وعمره أربعة وخمسون سنة، وصلى عليه إبراهيم بن أحمد الأغلبي أمير إفريقية، ودفن بباب نافع خارج مقام أبيه سحنون بخطوات قليلة في حوطة بسيطة، ورثي بثلاثمائة قصيدة، ومنها تعرف عمارة القيروان، ونقاق سوق الأدب بها فضلا عن العلم. قال بعضهم يرثيه، وهي أبيات من قصيدة طويلة ونصها:
Bilinmeyen sayfa