كلمة الناقل
حياة شكسبير
مقدمة المسرحية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
كلمة الناقل
حياة شكسبير
مقدمة المسرحية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
ضجة فارغة
ضجة فارغة
تأليف
ويليام شكسبير
ترجمة
عباس حافظ
كلمة الناقل
أسلوب شكسبير في قصصه الماجنة
لم يكن شكسبير حين كلفت نقل قصة منه غريبا عني، فقد قرأته على عهد الشباب، كما يقرأ الشاب الكتاب خطفا، ويستعجل خاتمته شوقا ولهفا. وعدت أقرؤه في المشيب، بتدقيق وترو؛ وأمضي في قراءته على مكث؛ لأن نظرة الشيخ عن لمحة الشباب مختلفة. فلا عجب إذا وقعت اليوم فيه على معان لم أقع من قبل عليها. ورأيته يتجدد في خاطري، أبلغ مما بدا، والنظرة عجلى، والحماسة له مسرعة، والإعجاب به لا ينتظر كل العلم، ولا يقف حتى تتم المعرفة.
وكنت قد أدركت في الشباب أن قصصه المحزنة ملأى بمواقف للحكمة، ومواطن للفلسفة، ومشاهد لقوة الكلمة، وسلطان البيان. وأن الماجنة منها مفعمة مزاحا، مترعة طرائف وألاعيب وأفراحا. فهي دون الأولى براعة وأقل منها حذقا. فلما تناولت إحداها لنقلها، وجدت القوة في النوعين مؤتلفة، وتبين لي أن نقل مأساة أيسر لمن أوتي روعة العبارة، وسعة اللفظ وقوة التصوير؛ لما في القصة الماجنة من ضروب هزل تختلف كثيرا عن مثلها في العربية، وأساليب دعابة، وألوان بديع تأبى على الناقل.
رأيت هذه القصة مليئة جناسا من كل نوع، حتى في اختلاف النطق، وتباين التهجية، وأصعب شيء أن تنقل جناسا في الإنجليزية إلى مثله في العربية، وتحتفظ بالتماثل المراد فيهما، والتشابه اللفظي بينهما، فلا معدى لك من محاولة التقريب - وإن شق عليك - من شرح العبارة للقارئين.
ورأيتها كذلك قد ازدحمت بفنون من «التورية»، وهي لا تكاد تنقل إلى العربية لاستحالة التماثل فيها بين اللغتين. كما كثر فيها التلميح لأمثال قديمة أو أساطير غابرة، أو عبارات مقتبسة من كتب، أو أبطال خرافيين.
وقد عانيت كثيرا في ذلك كله، وعنيت بالهوامش والشروح قدر عنايتي بالمتون، ولم يسعفني الشراح في بعض الأحيان؛ لأن عبارات بأعيانها أعجزتهم، أو استغلق المعنى الحقيقي فيها عليهم. فاجتهدت في حل ألغازها مع المجتهدين.
وتكاد هذه القصة تدنو من «المأساة» أو القصة المحزنة؛ لأنها قائمة على «اتهام» بريئة، وفضيحة عروس وهي أمام المحراب توشك على زفاف. وليس عجيبا أن يختلط فيها العنصر الجدي بالعناصر الفكهة؛ لأن ذلك هو ما فعله المؤلف في أكثر من قصة هازلة، ونحن أبدا من شكسبير في عجب عاجب، فهو لا يضع رواياته مصنفة التصنيف الذي عرفناه، بين مسلاة، وملهاة، ودراما، أو ميلودراما عند المؤلفين الذين سبقوه؛ كميناندر وبلوتاس أو الذين جاءوا من بعده مثل كالديرون أو موليير، أو كونجريف أو شريدان، بل نحسب كل ملهاة أدنى ما تكون إلى الحزن أو ألم القلب، أو أحيانا إلى القلب الكسير، فهو كذلك في قصته «كوميديا الأخطاء»، وهو أيضا على هذا النحو في «جهد حب ضائع»، و«الليلة الثانية عشرة».
ولكننا في كل هذه الروايات الفكهة لا يخامرنا - لحظة - الشك في أن النهاية ستأتي سعيدة، والخواتيم ستعود موفقة حسنة، وهذا هو ما نلمسه من بداية قصتنا هذه؛ فليس ثمة مخادعة تضللنا، ولا خطأ يواجهنا، ولا مباغتة تبدهنا قبل أن نستعد لها، ولا أزمة نجهل سرها كما يجهلها أبطالها، بل كل أكذوبة تقال نعرفها قبل سماعها، ولا نشك في أنها ستكشف وتبدو مع السياق حقيقتها. ففي قصة الكيد الذي كيد لهيرو تبدو الحوادث في ظواهرها محزنة، ويراها أشخاص القصة أنفسهم كذلك، أما نحن الذين نعرف دقائقها، فلا نجهل أنها لا تزال في الدائرة التي تستمد منها «المسلاة» مادتها؛ لأن المأساة هنا تأتي إلينا بعد استعداد تمهيدي لها، فلا يصاحبها انفجار فجائي، ولا يقتضي الموقف خاتمة مخففة من وقعه، كما يحدث في أحد فصول «تاجر البندقية».
ويصح لنا هنا أن نصف قصتنا هذه بقولنا إنها قصة تدور حول «مخادعة النفس»؛ لأن شخصيتين فيها، وهما بياتريس وبنيديك يظلان محاولين معرفة قلبيهما، وكشف خبيئة عاطفتيهما. وفي هذا النوع من المسرحيات لا غنى للمؤلف عن البدار إلى تعريف النظارة بالأمر ليكونوا طيلة الوقت أعرف به من أشخاصها. وقد عرفنا من مطالعها فعلا أن بياتريس تحاول جاهدة إخفاء عاطفة صادقة، فلا نلبث أن نحس أن هذه الساخرة المتهكمة العابثة لن تمضي في عبثها إلى النهاية، بل ستنقلب إلى الجد، وترفع الستر عن خدر حبها الدفين.
وإذا نحن تذكرنا هذا كله، استطعنا أن نفهم نقد الشاعر كولريدج لشكسبير من ناحية عنصر «الحادثة» في رواياته، فهو القائل: «إن كل اهتمامنا بالحادثة عند شكسبير منصب على الأشخاص، لا عليها بالذات، كما هو الحال في روايات الكتاب الآخرين جميعا. فليست الحادثة عنده إلا قطعة من قماش يرسم عليها أشخاصه، ومن هنا ينهض الشفيع له في رسم شخصيتي بياتريس وبنيديك من نسق واحد وإبرازهما متماثلتين في نزعة الغرور والكبرياء، وإذا أنت نزعت من هذه القصة كل ما هو تزيد ظاهر، وحشو لا ضرورة له، أو ليس ثمة حاجة بالغة إليه، أو على أحسن الفروض، شخصيات الشرطي وزملائه الذين أدخلوا عليها افتعالا، وكان أقل منهم غباء كأشراط وحراس وافين بالغرض، فماذا يبقى بعد ذلك فيها.
لقد شهدنا في روايات الكتاب الآخرين أن المحرك الأكبر في «الحادثة» أو «العقدة» هو دائما البطل أو الشخصية البارزة، أما عند شكسبير فليس الأمر أبدا كذلك. وقد يكون أحيانا كذلك؛ أي أن الشخصية ذاتها هي التي تتألف الحادثة منها، أو قد لا تتألف. فقد جعل شكسبير «دون جون» في هذه القصة الأصل في الحادثة، ولكنه جاء به عارضا، ثم سحبه فلم يعد يسوقه إلينا وإن بدا العنصر «الشرير» فيها. وتركه شكسبير بغير مبرر للشر الذي ينزع إليه، أكثر من وصفه بأنه أخ غير شرعي للأمير، وشخص سوداوي حاقد مريض العاطفة. وعجيب من الشاعر الذي خلق لنا بعد ذلك شخصية «ياجو» في رواية «عطيل» أن يدع «دون جون» بغير دافع ظاهر، أو شفاعة واضحة.
والظاهر أن النقاد لم يفهموا شخصية «بياتريس» على حقيقتها، لقد وصفها الشاعر «كاميل» بأنها «مستهجنة»، وأن المرأة الطبيعية لا يمكن أن تكون كذلك. ومن قبله ذهبت كاتبة تدعى «مسز أنشبالد» تقول: «لو كان عند بنيديك وبياتريس أدب، أو ذوق، أو رفعة خلق، وأبيا أن يسترقا السمع على غيرهما؛ لجمدت القصة في مكانها، أو لاقتضت طريقة أخرى للسير بها في مجرى صالح».
ولم نكن نرتقب من «جول ليمتر» النقادة الفرنسي الكبير أن يسير في هذا الطريق ذاته، فيقول عن بنيديك وبياتريس إنهما «لا يطاقان» بل همجيان يرميان إلى الترائي بالمجون والذكاء، و«حيوانان ماكران» ...
ولكن الرد على هؤلاء النقاد يسير؛ وهو أن شكسبير في مطارحات الحب يجري على طريقة واحدة، في مختلف مسرحياته، وهي طريقة «اللف والدوران» أو الاستخفاء، فقد اتخذها في «جهد حب ضائع» وفي «عطيل»، بل أيضا في «روميو وچولييت» حين جعل الشرفة فاصلا بينهما، ولا يمكن أن يفوتنا من بداية قصتنا أن بياتريس امرأة، وأنها ينبغي أن يظفر بها، بل لا نتصور لحظة واحدة أنها قد قدر عليها أن تجلس في ناحية باكية والهة منادية «ألا من زوج ... ألا من زوج!» فإن كل نكاتها الساخرة تدور حول هذا الأمر بالذات، كما لا يفوتنا من البداية أن «بنيديك» هو الرجل الذي تريده وأنه الفتى الذي قدر لها أن تحبه.
وليست مجانتهما في الواقع إلا مجانة شكسبير نفسه، ولو جردنا أنفسنا من «الوثنية»، أو عبادة العبقرية عند التحدث في أبلغ مراتب الإعجاب عن شكسبير لأقررنا أن مجونه - كما يبدو على ألسنة شخصياته المضحكة، ومهاذير قصصه - كان المادة التي تتألف منها الأساليب الشائعة في بلاط الملوك على عهده، ومجالس الأشراف والعلية في زمانه. ولنتصور فتى من الريف تلوح عليه مخايل الذكاء، أو بوادر العبقرية، جاء إلى لندن ليجرب فيها حظه، فإذا هو يجد لهجة الكلام بين السادات، وأهل البلاط، وعلى المسرح الملكي ذاته، ملأى بفنون «التورية» و«الجناس» والكلام المنمق، فلا غرو وهو الفتى المتلهف على الظفر بمكانة مرموقة إذا هو التقط هذا النوع من الكلام، وراح يحذقه ويبرع في فنونه، ويملأ مسرحياته الفكهة بأعجب ألوانه.
ولسنا ننكر أن في مطالع هذه القصة التي ننقلها شيئا من التنكيت «الرخيص ». ولكن إذا نحن نفيناه منها، أو (غربلناه)، وراعينا أن بياتريس وبنيديك لم يكن بينهما غير «مراشقات» بالنكت، ووقفنا عند مشهدهما وهما يكشفان عن قلبيهما الصادقين عقب انصراف الجمع من الكنيسة، أدركنا مدى التأثير الذي يتجلى من خلال ذلك التظاهر بالسخرية، واصطناع الاستهزاء المتبادل بينهما.
ويروى أن جماعة من الأطفال والولدان شاهدوا هذه الرواية تمثل على المسرح، وكان أحد الممثلين القديرين يؤدي دور «بنيديك»، فلما انتهى التمثيل وصحب الأطفال إلى المحطة أحد مدرسيهم، وقفت صبية فوق الإفريز ورفعت صوتها، كأنها من فرط السرور في غيبوبة، قائلة: «لا يتصور أحد رجلا بديعا على هذه الصورة ...» وهي شهادة توحي بأن أحسن ما في شكسبير لا يزال شيئا يستطيع الطفل أن يقرأه، أو كما قال الأديب «تشارلس لام»: «درسا مليئا بكل خيال بديع، ورأي جميل، وفعل نبيل ...»
ولا نستطيع أن ننسى أن لهذه القصة بالذات مزية انفردت بها عن سائر المسرحيات الأخرى التي كتبها الشاعر؛ وهي أنها من أولها إلى آخرها إيطالية، وأدنى ما تكون من روح النهضة أو البعث الأدبي الذي ظهر في الغرب بعد القرون الوسطى، حتى لتجد كل أشخاصها يتكلمون من «الكتب»، وهم جميعا قراء حتى النساء منهم، أو على الأقل «بياتريس» فهي قد قرأت «المائة نادرة»، وبنيديك فهو يتحدث عن «لياندر»، و«ترويلاس»، وينظم شعرا. وكلوديو شاعر كذلك، فهو يعد مرثية ليعلقها على قبر الفتاة المسكينة التي قتلها بقسوة تهمته.
ولم يكن مفر لشكسبير، وقد أبرز روح تلك النهضة من جانبها الماجن من اقتباس الغدر الإيطالي، فجاءنا بشخصية «دون جون» والمكيدة التي دبرها للفتاة، ولقد ألف شكسبير تكرار نفسه في رواياته، فهو يردد أشياء في هذه، كان قد جاء بمثلها في تلك، مع تنويع جميل ينفي الملالة، ويحفظ الجدة؛ فلا يمكن أن يقال إن هذا التكرار منه دليل نقص في الخيال، أو عوز إلى الابتكار، ولكنه في الواقع مظهر ثروة، أو مراجعة حساب، وهو لا يأنف أن يستعير حادثة من أي مكان، أو أي إنسان، كأنما يقول «أعطوني» قصة إيطالية ، أو صفحة من أفلوطرخس، أو نادرة من أساطير الهند، وأنا أصطنع لكم منها «مكبث»، أو «هملت»، أو «روميو وچولييت».
وهكذا نرى هذه القصة ملأى بالأصدية، ونشهد أصديتها مترددة في آفاق غيرها من قصصه، فليست شخصيتا بياتريس وبنيديك سوى صورة أخرى من «بيراون وروزاليند»، كأنما قد مضى الشاعر يقترض من كيس نقوده، ويأخذ من حر ماله، ويهب منه أبطاله، ويعتز فيه بخياله، ويتقدم إلى الخلود مؤمنا بأنه الجدير به، الظافر من البشر بإعجاب باق على الزمان ...
حياة شكسبير
كتب خلق كثير عن حياة شكسبير، واختلف الرواة فيها أيما اختلاف، ولست أريد أن أعرض لهذا كله، أو أتقصاه من جميع جهاته، ولكني سأجتزئ هنا بالوقائع الثابتة، والأحداث المحققة، فلا أتحدث عن آبائه الأولين، فإن هذا الاسم «شكسبير» كان شائعا في القرون الوسطى، مدونا في عدة أقاليم من الجزيرة البريطانية، وكان قومه من الفلاحين، فهو فلاح من سلالة زراع وحراث يعملون في الأرض، والظاهر أن أباه «جون شكسبير» كان أخا نعماء - وصاحب شأن، في استراتفورد، وتزوج «بماري أردن» وهي فتاة ورثت عن أبويها أرضا ودورا ولكنها لم تتلق شيئا من العلم، وقد شوهدت بصمتها في عدة وثائق، ولم يثبت أنها كانت توقع باسمها. وكان «وليم» ثالث ابن رزقاه، وأكبر الأحياء من أولادهما بعد وفاة أخويه الأولين، وكان مولده في شهر أبريل عام 1564 بقرية «استراتفورد» القائمة على ضفاف نهر إيفون.
وكان أبوه يومئذ في أحسن حال، وأرغد عيش، ولم تكد تنقضي على مولد «وليم» ثلاثة أشهر أو نحوها، حتى تفشى الطاعون في القرية، وأخذ يحصد أهل الفاقة من بينها حصدا، فأقبل أبوه على إنقاذ الناس من هذا الشر المستطير كريما سمحا غير ضنين، ولكنه بعد بضع سنين غرق في الديون، وأحاطت به المتاعب، فاضطر إلى رهن عقار زوجته، وانصرف عن الاشتغال بالشئون البلدية والقروية في إقليمه.
طفولته وشبابه
وما لبث أن واجهته نفقات تعليم أولاده (وهم خمسة)، ثلاثة صبيان، وابنتان أصغر سنا من وليم، وكان الصبية يستحقون التعليم في المدرسة الأولية بغير نفقة فأدخلوا فيها، وبدءوا يتلقون مبادئ في اللاتينية، والنحو والصرف، والأدب وتواتى لوليم فيما بعد شيء من علم الفرنسية، فانتفع به في روايته التاريخية «هنري الخامس»، ولكنه لم يقض وقتا طويلا في المدرسة، لتدهور أحوال أبيه، وحين بلغ الثالثة عشرة، بدأ يشتغل «قصابا» وهي الحرفة التي أصبح أبوه يعتمد عليها في كسب قوته.
زواجه
وكانت تقوم على مقربة من استراتفورد دار ريفية معروشة السقوف، لا تزال تعرف باسم «كوخ آن هاتاواي»، وكان يقيم فيها آل هاتاواي، إلى عام 1838، وكان ريتشارد هاتاواي والد «آن» غنيا، فلما قضى نحبه، ترك ضيعة ورثها عن آبائه الأولين، فتولت رعايتها من بعده أرملته وأكبر بنيه، وكان نصيب كل بنت من بناته لا يتجاوز ستة جنيهات وثلاثة عشر شلنا وأربعة بنسات، وهو ما يساوي نحو مائة وستين جنيها في أيامنا هذه.
وقد تزوج شكسبير بالفتاة «آن» حين تجاوز الثامنة عشرة وكانت أكبر منه بعدة سنين، إذ كانت يومئذ تبلغ السادسة والعشرين.
ولا يحدثنا التاريخ كيف كان قرانهما على هذا الفارق في العمر، ولا كيف كان عيشهما، ولكن الثابت أن حياتهما لم تكن هنية رغيدة، وقد رزقا بنتين وولدا.
حياته الأولى
ولئن رأيناه يقول عن آن ... إن لآن هاتاواي، وما أدراك من آن هاتاواي، سبيلا لفتنة القلوب، وسحرا يجتذب الأفئدة ... فقد عجزت عن كبح جماحه، أو قص جناحه، أو رده عن هواه، فقد مضى يلهو بين أهل قريته، ولم تقنعه صنوف اللهو المألوفة في محيطه، فانطلق يختلط بقرناء السوء، وشرار الصحب، ويغير على أماكن الصيد التي يملكها أهل اليسار والسلطان، فيسرق الغزلان، ويصطاد الأرانب، حتى اضطر في النهاية إلى مغادرة القرية، وهجرة الأهل والنزوح عن البيئة التي نشأ فيها عدة سنين.
وقد اعتدى على حدائق السير «توماس لوسي» في شارلكوت أكثر من مرة في تلك الأيام، وكانت العقوبة يومئذ لا تقل عن الحبس ثلاثة أشهر، ودفع غرامة تقدر بثلاثة أمثال قيمة التلف الذي أحدثه، فلم يلبث أن اشتد حقده على ذلك الوجيه فراح يثأر منه بأبيات من الشعر علقها على أبواب حدائقه، وهي فعلة أثارت عليه غضب ذلك الكبير، وطالب بمزيد من العقاب، فلم يسع شكسبير سوى الفرار إلى لندن في عام 1585 للبحث عن عمل يسد منه أرماقه.
حياته في لندن
وتختلف الروايات بسبيل محاولاته الأولى عند قدومه إلى لندن، ولكن الثابت أنه لم يلبث بعدئذ أن اتجه إلى مهنة الممثل، ويقال إنه بدأ يؤلف روايات تمثيلية، أو يقتبس أخرى من الكتاب، ويعيد صياغتها، ويحور في ألفاظها وعباراتها، ثم يعرضها على الفرق التمثيلية، فتشتريها، وتنتقل ملكيتها من يده. وكان من عادة مديري هذه الفرق إحالة الروايات على المراجعين قبل عرضها على المسرح، وهذا ما حدث لروايته الأولى «جهد حب ضائع» التي يغلب على الظن أنه وضعها في عام 1591، فقد روجعت عام 1597 ونشرت في العام التالي باسمه. وكانت هذه هي أول مرة يبدو فيها اسمه منشورا على صدر كتاب من قلمه وتأليفه. والظاهر أن حوادثها لم تقتبس - كأكثر مسرحياته - من قصة قديمة أو كتاب سابق كما يبدو في روايته «روميو وچولييت» (1591-1593) وهي مأساته الأولى، فقد توالى اقتباس قصتها عدة مرات منذ وضعت في القرن الثاني قصة «أنتيا وابروكوماس» في اللغة الإغريقية، وكانت معروفة في طول أوربا وعرضها، وتكرر ظهورها نثرا وشعرا عدة أجيال.
أما قصة تاجر البندقية (1594) فقد رجع فيها إلى عدة مصادر، من بينها مجموعة قصص إيطالية كتبت في القرن الرابع عشر، ومن المرجح أن تكون أكثر مسرحياته قد استغرقت زهاء عشرين عاما من عمره، أو بين السابعة والعشرين والسابعة والأربعين؛ أي بمعدل روايتين في العام.
أهل السلطان الذين رعوه
وكان له بين الأشراف راع يدعى «الأرل أوف سلوتامينون»، وقد وجه إليه كثيرا من أغانيه، وإن لم يذكر اسمه صريحا، كما أبدت الملكة «إليزابث» نحوه شيئا من العطف في عام 1594 وطلب عقب تتويج الملك جيمس الأول للتمثيل في حضرته، وكان تمثيل رواية «العاصفة» ولعلها آخر ثمار عبقريته بمناسبة قران الأميرة إليزابث بالأمير فردريك عام 1613.
عودته إلى استراتفورد
وما كاد ينتصف به العمر حتى بدأ يهدأ ويتدبر مطالب الحياة، ويسعى جاهدا في معاودة العيش في العشيرة، والإخلاد إلى الحياة المنظمة، فعاد إلى استراتفورد، بعد هجرتها أحد عشر عاما، وإن ظل يزورها مرة على الأقل في كل عام، فاشترى في عام 1597 أكبر بيت في القرية لقاء ستين جنيها، وكان للبيت مخزنان للغلال وحديقتان، فعكف على إصلاحه، وعني بالحديقتين، ولعل هذا القدر اليسير من المال الذي اشتراه به يساوي اليوم 1540 جنيها. وقد سمي يومئذ «المكان الجديد»، وجعل الناس يدعونه قرية «الغني الوجيه». وزاد في نفوذه أنه استعان بأبيه على الظفر بشعار النبالة، وأصبح معدل إيراده السنوي من التمثيل والتأليف المسرحي كبيرا، وعندما تم تشييد مسرح «جلوب» في عام 1599 بدأ يتلقى حصة من أرباحه، فارتفع إيراده إلى مائة وثلاثين جنيها أو ما يساوي اليوم نحو ثلاثة آلاف، ثم نما على الأعوام أيضا، فأصبح رب ضيعة كبيرة وكان مولعا بالقضايا، كثير الدخول في المنازعات أمام المحاكم، وكثيرا ما كان يخرج منها كاسبا موفقا.
في أخريات أيامه
وقد أخرج أحسن رواياته في تلك الفترة السعيدة من حياته وهي جميعا قصص مرحة خفيفة الظل، ثم تلتها بعد عام 1600 ثلاث أخرى يغلب الجد عليها وهي: يوليوس قيصر، وهملت، وعطيل.
وفي عام 1606 أتم «مكبث»، ثم «الملك لير» التي مثلت في بلاط «هوايتهول» خلال شهر ديسمبر عام 1606.
والظاهر أنه انصرف عن التأليف للمسرح بعد عام 1611، ولبث مقيما في استراتفورد أكثر أيامه.
وبدأت صحته تعتل في بداية عام 1616، ولكن لا يعرف أحد أسباب وفاته، وكان ابنه الأوحد «هانمت» قد قضى نحبه قبل ذلك بعدة سنين، وقد ترك من بعده زوجه وابنتيه «سوسنة هول» و«جوديث كويني»، وكانت منيته في الثانية والخمسين، ودفن في كنيسة استراتفورد وكتبت على قبره أبيات من شعره البديع.
مقدمة المسرحية
(1) مصادر القصة: من أين استقى الشاعر موضوعه
تحوي هذه المسرحية المرحة حادثين؛ أولهما يتصل بثلاثة أبطال، وهم «هيرو، وكلوديو، ودون جون»، ويكاد هذا العنصر يبدو جادا في جملته، لا فكاهة فيه، والآخر مرح كله، ويتصل بشخصيتين بديعتين، وهما «بياتريس» و«بنيديك»، وإلى جانب هذين القسمين، عنصر إضافي ثالث تسري الفكاهة في جميع نواحيه، وهو يدور حول شرطي عجيب يدعى «دوجبري»، وصاحب له يسمى «فارجس»، والحراس الذين يعملون بإمرتهما، ويكشفون المكيدة التي كادها الحقد لاتهام «هيرو» العذراء بالخيانة والإثم. ولو حذفنا هذا العنصر الفكه من القصة، لفقدت خير ما فيها من متعة، وجردت من أبدع ما احتوته من فكاهة.
وقد استقى شكسبير موضوع المسرحية من مصدرين هما: (1)
قصة سان تمبريو دي كاردونا التي حوتها مجموعة قصص كتبت في اثنين وعشرين جزءا، وطبعت باللغة الإيطالية عام 1554 لمؤلفها «ماتيوبانديللو» أسقف آجن.
وكانت قد ترجمت إلى الفرنسية في عام 1582، واشتهرت في عهد شكسبير وأكبر الظن أنه عرفها، أو ظفر بنسخة منها في الإنجليزية، فقد نقلت إليها في أيامه أو قبيل ظهوره.
وليس من شك في أن موضوع هذه القصة التي ننقلها للعالم العربي مأخوذ من قصة «سان تمبريو» لتشابه الحوادث فيهما، وإن كانت القصة القديمة قد جرت أحداثها في «ميلانو»، وهذه في مسينا، كما تماثل اسم البطلة في القصتين وهو «ليوناتو وورد» في الرواية الإيطالية كذلك اسم «دون بدرو» ملك أرغونة. ويبدو أن شكسبير حذف شخصيته في القصة القديمة، وهي زوجة ليوناتو، وأم هيرو أو أنه أوردها في بداية الفصلين الأول والثاني ولكن إدارة المسرح أغفلتها ورأت ألا ضرورة لها.
والواقع أن عشر بطلات في روايات شكسبير جئن فيها بغير أمهات، ونعني منهن «بياتريس» و«هيرو» في قصتنا هذه، وكورديليا وديدمونة وأينوجن وإيزابيلا وميراندا وأوفيليا وبورشيا وروزالند.
وفيما يلي الحوادث التي استقاها شكسبير من بانديللو: (1)
طريقة الوساطة في خطبة كلوديو لهيرو. (2)
فسخ الخطبة في اللحظة الأخيرة والعروسان أمام الهيكل. (3)
مخادعة بوراشيو لكلوديو وتضليله. (4)
إغماء هيرو وادعاء وفاتها. (5)
زواجها من جديد. (2)
قصة «أريودانت وجنيفره» التي نقلها إلى الإنجليزية السير «هارنجتون» في عام 1591 من الجزء الخامس من قصص «أريوسطو» وهو الجزء الخاص برواية «أورلاندوفيرويوزو»، وكانت قد ظهرت لها ترجمة قديمة في عام 1565، ولكن لا نحسب شكسبير اطلع عليها أو استمد منها موضوعه.
ولم يكن اقتباسه منها كثيرا، فقد أخذ حكاية اختباء كلوديو في الحديقة ليطلع بعينيه على خيانة حبيبته، كما استمد تمثيل مرجريت لدور «هيرو» إفكا وبهتانا.
أما المكيدة وشخصيتا بياتريس وبنيديك، ومحاوراتهما البديعة ومواقفهما الممتعة، وأدوار «دوجبري»، وصاحبه والحراس والمشاهد الفكهة التي حوتها القصة فهي جميعا من مبتكر الشاعر العبقري ووحي خاطره الخصيب ... (2) أبطال القصة
يحسن قبل أن يبدأ المرء قراءة القصة أن يعرف شيئا عن شخصيات أبطالها، والصلة بينهم، ومعالم أخلاقهم ومنازعهم حتى تتفتح له فصولها، ويسهل عليه متابعة مشاهدتها، وما نحسب أحدا يجد روحا إلى حديث إنسان، أو سكونا إلى مجلسه، إذا لم يؤت علم شيء عن ماضيه، أو حاضره، أو مكانه من الناس.
ونحن هنا محاولون أن نرسم معالم الأشخاص، في غير استطراد، تاركين القصة ذاتها تتكشف لهم عند التنقل بين مشاهدها المتتابعة. (3) مدار الأحداث
تدور القصة حول واقعتين غراميتين، يصح أن تعد كل واحدة منهما منفصلة من الأخرى، وإن اختلطتا وترابطتا؛ لأنهما مختلفتان اختلافا بعيد المدى، حتى لتستمد كل واقعة من تناقضها والأخرى قوة وتزداد توكيدا، وليس من شك في أن أهمهما شأنا، لجد موضوعها وخطر أمرها، هي حب كلوديو وهيرو، فهي تبدأ (غراما) ثم تكاد تنقلب إلى مأساة قبيل أدوارها الختامية؛ وأما الأخرى، وهي غزل يبدأ سخرية، ثم يتطور حتى ليتراءى أشبه بكراهية ويتخلله مجون، ومطارحة بعبث، واستهزاء، ثم ينتهي هو أيضا بحب وإعلان، بعد مداراة وكتمان، ثم إلى زفاف وقران.
ولا ريب في أن كلوديو، هو البطل الأول، فلا معدى من إحلاله في الطليعة عند رسم شخصيات الأبطال.
كلوديو:
هو فتى من فلورنسا أصاب حظوة بالغة عند «دون بدرو» أمير أراجون، فهما لا يكادان يفترقان، حتى لقد أحفظت هذه الحظوة أخا للأمير يدعى «دون جون» وجعلته يعتقد أن هذا الفتى قد قام على أنقاضه. وأكبر الظن أن هذا التوفيق الذي أصابه كلوديو أثار في نفسه شيئا من الاعتداد بنفسه، حتى بدا شديد المخافة على كرامته، يخشى أن يتأذى كبرياؤه من أقل بادر، فلم يكد يوحي «دون جون» بأن هذا قد غدر به وراح يطلب الفتاة لنفسه، حتى اصطنع الاستخفاف بالأمر، ليخفي الجرح الذي أدمى كبرياءه قبل أن يمس حبه، وحين عاد هذا الذي ينفس عليه مكانه عند أخيه يحدثه عن خيانة «هيرو» ثار لكرامته، ولم يتريث حتى يتأكد الحق. ولكنا لم نلبث أن رأيناه حين حصحص الحق، يعترف بخطئه، ويرتضي أي عقاب يفرض عليه تكفيرا واستغفارا من فعلته.
ويبدو من سياق القصة في فصلها الأول أن حبه للفتاة لم يأت فجأة ولكنه نما في نفسه رويدا، وإن لم ينبعث في حماسة إلى إظهاره لها. كما لم يبد كسير الفؤاد حين مضى يستمع للوشاية بها ويصدق قول الواشي؛ وكان المرتقب أن يثور عليه ويطالبه بإثبات قوله، ولكنه غضب على الفتاة وأقسم أن ينتقم منها، بل لم يبد شيئا من الأسى حين تم له ما أراد من الثأر، فقد اكتفى به، وطلب إلى بنيديك أن يطرد بالمجون الهم عن نفسه.
ولكن ذلك كله على غرابته، لا ينفي أنه أحب الفتاة حبا بالغا لم يحل دون إظهاره غير اعتداده الشديد بنفسه.
هيرو:
رسم شكسبير شخصيتها على النقيض من ابنة عمها، فهي تبدو حيية منطوية على نفسها. على حين تلوح الأخرى برزة مستقلة فصيحة ماجنة كأن كلا منهما تبرز بهذا التناقض شخصية صاحبتها. ولكننا نحس دائما وجودها، وإن أقلت من الكلام، ونستشعر وقارها وحشمتها، ولا يقع كلامها على قلته قليل الخطر، بل يكسب الإعجاب به على إيجازه، وهي لا تخلو من ذكاء ومجانة، كما بدأ في تنفيذها حيلة اتفق عليها لحمل ابنة عمها على الرضى عن صاحبها الذي سلطت عليه النكات اللاذعة وبادلته السخرية المريرة، وقد شهدناها حين شهر خطيبها بها في الكنيسة على رؤوس الأشهاد، تلوذ بالصمت على فرط اضطرابهما للتهمة النكراء التي رميت بها، فلم تفتح فمها لتدافع عن شرفها إلا قليلا، حيال غضبة أبيها وثورة نفسه، ولم تظهر عقب إغمائها إلا في المشهد الأخير حين ثبتت براءتها، وفي هذا الموطن رأيناها تصفح عن «كلوديو» من أعماق قلبها، ولا توجه إليه كلمة ملام واحدة.
بنيديك:
فتى من المحسوبين على الأمير وأصحاب حظوته، وقد صوره شكسبير نقيضا لكلوديو، كما بدت هيرو نقيضة لابنة عمها، وإنه ليشق على المرء تحديد شخصيته مما كان الآخرون في القصة يقولونه عنه؛ فإن نحن سمعنا للذعات «بياتريس» وغمزاتها، أسأنا بعض الظن، وإن نحن تدبرنا مديح الأمير له، عجبنا لها كيف قست عليه إلى هذا الحد.
ويلوح لنا أن تظاهره بكراهية النساء مرجعه إلى شيء في خليقته ألف السكون إليه، وهو «العادة» حتى لقد قال عن نفسه إنه الجبار المشهود له بالقسوة عليهن، وإن كان قد أقام في الواقع فارقا ظاهرا بين رأيه الصادق الخالص وبين الفكرة التي أعلنها وادعى احترافها، وأشهد الناس عليها، وقد رأيناه يوحي إلينا بكلامه أنه لا يرضى من المرأة التي لا يتردد في الزواج بها بالشيء اليسير من المحاسن ووجوه الفضل، ولكنه يعترف بأن ما يراه فيها ويؤمن به قد يتحول إلى حب إذا اهتدى إلى المرأة المثالية التي يشترطها.
وهو يتلقى نكات بياتريس وغمزاتها راضيا غير غاضب ويجيب عنها ببراعة ظاهرة، ويعتز بفكاهته وحذقه للنكتة، ولا بأس عنده من أن تأتي على حسابه وتوجه إليه، إن جاءت طريفة مليحة ترضيه، وإن كان قد غضب في ذات نفسه لنكتة واحدة رمته بياتريس بها؛ وهي وصفه بأنه «مهذار الأمير»، فقد اعترف أنها أوجعته، وأحدثت أثرا بالغا في خاطره.
وقد عرفنا به في مطلع القصة الرسول الذي قدم لينبئ القوم بقرب مقدم الأمير، فقد قال عنه إنه قد عاد إلى المعارك مرحا كما كان أبدا، وهو رأي وجدنا جميع شخوص القصة يقرون الرسول عليه.
وقد جعلته طبيعته الرقيقة، أو سلامة فطرته، فريسة سهلة لمكايد الأمير وصاحبه، وعرضة لسخرية أصدقائه وشماتتهم به، ولا ريب في أن التضحية التي بذلها حين اعترف بأنه المغلوب المندحر كانت عميقة الأثر في نفسه الشفافة وعزته، ولكن علمه بأن بياتريس تتلوى من الحب له، كان يتغلب على تظاهره بكراهية النساء، فلم يلبث أن صدق الحيلة التي احتالها الأمير لإيقاعه في الحبالة، ولم يكن ثمة شك في حبه حين استطاع التغلب على بغضائه للزواج، ولم تكن هي لتحمله على مطالبة صديقه كلوديو بالخروج إلى المبارزة ركونا منها إلى الحب الذي يشتعل لها في صدره حتى استجاب لها، ونزل على حكمتها.
أما ذكاؤه فقد تجلى في عدة مواقف في القصة، فهو الأوحد الذي لبث في مشهد القران الذي انتهى بمأساة، وإغماء العروس، ساكن الأوصال، مستريبا بالفرية التي افتريت عليها. بل هو أول من ذهبت به الظنون إلى الشقي الذي دبر تلك المكيدة.
ولو أننا فصلنا واقعة حب كلوديو وهيرو من صلب الرواية لما أبقينا منها إلا على مواقف أليمة، ومشاهد لا يستروح الخاطر إليها، ولكن الشاعر العبقري جاء بهذه العلاقة بين بنيديك وصاحبته لتكون تلطيفا بديعا، ومزاجا سائغا، وتوازنا بهيجا، مع العناصر الجديدة التي تتألف القصة منها، حتى لقد تشابها في الاعتداد بالذات، والحرص على الكرامة، والشخصيتين الأخريين وهما كلوديو وحبيبته، وإن كان اعتدادهما يبدو مشبعا بمجانة بديعة وسخرية فكهة.
بياتريس:
إن أول ما يبدو هنا عند تحليل شخصية بياتريس هو تماثلها العجيب لشخصية «بنيديك»، فهي أبدا مرحة، خفيفة الظل، راضية بالحياة، وكل منهما مستطرد في مجانة ممتعة على حساب الآخر، متقبل غمزاته، غير ضائق بها، معتز ببراعته في الرد عليها؛ فلم نر بنيديك متبرما إلا بنكتة واحدة منها، وهي قولها عنه - كما أسلفنا - «مهذار الأمير». ولم نشهدها غضبى من نكاته، إلا من غمزته، حين قال إنها «محفوظات» استذكرتها من كتاب «مائة النادرة»، وهما على حد سواء في إظهار النفور من الزواج، وفي التغلب عليه حين سماع أقوال الآخرين عما يكابده صاحبه من آلام الحب وتباريحه.
وهي تحب ابنة عمها «هيرو» أصدق الحب، وتؤمن ببراءتها من التهمة التي رميت بها، حين صدقها الآخرون حتى أبوها، وتحمل بنيديك على قتل كلوديو عقابا له على ريبته بابنة عمها.
أما نفورها من الحياة الزوجية، كما نفر منها بنيديك، فلم يكن إلا تظاهرا ومراءاة، وقد بدت لنا في لهفة خفيفة على القران حين ظفرت به ابنة عمها من قبلها، فقد مضت تزفر قائلة «ألا من زوج، ألا من زوج!»، وهي صيحة هيهات أن تنبعث من قلب للزواج كاره ...
دون بدرو:
هو الأمير الذي يدين له «كلوديو» و«بنيديك» بالفضل في وثبتهما إلى الشهرة والمجد، فقد أراد أن يشبع ولوعه بالمرح واللهو فجمع من حوله صاحبيه هذين، ومضى يعنى بهما، ويطلب لهما الخير جاهدا، حتى لقد تولى بنفسه مفاتحة «هيرو» في أمر الزواج بكلوديو حتى ظفر له بها، وهو الذي أصلح بين بنيديك وبياتريس بتلك الحيلة اللطيفة التي دبرها، ولكنه بجانب هذا العنصر الطيب الكريم فيه لا يزال يشارك صاحبه «كلوديو» في سرعة تقلبه، وتصديقه لما يقال له، واستسلامه لتضليل المضللين، وقد لقي جزاءه بذلك الاعتراف الصريح الذي أدلى به «بوراشيو» حين قبض الحراس عليه.
ليوناتو:
هو حاكم مسينا، المدينة التي وقعت فيها أحداث القصة، كما يقول المؤلف في بيان «أشخاص الرواية»، ولكن منصبه هذا، أو اشتراكه في الحياة العامة، لا أثر له فيها؛ لأن مواقفه خلال فصولها متصلة بحياته الخاصة، وكل خطره وشأنه أنه والد «هيرو» التي أحبها أشد الحب، حتى لقد رأيناه حين شهر بها كلوديو على الملأ، يفقد رباطة جأشه، ويؤثر الموت على الحياة واحتمال هذا العار الذي جلبته على بيته وعشيرته.
وقد رأيناه يشرح مدى حبه لها، ويكشف عن مبلغ اعتزازه إياها، ولئن عبنا عليه ضعف الإيمان ببراءتها، وسرعة تصديقه لما نسج من الإفك حولها، فلا يزال له العذر، حين رأى ثلاثة شهود كبار يثق بهم يقرون أنها الأثيمة الجانية.
وليس من شك في أن الحفاوة التي لقي بها الأمير وصاحبه تدل على طيب فطرته وكرمه، وبحبوحة نفسه، حتى لا أثر فيها لكبر أو غطرسة أو ازدهاء، فقد راح في معاملته للشرطة والحراس يبدي جانب الرفق، ويصطبر للثرثرة، ويستأني لسماع كلام لا يفهم منه شيئا، كما كان يتقبل نكات «بنيديك» بالروح ذاتها التي كان هذا يرسلها. وهو يلوح لنا في مختلف مشاهد القصة ومواقفها الرجل الهين الذي رققت الرفاهية من خليقته، على النقيض من كلوديو الذي أفسدته صعدته إلى الشهرة والعبث البعيد.
ولم يتردد هذا الشيخ على ضعف بنيته في مجابهة الوشاة في حق ابنته وتحديهم ومغاضبتهم، وإذا لم يكن هذا التحدي قد ظهر في حرارة اللحظة بل بدا فيما بعد، عقب التروي والتفكير؛ فإن ذلك كله شاهد على شجاعته.
أنطونيو:
هو أخوه، وليس له دور كبير في القصة، فلا يبرز على أحسنه إلا في مطلع الفصل الخامس حين يتحدى الأمير وصاحبه؛ ويظهر على تقدمه في السن، شجاعة رائعة، وحماسة متقدة في الدفاع عن شرف ابنة أخيه.
دون جون:
هو شخصية الشرير في القصة، والمسئول عن كل المتاعب التي حلت برب البيت وأهله؛ فحدة المزاج، والكآبة الملازمة، والغيرة الكظيمة، كلها بواعث قوية على ما نرى من نذالته وسوء مسلكه؛ فلا نجد في القصة شيئا يبرئه من الإثم، أو يكفر عن سيئاته، ولعله الحقد الذي كان يأكل قلبه على كلوديو الذي كان يصفه بأنه «محدث النعمة»، وأنه ارتفع على أنقاضه، فلا عجب إذا رأيناه في وسط هذه الطبائع المرحة الفرحة بترفها ونعمائها مناقضا لها على خط مستقيم، فلم يكن ليبتسم يوما للحياة، ولا الحياة ابتسمت يوما له، ولكنه لبث حامضا، كئيبا، ضجرا، متبرما، يجمع من حوله أتباعا على غراره، وخولا من أشباهه؛ وهو أبدا المقل من الكلام، المتحفظ، المبدي ضجره وبرمه وبروده لكل إنسان، حتى ليقول عن نفسه إنه ليؤثر أن يكون مستهدفا للسخرية والامتهان على أن يغتصب من أحد حبا، أو ينتزع من قلب ودا. وقد استمكن الحقد منه على كلوديو فلم يتردد في تدبير أية حيلة للإساءة إليه حتى لقد أجزل العطاء لمن ارتضى أن يتولى ذلك عنه، كأنما قد وكل بأن يدمر سعادة الناس ويخلق لهم المتاعب، ويرنق عيش أصحابه ...
بوراشيو وكونراد:
هما تابعا «دون جون» اللذان أعاناه على تدبير المكيدة، أما الأول فهو الذي اقترحها عليه وتولى التنفيذ، واستغل الوصيفة مرجريت الساذجة في تضليل كلوديو، ولكنه حين أدرك أن فعلته قد انكشفت لم يتردد في الاعتراف، وترك في نفوسنا أثرا حسنا من ناحيته.
وليس لكونراد دور يذكر في الرواية إلا مجرد الشريك السلبي لبوراشيو، والزميل الذي سمع نبأ المكيدة منه، حين كان الحراس يسترقون السمع عليهما.
مرجريت وأرسولا:
مرجريت صاحبة بوراشيو والمشتركة معه على جهل أو حسن نية، فقد حملها على تمثيل دور «هيرو» أو الظهور ليلا في الشرفة، لينخدع كلوديو، ويعتقد أن هيرو خائنة.
أما أرسولا فهي الوصيفة التي حذقت دورها في الحيلة التي دبرت لبياتريس، حتى تقتنع بأن بنيديك يحبها، وهي الحيلة التي أراد بها الأمير دون بدرو أن تثني بياتريس عن غيها، ويعدل بنيديك عن مجونه، ليقرب بينهما، ويدفع بهما إلى مصارحة الآخر بحبه.
دوجبري وفارجس:
شريطان مضحكان يشيعان في أفق القصة مرحا وبهجة، كلما خيف أن تدنو من الجد، أو تفقد خفة الروح، وإليهما يرجع الفضل في كشف المكيدة التي دبرت للقضاء على العذراء «هيرو» وانصراف كلوديو عن القران بها، شفاء لوجدة «دون جون» عليه، أن غلبه في الحظوة عند أخيه.
ولم يكن كشفهما للمكيدة عن ذكاء، فهما غبيان، وإن كان غباؤهما لطيفا يستريح الخاطر إليه، وإنما وقعا على الحقيقة بمحض المصادفة، وهما يشرفان على العسس في الطريق العام الذي يقع فيه بيت ليوناتو الحاكم.
والواقع أن التحقيق الذي تولياه مع الرجلين اللذين قبضا عليهما - وهما بوراشيو وكونراد صنيعتا «الشرير» «دون جون» - لم يكشف شيئا يعين على جلاء المكيدة، ولولا اعتراف بوراشيو لكلوديو الأمير في الفصل الخامس لما استطاع هذان الشرطيان إزاحة الستار وحدهما عن جلية الأمر وخافيته.
ولعل أبدع ناحية في هاتين الشخصيتين المضحكتين ولوعهما بإظهار الجد، وتحريف الكلام، والترائي بالعلم، وهما منه خلاء، فإن لأولهما «دوجبري» طريقة ممتعة في التظاهر بالعلم، وهو الجاهل، وحسبان الخطأ هو الصحيح، والإلقاء بالحكمة السائرة، في عبارات من لغته البعيدة من كل معروف ومألوف.
الكاهن:
هو الأخ فرانسس - ولعله من لقبه راهب من جماعة الإخوة - أو الفرير لأن كلمة
Friar
هي وكلمة «فرير» سواء، ولكنا آثرنا أن ندعوه «الكاهن»؛ لأنه هو الذي جيء به ليعقد القران فجرت مأساة التشهير بالعروس وهي أمام الهيكل على عينيه.
ولهذا الكاهن دور كبير الشأن في القصة، فهو رجل أوتي علما بخوالج النفوس، ودراسة الشخصيات، فلم يلبث عقب الفضيحة التي حدثت في محضره وأدت إلى إغماء العروس، أن ذهب خاطره إلى أنها بريئة مما اتهمت به، فوضع خطة لتبديد الريبة، وكشف الحقيقة لعلها رادة كلوديو إلى حبه. وقد نجحت تلك الخطة من بوادرها، لولا موقف التوعد والتحدي الذي اتخذه ليوناتو وأخوه أنطونيو عند لقائهما كلوديو والأمير عقب الحادثة التي وقعت في الكنيسة، ولكن هذا الموقف لم يأت بالنتيجة التي كان الكاهن يرجوها، وهي شعور كلوديو بالندامة، بل تجاوز ذلك إلى أمر زاد في نجاح الخطة، وهو استجابته لما أريد منه بغير تردد أو اعتراض ... (4) معالم بارزة في فصول القصة ومشاهدها
تنتظم روايات شكسبير مجموعتين؛ الأولى ظهرت كلها قبل عام 1595 وهي «جهد حب ضائع»، و«مهزلة أغلاط»، و«حلم ليلة صيف»، و«سيدان من فيرونا»، و«روميو وچولييت»، و«ريتشارد الثاني والثالث»، و«هنرى السادس» في أجزائها الثلاثة؛ وتشمل الأخرى - وهي الفترة الثانية بعد ذلك التاريخ - «الملك جون»، و«تاجر البندقية»، و«ترويض الشريرة»، و«هنري الرابع» بجزأيها، و«زوجات وندسور المرحات»، و«هنري الخامس»، و«كما تشاءون»، و«الليلة الثانية عشرة»، وهذه القصة التي ننقلها إلى العربية وهي إحدى ثلاث مسرحيات كتبها المؤلف في أرغد أيامه، وأبهج أدوار حياته، وأملأ مراحلها فكاهة ومرحا، قبل أن ينتقل إلى النواحي الجادة من حياة الناس، ويرسم مآسي عيشهم، ويصور أفاعيل غرائزهم، بعد أن فرغ من رسم صنوف نزقهم، وألوان حماقتهم، وضروب لهوهم في الحياة. فقد وضع في هذا الدور مآسيه الخالدات، يوليوس قيصر، وهملت، وعطيل، والملك لير.
وقد امتازت المسرحيات الثلاث التي أسلفنا ذكرها بسمو الخيال، ولطف الخاطر، واكتمال الفن، وطرافة النكتة، وخفة الظل، وبعد مطارح المجون.
وسيرى القارئ مبلغ ما ازدحمت به هذه القصة من لمع الفكاهة، وأبدع ألوان المجانة، على قلة عناصر الموضوع فيها وندرة الحوادث خلالها، حتى لتكاد تكون (حوارا) جميلا، ومساجلات فكهة، وإن لم تخل جملة من مواقف رائعة، لعل أبدعها وأروعها المشهد الذي بدأ في الكنيسة، حين انبرى العروس يشهر على رؤوس الأشهاد بعروسه، ويرميها بالخيانة والعار، وما أعقب هذا التشهير من إغمائها أمام الهيكل، قبيل حفل الزفاف.
فقد يكون مشهد كهذا في رواية مرحة أكثر مما تحتمله الأعصاب، أو يتسق والموضوع الذي تدور القصة حوله، ولكن ما يخفف من أثرها أن النظارة الذين يشاهدونها، والقراء الذين يطالعونها، يعرفون أن التهمة التي رميت العروس بها وليدة مكيدة مدبرة، ويعلمون أنها بريئة منها كل البراءة، وإن جهل الأمر أبطالها الآخرون، ووقعت التهمة من نفوسهم أسوأ موقع. وفي ذلك يقول «شليجل»: «إن هذا المشهد هو قطعة رائعة بكل معاني الروعة، وإن تأثيرها المسرحي لا يكاد يدانيه شيء، وكان وقعها سيروح محزنا فاجعا، لولا حرص شكسبير على التخفيف من حدته، توطئة لظهور حادث سعيد، والمضي بالقصة إلى نهاية موفقة ...»
وناهيك بما في الحوار المستمر بين «بياتريس» و«بنيديك» والتراشق بالنكت المليحة من ثروة مجانة وارتفاع بالغ في آفاق السخرية واللعب بالألفاظ، والافتنان في مختلف ألوان البديع والبيان.
ولا نحسب ما حفلت به مسرحية «كما تشاءون» من حوار بين «أورلندو» و«روزالند» يضارع مثيله في هذه القصة أو يقع قريبا منه، إلا أن التراشق بالنكات بين بياتريس وبنيديك هنا يبدو لاذعا موجعا مليئا بسخرية، بينما يغلب على مثله في المسرحيات الأخرى طابع المجانة البحت والعبث الخفيف.
فقد صور الشاعر بياتريس وبنيديك خلال قصتنا هذه في صور المتمردين على الحب، المتأبيين على فكرة الزواج، الساخرين من الرجال والنساء بالسواء، ومضى يرسم لنا في حذق بالغ كيف دبر أصحابهما لهما مكيدة لطيفة لحمل كل منهما على الإيمان بأن الآخر يكن الحب له ويخفى الميل إليه في أعماق صدره، وأغوار جوانحه.
وقد رأينا أصحابهما ينسبون لأنفسهم فضل هذا التحبيب بينهما إلى لطف وسيلتهم وبراعة مكيدتهم، ولكن حرص كل منهما على هذا العبث اللاذع بالآخر كان في ذاته دليلا على نمو الميل إليه، واستمكان الحب منه، وحين اعترفا به، لم يفارقا المجون لحظة، ولم ينصرفا من السخرية والتهكم ، ولم يسكنا إلى الجد غير مرة، عندما وقفا وقفة الدفاع عن البريئة المتهمة.
وليس من شك في أن شكسبير لم يخطئ المرمى، لأن المولعين بالنكتة ينتهون في أغلب الأحيان عند نقطة لا يرتضون اجتيازها، ما لم يشاءوا أن يؤخذوا مأخذ المهاذير المغفلين.
وسيرى القارئ كيف مضى شكسبير في تصوير بياتريس يحدثنا عن مدى اجتماع قوى العقل والحيوية وتفاعلهما في مثل تفاعل النار والماء، على حين جعل بنيديك الذي يكره النساء ويجاهر ببغضهن، يتحول ببراعة ظاهرة إلى فكرة الزواج، على أثر سماعه بنبأ حب بياتريس له.
وجاءت شخصية «هيرو» العروس التي اتهمت ظلما متقنة التصوير، متناقضة أبدع التناقض وشخصية الماجنة اللاذعة بياتريس، وبدت علاقة الفتاتين طبيعية تملك الإعجاب، فقد صور المؤلف «هيرو» قليلة الكلام عن نفسها، مستعينة عنه ببلاغتها في ذاتها، وجعل الأخرى تسمو عليها بروحها الجياشة وعقلها الجبار، وإن كانت «هيرو» إلى جانب جمالها ورقتها، قد أوتيت بوصفها بطلة القصة جمالا روحيا منقطع النظير.
وسيتبين القارئ أيضا أن الشاعر جعل، كلما مالت به القصة إلى ناحية الجد المفرط، يعود فيخفف من حدتها بمشاهد فكهة، ومحاورات طلية، وبخاصة المشهد الذي يتجلى فيه الشرطي المتعالم وأصحابه الذين استعان شكسبير بهم، إلى جانب عنصر الفكاهة في أشخاصهم وتصرفاتهم، على كشف المكيدة التي دبرها الحقود «دون جون» وخادمه «بوراشيو» بأسلوب مفعم مجانة وطريقة لطيفة المدخل على النفوس. (1)
أشخاص القصة:
دون بدرو:
أمير أراجون.
دون جون:
أخ له غير شرعي.
كلوديو:
فتى نابه من نبلاء فرنسا.
بنيديك:
فتى نابه من نبلاء بادوا.
ليوناتو:
حاكم مسينا.
أنطونيو:
أخوه.
بالتازار:
أحد موالي دون بدرو.
كونراد، بوراشيو:
من أتباع دون جون.
فرانسس:
الراهب.
دوجبري:
شرطي.
فارجس:
زميل له.
خادم كنيسة.
غلام.
هيرو:
ابنة ليوناتو.
بياتريس:
ابنة أخيه.
مرجريت، أرسولا:
وصيفتان لهيرو.
رسل وحراس وأتباع. (2)
وقائع القصة:
في مسينا.
الفصل الأول
المنظر الأول
أمام بيت ليوناتو (يدخل ليوناتو وهيرو وبياتريس مع رسول.)
ليوناتو :
لقد علمت من هذا الكتاب أن «دون بدرو» أمير أراجون قادم الليلة إلى مسينا.
الرسول :
إنه الساعة جد قريب، فقد كان على ثلاثة فراسخ منها حين تركته.
ليوناتو :
كم من السادات فقدتم في هذا القتال؟
الرسول :
قليلا من مختلف الرتب، ولم نفقد من العلية أحدا.
ليوناتو :
إن النصر ليعد مزدوجا، حين يعود المنتصر إلى وطنه كامل العدد، تام الصفوف وقد علمت من هذا الكتاب أن دون بدرو قد أضفى شرفا عظيما على فتى فلورنسي يدعى كلوديو.
الرسول :
لقد استحقه من جانبه عن جدارة بالغة، وعن نصفه من جانب دون بدرو، بالسواء، فقد تجاوز في مسلكه، ما كان مرتقبا ممن في مثل سنه، وفعل وهو الحمل ما يفعله الأسد، وفاق في الواقع ما كان منتظرا أكثر مما تنتظر مني أن أصفه لك.
ليوناتو :
إن له عما هنا في مسينا، سيسر بهذا سرورا عظيما.
الرسول :
لقد حملت إليه الساعة كتبا؛ فغلبه فرح شديد إلى حد جاوز الاعتدال، فلم يستطع فرحه أن يبدو خاليا من مظهر أسى، ودلائل حزن.
ليوناتو :
هل أجهش بالبكاء؟
الرسول :
في فيض زاخر.
ليوناتو :
إنه لفيض طبيعي من غريزة الحب، فليس في الوجوه وجه أصدق مما تغسله الدموع، إن البكاء للفرح لأفضل كثيرا من الفرح للبكاء.
بياتريس :
نبئني من فضلك هل عاد السنيور مونتانتو؟
1
من الحرب أو لم يعد؟
الرسول :
لا أعرف أحدا بهذا الاسم يا سيدتي، وليس في الجيش امرؤ ذو شأن يحمل هذا اللقب.
ليوناتو :
من هذا الذي تسألين عنه يا ابنة الأخ؟
هيرو :
إن ابنة العم تقصد السنيور بنيديك من أهل بادوا.
الرسول :
آه ... لقد عاد، مرحا كديدنه.
بياتريس :
لقد أعلن هنا في مسينا تحديه «لكيوبيد»
2
في الرماية بحداد النبال، التي تصمى من المسافات الطوال، ولكن مهذار عمي حين قرأه، قبل عن كيوبيد تحديه، في الرماية بالسهام القصار، التي ترمى بها الأطيار.
3
نبئني كم تراه قتل وأكل في هذا القتال، بل نبئني كم تراه قتل؛ لأني في الواقع وعدته أن آكل جميع قتلاه.
4
ليوناتو :
يمينا يا ابنة الأخ، إنك لمفرطة في التهكم بالسنيور بنيديك، ولكني لا أشك في أنه سيصفي معك حسابه .
الرسول :
لقد أبلى في هذه الحروب يا سيدتي بلاء حسنا.
بياتريس :
لقد كان عندكم طعام زنخ فساعدكم على أكله؛ لأنه النهم الجريء على الخوان وقد أوتي معدة جيدة.
الرسول :
وهو جندي شجاع أيضا يا سيدتي.
5
بياتريس :
جندي شجاع لسيدة، ولكن من هو أمام سيد؟
الرسول :
إنه لسيد أمام سيد، ورجل قبالة رجل، حشوه جملة المكارم والمناقب.
بياتريس :
حقا إنه لكذلك، فما هو إلا رجل محشو. أما عن الحشو ذاته، فكلنا بشر.
ليوناتو :
لا تخطئ يا سيدي في فهم ابنة أخي.
إن بينها وبين السنيور بنيديك حربا فكهة، فلا يلتقيان مرة إلا ونشبت بينهما مناوشة مزاح.
بياتريس :
ولكنه للأسف لا يكسب منها شيئا، وفي آخر معركة بيننا راحت أربعة من أحاسيسه الخمسة
6
تمشي عرجاء ظالعة، فلم يبق له منها اليوم إلا واحدة، فإن كانت له مسكة من ذكاء تكفي لتدبير أمره ورعاية شأنه، فليحرص عليها، حتى تكون فارقا بينه وبين حصانه؛ لأنها كل ما يملكه ليبدو مخلوقا عاقلا، من اليوم رفيقه؛ لأن له في كل شهر صديقا وفيا.
الرسول :
أجائز هذا؟
بياتريس :
إنه جد جائز ممكن.
إنه يبدل عهوده كما يغير قبعته، فهو يغيرها كلما استحدث قالب أو تغير زي.
الرسول :
يلوح يا سيدتي أن السيد ليس في حظوتك، ولا هو في كتبك ودفاترك.
7
بياتريس :
بلى، ولو أنه كان كذلك لأحرقت مكتبتي، ولكنني أسألك من رفيقه؟
أليس ثمة فتى شكس يذهب معه في سفرة إلى الشيطان؟
الرسول :
إنه أكثر ما يبدو في رفقة النبيل كلوديو.
بياتريس :
يا لله! إنه سيلازمه ملازمة الداء، بل هو أسرع إليه من الوباء، فلا يلبث المصاب أن يجن. كان الله في عون كلوديو النبيل
إذا كان قد أصيب ببنيديك
8
لسوف تكبده تلك العلة ألفا من الجنيهات قبل أن يقدر له الشفاء.
الرسول :
سأحرص على مودتك يا سيدتي.
9
بياتريس :
افعل أيها الصديق الكريم.
ليوناتو :
لن تصابي يا ابنة الأخ بجنون يوما.
بياتريس :
أبدا، أو يأتي شهر يناير حرا وصهدا.
10
الرسول :
ها هو ذا «دون بدرو» مقبل. (يدخل دون بدرو ودون جون وكلوديو وبنيديك وبلتازار.)
دون بدرو :
يا سنيور ليوناتو الكريم، لقد جئت لتلاقي عناء، إن ديدن العالم تجنب المتاعب، وديدنك أنت مواجهتها.
ليوناتو :
ما طرق العناء يوما بيتي، في صورة سماحتك، وما دام العناء قد ارتحل، فقد آن للراحة أن تحل، ولكن حين تفارقني، يقيم الحزن عندي ويلازمني، ويولي عني السرور.
دون بدرو :
إنك تتقبل المغارم مفرطا في الرضى بها، أظن هذه ابنتك.
ليوناتو :
هكذا قالت لي أمها مرارا.
بنيديك :
هل كنت في شك يا سيدي حتى تسألها؟
ليوناتو :
لا، يا سنيور بنيديك، لأنك كنت يومئذ طفلا.
دون بدرو :
هذه لطمة «قوية» يا سنيور بنيديك، ومنها نستطيع أن نحزر من تكون، وأي رجل أنت، حقا إن السيدة قد دللت على بنوتها لأبيها، اسعدي يا سيدتي لأنك شبيهة بأب كريم.
بنيديك :
لو كان السنيور ليوناتو أباها لما رضيت برأسه على كتفيها
11
ولو أعطيت مسينا بأسرها ما دامت كما هي شبيهة به.
بياتريس :
عجبي لك يا سنيور بنيديك، إنك لا تنقطع عن الكلام، ولا أحد يلتفت إليك.
بنيديك :
وي ... ألا تزالين أيتها (السخرية) العزيزة حية؟
بياتريس :
وهل يمكن أن تموت السخرية، ولديها مثل السنيور بنيديك طعاما شهيا ...؟ إن المجاملة ذاتها لتنقلب حتما إلى سخرية، لو مثلت حضرتها.
بنيديك :
المجاملة إذن متقلبة غادرة، ولكن الذي لا ريب فيه أنني محبوب من النساء جميعا ما عداك، ووددت لو أجد في نفسي أني لست قاسي القلب، لأنني في الحق، لا أحب منهن واحدة.
بياتريس :
ذلك من حسن حظ النساء، وإلا لأصبن بخطيب خبيث، وإني لأحمد الله، ودمي البارد، على أن مزاجي شبيه بمزاجك في هذه الناحية حتى لأوثر أن أسمع كلبي ينبح غرابا، على أن أسمع رجلا يقسم أنه يحبني.
بنيديك :
أرجو الله أن يبقيك دائما على هذا الرأي، حتى ينجو الرجال من خدش الوجوه المقدر لهم، إذا هم أصيبوا بك.
بياتريس :
لن يستطيع الخدش أن يجعل وجوههم أسوأ صورا، إن كانت مثل وجهك.
بنيديك :
حقا إنك لمعلمة ببغاوات نادرة.
بياتريس :
لطائر لساني خير من وحش مقولك.
بنيديك :
وددت لو أن لحصاني سرعة لسانك، وجلده على الاستمرار، ولكن بالله عليك امكثي حيث أنت، فقد انتهيت أنا واكتفيت.
بياتريس :
إنك لتنتهي أبدا بمكر الحصان المكدود، حين يخرج رقبته من الطوق
12
إنني أعرفك من زمن بعيد.
دون بدرو :
إليك يا ليوناتو جملة الخبر، إن صديقي العزيز ليوناتو، دعاكما يا سنيور كلوديو ويا سنيور بنيديك إلى ضيافته، وإني لقائل: إننا سنقيم هنا شهرا على الأقل
13
وهو يرجو من صميم قلبه أن تعرض مناسبة فتجعل مقامنا عنده أطول أمدا، وفي وسعي أن أقسم أنه ليس بمنافق، ولكنه يرجو هذا من كل قلبه صادقا.
ليوناتو :
إذا أقسمت يا مولاي فلن تكون في قسمك حانثا (إلى دون جون)
أهلا بك يا مولاي وسهلا، إني لمؤد لك كل الواجب ما دمت أنت والأمير أخوك في صفاء.
دون جون :
أشكرك، وما أنا بأخي بيان
14
ولكني شاكر لك.
ليوناتو :
تفضل يا مولاي فتقدم بنا.
دون بدرو :
هات يدك يا ليوناتو ولنسر معا. (يخرج الجمع إلا بنيديك وكلوديو.)
كلوديو :
هل لاحظت يا بنيديك ابنة السنيور ليوناتو؟
بنيديك :
لم ألاحظها، ولكني شاهدتها.
15
كلوديو :
أليست ذات خفر وشباب؟
بنيديك :
هل تسألني سؤال رجل صادق يطلب رأيي الصريح وحكمي الحق، أو تريد مني أن أتكلم على عادتي كلام جبار مشهود له
16
بالقسوة على النساء كلهن؟
كلوديو :
كلا، أناشدك أن تتكلم بهدوء، وتتروى في الحكم.
بنيديك :
يلوح لي حقا أنها «أقصر» قامة مما يستحق مديحا (طويلا)، وأسمر لونا مما يستأهل إطراء زاهيا، وأضأل بدنا مما يستوجب ثناء عظيما
17
وليس لها عندي ما يزكيها إلا شيء واحد، وهو أنها لو لم تكن كما هي، لكانت غير مليحة، أما وهي هي، فلست أستحسنها.
كلوديو :
هل تظنني هازلا؟ إنني لأرجو إليك أن تنبئني حقا ما شعورك نحوها.
بنيديك :
هل تريد أن تشتريها؛ ومن أجل ذلك تسأل عنها؟
كلوديو :
هل في وسع الدنيا أن تشتري جوهرة كهذه؟
بنيديك :
نعم، وحقا لتوضع فيه، ولكن أتتحدث عن جد أم تريد العبث بي ؟ لتقول لنا إن كيوبيد بصير ككلب الصيد، وإن فولكان نجار نادر؟
18
ألا قل لي أي نغمة أتخذ لكي أوائم أنشودتك، أنغمة فرحة أم محزنة تريد؟
19
كلوديو :
إنها في عيني أملح امرأة وقع عليها ناظري.
بنيديك :
لا أزال قديرا على النظر بغير منظارين، ولكنني لا أرى شيئا من هذا القبيل. انظر إلى ابنة عمها، إنها لتفوقها كثيرا في الجمال، كما يفوق أول مايو آخر ديسمبر، لولا سرعة الغضب التي تتملكها، ولكني أرجو ألا تكون منتويا أن تنقلب زوجا؛ أتراك انتويت؟
كلوديو :
لا أحسبني أستطيع السيطرة على نفسي إذا رضيت هيرو أن تكون زوجتي، وإن كنت قد حلفت لا أكون زوجا.
بنيديك :
هل وصل الأمر إلى هذا الحد؟ يمينا أليس في الدنيا رجل واحد لا يلبس قبعته موسوسا متشككا؟
20
ألن يقدر لي مرة أخرى أن أرى رجلا أعزب في الستين من العمر ... ماذا أصابك، يمينا، لو استوجب الأمر إدخال عنقك في النير فالبس شعاره أيام الأحد، واقضها في شكاة وأنين، فعل المصلين العابدين المستغفرين
21
انظر ها هو ذا «دون بدرو» عائد لافتقادك. (يدخل دون بدرو.)
دون بدرو :
أي سر احتجزك في هذا المكان فلم توافنا إلى دار ليوناتو؟
بنيديك :
أرجو من سماحتك أن تعفيني من الكلام.
دون بدرو :
إنني ألزمكه بحق ما لي عليك من ولاء.
بنيديك :
هل سمعت يا كونت كلوديو، أن في وسعي أن أصمت صمتة الأبكم، وأحب أن تفهم هذا عني، أما وهو كما ترى ملزمني الكلام بحق ما له من ولاء - إنه يناشدني القول بحق الولاء، فلا معدى لي من القول «إنه يحب» أما من، فذلك هو دور سماحتك في استطلاع جليته، وانظر بعد إلى (قصر) الرد الذي هو راده، إنه يحب ... «هيرو» القصيرة ابنة ليوناتو.
كلوديو :
إذا كان الأمر كذلك فقد باح به.
بنيديك :
كالقصة القديمة يا مولاي، «ليس الأمر كذلك، ولم يكن كذلك، ومعاذ الله أن يكون كذلك».
22
دون بدرو :
يمين الحق لقد قلت ما أعتقد.
كلوديو :
ويمينا يا مولاي، لقد أفصحت أنا عن خاطري.
بنيديك :
وبالحقين واليمينين يا مولاي معا، لقد جهرت بما أعتقد.
كلوديو :
أما أني أحبها، فذلك هو شعوري.
دون بدرو :
وأما أنها جديرة بالحب، فذلك هو علمي.
بنيديك :
وأما أني لا أدري كيف تحب مثلها، ولا أعلم كيف تكون بالحب جديرة؟ فذلك هو الرأي الذي لن تستطيع النار أن تذيبه من أعماق نفسي، ولن أتحول عنه ولو مت فوق الخابور.
دون بدرو :
لقد كنت أبدا العنيد في الكفر بالجمال والازدراء به.
كلوديو :
ولم يكن يوما بقادر على الاحتفاظ بكفره وعناده إلا بقوة إرادته.
بنيديك :
أما أن امرأة حملت بي، فأنا لها شاكر، وأنها ربتني صغيرا ونشأتني صبيا، فلها مني أصدق الشكر وأعظم الخضوع، أما أن تطلق الأبواق عند جبهتي، لتردني عن عقيدتي، رد كلاب الصيد الطريدة، أو أن تعلق خية في منطقتي، فأستميح النساء جميعا معذرتي، وإذ كنت أظلمهن بالشك فيهن، فسوف أنصف نفسي فلا أسكن إليهن و(جملة) القول الذي هو بي (أجمل) أنني سأعيش أعزب.
23
دون بدرو :
أرجو الله أن أراك قبل مماتي شاحبا مصفرا من فرط الحب.
بنيديك :
قل من فرط الغضب، أو من حدة الوصب، أو شدة السغب، يا مولاي، ولا تقل من فرط الحب، أثبت أنني سأفقد يوما من الدم، بالحب والغرام والعذاب، أكثر مما أستعيده بالشراب، أسمل عيني بريشة شاعر أغن، وعلقني على باب ماخور رمزا لكيوبيد الضرير.
دون بدرو :
ويوم تتحول عن هذا الرأي تروح أنت الحجة الرائعة على نفسك.
بنيديك :
فإن فعلت فعلقوني في سلة كالقط وارموني بسهامكم، واربتوا على كتف من يصيبني وادعوه آدم الرامية.
24
دون بدرو :
ليكن الحكم للزمن، «فمع الزمن يرضى الثور النافر بالنير حول عنقه».
بنيديك :
قد يرضى به الثور المتوحش، ولكن إذا رضي به بنيديك العاقل، فانزعوا قرني الثور وأثبتوهما في جبهتي، وصوروني أنكر ما تصوروني، واكتبوا بأحرف غلاظ كالقرون «هذا حصان يستأجر» وليعلنوا تحت رسمي «انظروا ها هو ذا بنيديك البعل».
25
كلودير :
لو وقع ذلك يوما لكنت مجنونا «صارخا من قرونه».
دون بدرو :
أجل، إذا لم يكن كيوبيد قد بعث إلى البندقية بكل ما في جعبته من السهام المريشة
26
فستصبح وشيكا (ساهما)، (راعشا)، كريشة في مهب الريح.
27
بنيديك :
بل لتزلزل الأرض يومئذ زلزالها.
دون بدرو :
سيأتي ذلك اليوم المشئوم فلا تستعجله. والآن ادخل يا سنيور بنيديك الكريم إلى دار ليوناتو وأقرئه عني السلام، ونبئه أنني لن أتأخر عن موعد العشاء، لأنه في الحق قد استعد استعدادا عظيما.
بنيديك :
أكاد أجد في نفسي من الذكاء ما يكفي لتأدية هذه السفارة، ولهذا أترككما! ...
كلوديو :
لرعاية الله - من منزلي (لو كان لي منزل).
28
دون بدرو :
السادس من شهر يوليو ... صديقك المحب بنيديك.
29
بنيديك :
لا تسخر ... لا تسخر، إن صلب مناقشاتك ليبدو أحيانا كالثوب الكثير الحليات والحواشي، ولكنها حواش ملفقة على الثوب، أو لاصقة قليلا به،
30
وقبل أن تمعنا في السخرية من كلامي عودا إلى ضميريكما ... وبهذا أترككما (يخرج) .
كلوديو :
مولاي، إنك لتستطيع اليوم أن تنفعني.
دون بدرو :
إن حبي لك يطلب علما بما تريد، فما عليك إلا أن تعلمه كيف يخدمك، تجده مستعدا لكل درس صعب فيه لك خير.
31
كلويدو :
هل لليوناتو ولد يا مولاي؟
دون بدرو :
ليس له إلا ابنته «هيرو»؛ وهي وريثته الوحيدة، فهل تحبها يا كلوديو؟
كلوديو :
آه يا مولاي، حين ذهبت إلى هذه الحرب التي وضعت أوزارها منذ قليل، كنت أنظر إليها بعين جندي ينازعه الميل، ولكن أمامه مهمة أشق من الدفع بعاطفة «الميل» إلى اسم «الحب»، أما الآن فقد عدت وخلا الذهن من أفكار الحرب، وحلت مكانها كثرة الأماني العذبة الرقيقة، تدفعني كلها إلى التفكير في مدى حسن هيرو وفتنة جمالها، وقد قلت إنني كنت «أميل» إليها، قبل أن أذهب إلى الحرب.
32
دون بدرو :
لن تلبث أن تصبح عاشقا مستهاما، تتعب سامعيك بأحاديث الحب، وكتب العاشقين،
33
فإن كنت تحب الحسناء هيرو، فاحرص على حبها، وامض فيه، وسأحمل النبأ إليها، وأتحدث إلى أبيها، وستكون لك. أليس هذا هو الغرض الذي مضيت من أجله تحيك نسج القصة الممتعة؟
كلوديو :
ما أبدع علاجك للحب؟! إنك لتعرف أحزانه من سماته ، وخشية أن يبدو حبي مفاجئا أكثر مما ينبغي، وددت لو أني تشفعت له
34
بأطول من هذا حديثا.
دون بدرو :
وهل يحتاج الجسر، أن يكون أعرض كثيرا من النهر، إن أجمل المنح ما يفي بالضرورة،
35
وكل ما يؤدي الغرض (يجدي)، وحسبي أن أعلم أنك نضو حب لكي (أجدي) عليك بدوائه،
36
إننا سنقضي الليلة في قصف ومرح وسأنتحل شخصك متنكرا، وأدعي للحسناء «هيرو» أنني «كلوديو» وسأكشف لها عما في قلبي، وأستولي على سمعها بقوة بياني، وقصة حبي، ثم أحمل النبأ بعدئذ إلى أبيها، فينتهي الأمر بظفرك بها، هيا بنا ننفذ هذه الفكرة في الحال. (يخرجان)
المنظر الثاني
في إحدى حجرات بيت ليوناتو (يدخل ليوناتو فيلتقي بأنطونيو.)
ليوناتو :
ماذا تم يا أخي. وأين ابن أخي، ولدك؟ هل أعد الموسيقى؟
أنطونيو :
إنه منهمك بإعدادها، ولكني سأقص عليك الساعة يا ابن أمي أنباء عجيبة لم تحلم بمثلها.
ليوناتو :
أهي أنباء سارة؟
أنطونيو :
كما يوحي (طابع) أحداثها،
37
ولكن لها مظهرا حسنا، وغطاء جميلا، فقد استرق أحد رجالي السمع على الأمير والكونت كلوديو وهما يمشيان خلال دغلة كثيفة في بستاني، فسمع الأمير يفضي إلى كلوديو أنه يحب كريمتك ابنة أخي، وأن في نيته أن يعلن ذلك الليلة في المرقص، فإن وجدها موافقة أمسك بالفرصة من شعرها
38
فكاشفك في الحال بالنبأ.
ليوناتو :
هل أوتي الرجل الذي نبأك بهذا مسكة من الفطنة؟
أنطونيو :
إنه الذكي الفطن، سأبعث في طلبه لتسأله بنفسك.
ليوناتو :
كلا، كلا - دعنا نعد ذلك حلما حتى يتحقق، ولكني سأقصه على ابنتي حتى تستعد للجواب إن صح. اذهب أنت فنبئها. (يدخل الأتباع.)
يا أبناء العم
39
أحسبكم تعرفون ما عليكم. آه، أتوسل إليك يا صديقي أن تذهب إليها، وسأبقى أنا لأستعين بخبرتك، وأنت يا ابن أخي الكريم، أرجو بذل الهمة. (يخرجون)
المنظر الثالث
في الحجرة ذاتها (يدخل دون جون وكونراد.)
كونراد :
يا للعجب
40
يا مولاي، ما بالي أراك حزينا إلى هذا الحد.
41
دون جون :
لا حد للحادث الذي استوجب ذلك، ومن هنا كان حزني بغير حد.
كونراد :
أحرى بك أن تستمع لصوت العقل.
دون جون :
وأي خير في الاستماع له؟
كونراد :
إن لم يكن فيه علاج عاجل، ففيه على الأقل تصبر إلى حين.
دون جون :
أعجب لك وأنت القائل عن نفسك: إن «زحل» كوكبك.
42
كيف تريد أن تستخدم أشفية روحية لعلاج علة مودية! ليس في إمكاني أن أخفي ما بي، إني لأحزن حين ينهض للحزن سبب، فلا أبتسم لمزاح أي إنسان، وآكل إذا جعت. ولا أنتظر أحدا، إذا وجدت عندي شهوة إلى الطعام، وأنام، حين يداعب عيني النعاس، فلا أحفل بشئون الناس، وأضحك حين أنشرح، وأبتهج حين تسر النفس وتتفتح، ولا أجاري إنسانا في هذره.
43
كونراد :
نعم، ولكن ينبغي أن لا تبدي ذلك كله، حتى يتيسر لك أن تبديه دون أن يكون عليك في ذلك حرج. لقد رأيناك من عهد قريب واجدا على أخيك، ثم ألفيناه أخيرا يدخلك في حظوته، ويشملك بمرضاته، ولست بمستطيع أن تحتفظ بمكانتك هذه، إلا إذا خلقت أنت الجو الطيب، وأولى بك أن تهيئ أنت الموسم الذي يوائم حصادك.
دون جون :
إني لأوثر أن أكون زهرة برية، فوق سياج أو باب، على أن أكون وردة جميلة في حديقته، وإنه لأنسب لمزاجي أن أكون عند الناس موضع ازدراء، من أن أغير طبعي لأستلب من أحد حبا، أو أنال منه المودة غصبا، وإذا لم أوصف لهذا السبب بأني رجل غير متملق، فإن أحدا لا ينكر علي أنني أخو شر صريح، لقد وثقوا بي بعد أن عقدوا لساني، وأطلقوني بعد أن وضعوا النير حول رقبتي، ولهذا قررت أن لا أغني وأنا حبيس في قفصي، ولو كان فمي طليقا لعضضت، ولو أعطيت حريتي لفعلت وفق مشيئتي، أما والأمر ليس كذلك، فدعني كما أنا، ولا تلتمس لي تغييرا ولا تبديلا.
كونراد :
ألا تستطيع استخدام شيء من سخطك وضغينتك؟
دون جون :
كل الاستخدام، إذ ليس لي سواهما ... ترى من هذا القادم ...؟ (يدخل بوراشيو.)
دون جون :
ما وراءك يا بوراشيو؟
بوراشيو :
إنني قادم من عشاء عظيم؛ أقامه ليوناتو احتفالا بالأمير أخيك ؛ وفي وسعي أن أحدثك عن زواج معتزم.
دون جون :
هل يصلح أساسا تبني من فوقه شرا، ومن هو هذا الأحمق الذي يريد أن يبني بمحنة؟
بوراشيو :
في الحق إنه مساعد أخيك الأيمن.
دون جون :
من؟ كلوديو، أشد الناس رشاقة وأكثرهم تأنفا؟
بوراشيو :
أي نعم هو.
دون جون :
إنه امرؤ مليح!
44
ومن ... وإلى من تراه يتجه؟
بوراشيو :
إلى هيرو ابنة ليوناتو ووريثته، ما في ذلك شك.
دون جون :
إنها لفتاة نضجت قبل الأوان، ومن أين عرفت هذا؟
بوراشيو :
عهدوا إلي بحرق البخور في الحجرات وتعطيرها، وفيما كنت أعطر غرفة زهمة، إذ جاء الأمير وكلوديو يسيران يدا في يد وهما في حديث جدي، فاختبأت من فوري خلف الستار وتصنت عليهما، فسمعتهما يتفقان على أن يتقدم الأمير إلى هيرو فيخطبها لنفسه، فإذا ظفر برضاها أسلمها إلى الكونت كلوديو.
دون جون :
هلموا بنا، هلموا إلى هناك. فقد يصلح هذا غذاء لسخطي، إن هذا الفتى المحدث النعمة هو الذي ارتفع على أنقاضي، ولو استطعت أن أحول دون غرضه بأي سبيل، لعددت نفسي السعيد من كل ناحية. كلاكما رجل موثوق به، وسوف تساعداني، أليس كذلك؟
كونراد :
حتى الموت يا مولاي.
دون جون :
هلموا بنا إلى مأدبة العشاء الكبرى. إن بهجتهم لتغدو أبلغ وأكبر إذا رأوني مستسلما مستكينا، ليت الطاهي كان من رأيي، أنذهب لنحاول ما نستطيع فعله؟
بوراشيو :
إننا في خدمتك يا مولاي. (يخرجون)
هوامش
الفصل الثاني
المنظر الأول
قاعة في دار ليوناتو (يدخل ليوناتو وأنطونيو وهيرو وبياتريس وآخرون.)
ليوناتو :
ألم يحضر الكونت جون العشاء هنا؟
أنطونيو :
لم أره.
بياتريس :
لشد ما يلوح هذا السيد نكدا مكتئبا، ما رأيته مرة إلا أحسست حرقة قلب ساعة بعد رؤيته.
1
هيرو :
إنه ذو مزاج سوداوي.
بياتريس :
ما أبدع الرجل الذي هو وسط بينه وبين بنيديك: أحدهما أشبه بصنم لا يتكلم، والآخر أشبه شيء بالابن الأكبر المدلل لا يكف عن الثرثرة.
2
ليوناتو :
ليت نصف لسان السنيور بنيديك في فم الكونت جون، ونصف كآبة الكونت جون في وجه السنيور بنيديك.
بياتريس :
إن رجلا كهذا يا عماه، إذا جمع - إلى ما وصفت - ساقا طيبة، وقدما حسنة، ومالا في كيسه كافيا، لظافر بأية امرأة في العالم، إذا استطاع كسب مرضاتها.
ليوناتو :
يمين الحق يا ابنة الأخ، لن تصيبي على الدهر كله زوجا إذا ظل لسانك على هذا النحو سليطا.
أنطونيو :
في الحق إنها ذات لسان مفرط في سلاطته.
بياتريس :
المفرط في سلاطته معناه أكثر من سليط، وحاشا أن أغض من عطية الله من هذه الناحية، فقد قيل إن الله يعطي البقرة الشكسة قرنين قصيرين، ولكنه لا يهب الشكسة أكثر مما ينبغي شيئا من القرون.
3
ليوناتو :
ومعنى هذا أن الله لن يعطيك قرونا ما دمت سليطة أكثر مما ينبغي.
بياتريس :
هذا يصدق كل الصدق، إذا هو لم يهبني زوجا، وهي نعمة أشكرها له وأصلي له من أجلها كل صباح ومساء، رباه إني، لا طاقة لي بزوج ذي لحية، وأوثر الرقاد بين الأغطية الصوفية من غير ملاءات.
4
ليوناتو :
قد تقعين على زوج لا لحية له.
بياتريس :
ماذا أصنع به؟
أألبسه ثوبي وأتخذه وصيفة لي؟ فأما من أوتي لحية فهو أكثر من شاب، وأما من لا لحية له فهو أقل من رجل، ومن هو أكثر من شاب لا يصلح لمثلي، ومن هو أقل من رجل لا أصلح أنا له، فالخير لي إذن أن آخذ دراهم معدودات من القراد وأستاق قردته إلى الجحيم.
ليوناتو :
وهل تدخلين عندئذ الجحيم؟
بياتريس :
كلا ... بل أسير بها إلى الباب فيلتقي إبليس بي لديه، ديوثا شيخا ذا قرنين، فيقول لي: «اذهبي بياتريس إلى الجنة، لا مكان هنا للأبكار»، وعندئذ أسلمه قرودي،
5
وأنطلق إلى القديس بطرس في الجنة فيريني المكان الذي يقيم فيه العزاب، فنعيش هناك ونمرح ما طال النهار.
أنطونيو (مخاطبا هيرو) :
يقيني أنك ستطاوعين أباك وترضين بولايته.
بياتريس :
أجل والله، إن واجب ابنة عمي أن تنحني لأبيها أدبا وتقول: «أبت، افعل ما تشاء»، ولكن ليكن فتى وسيما، وإلا انحنت لأبيها انحناءة أخرى وهي تقول: «أبت، أفعل ما أشاء».
ليوناتو :
أرجو يا ابنة الأخ أن أراك يوما ذات زوج.
بياتريس :
حاشا ... حتى يخلق الله الرجال من عنصر آخر غير «التراب»، ألا يحزن المرأة أن تسيطر عليها قطعة من حمأ مسنون؟ أليس أليما لها أن تقدم حسابا عن حياتها إلى قبضة من تراب جاف؟
كلا يا عماه، لن يكون لي بعل، إن أولاد آدم إخوتي، وفي الحق إنني لأعد الزواج من ذوي قرابتي إثما.
6
ليوناتو :
تذكري يا ابنتي ما قلته لك، إذا فاتحك الأمير في هذا الأمر
7
فأنت تعرفين الجواب.
بياتريس :
سيكون الذنب يا ابنة العم ذنب الموسيقى إذا لم تخطبي في الحين المناسب. فإن رأيت الأمير ملحفا ملحا فقولي له: إن الاعتدال مطلوب في كل شيء، وانطلقي بالجواب خطرانا ورقصا، واعلمي يا هيرو أن الغزل ثم القران، ثم الندامة، أشبه برقصات ثلاث، وهي الرقصة الإسكتلندية السريعة الدوامة، والرقصة المتئدة المتزنة، والخطوات الخمس.
8
فأما الأولى وهي «الخطبة» فحارة عجلى كالرقصة الإسكتلندية، وأما خطوة القران فمعتدلة كالرقصة الثانية وإن حفلت بكل ما شئت من فخفخة، وحشمة وحفاظ قديم، ثم تأتي خطوة الندامة فتتخاذل فيها من الرجل الساقان، وتمضيان إلى الرقصة الثالثة وشيكا وتتحولان، حتى يتردى الرجل في قبره.
ليوناتو :
إنك لعليمة بفنون الرقص خبيرة يا ابنة العم؟
بياتريس :
إن لي عينا حديدية يا عماه، وأستطيع أن أبصر كنيسة على ضياء النهار.
9
ليوناتو :
المدعوون يا أخي قادمون، فافسحوا لهم. (يضع الجميع أقنعتهم على وجوههم.) (يدخل دون بدرو، وكلوديو، وبنيديك، وبلتازار، ودون جون، وبوراشيو، ومرجريت، وأرسولا، وغيرهم والجميع مقنعون.)
دون بدرو :
أيتها السيدة هل تسمحين بأن تخطري مع صديق لك؟
هيرو :
بشرط أن تخطر برفق، وتنظر بلطف، ولا تقول شيئا، إنني لك سيرا وخطرانا، وخاصة حين أنسحب.
دون بدرو :
وأنا في صحبتك؟
هيرو :
قد أقول ذلك، حين يروقني.
دون بدرو :
ومتى يروقك أن تقوليه؟
هيرو :
حين يرضيني وجهك، ويعجبني محياك، وأرجو الله أن لا يكون المزهر كغطائه.
10
دون بدرو :
إن قناعي هو سقف فيلمون. في بيت زفس.
هيرو :
أولى به إذن أن يكون من قش.
11
دون بدرو :
اغضضي من صوتك، إذا شئت الكلام في الحب. (ينتحي بها جانبا.)
بلتازار (وهو يراقص مرجريت) :
أود لو أنك تميلين إلي.
مرجريت :
لا أود أن أفعل. وهذا من أجل مصلحتك لأن لي عيوبا كثيرة.
بلتازار :
وما هو أولها؟
مرجريت :
إنني أجهر بصلاتي.
بلتازار :
هذا ما يزيدني لك حبا ... فقد يصيح السامعون آمين.
مرجريت :
اللهم هبني راقصا بارعا.
بلتازار :
آمين.
مرجريت :
والله أبعده من عيني إذا انتهى الرقص ... أجب يا كاتب.
12
بلتازار :
لا كلام عندي ... لقد تلقى الكاتب الجواب.
أورسولا (لأنطونيو وهي تراقصه) :
أعرفك حق المعرفة، فأنت السنيور أنطونيو.
أنطونيو :
ثقي أني لست هو.
أورسولا :
أعرفك بهزة رأسك.
أنطونيو :
إن شئت الحق قلت إنني أقلده.
أورسولا :
ما كان في وسعك أن تجيد تقليد معايبه إلى هذا الحد لو لم تكنه حقا. ها هي ذي يده الخشنة تعلو وتهبط. أنت هو ... أنت هو.
أنطونيو :
ثقي أني لست هو.
أورسولا :
أقبل! أقبل! أتحسبني لا أعرفك. من حدة ذكائك وفائق فطنتك، وهل في وسع الفضيلة أن تخفي نفسها، هيا قل إنك هو. الفضل ظاهر، فلا مجال لقول قائل.
بياتريس (وهي تراقص بنيديك) :
ألا تريد أن تنبئني من قال لك ذلك؟
بنيديك :
كلا، ومغفرة.
بياتريس :
أولا تنبئني من أنت؟
بنيديك :
لن أنبئك بذلك الآن.
بياتريس :
إن الذي قال عني إنني متكبرة متعجرفة، وأن نكاتي البارعة مأخوذة من «المائة نادرة» هو السنيور بنيديك.
13
بنيديك :
ومن يكون؟
بياتريس :
إنني على يقين من أنك تعرفه جد المعرفة.
بنيديك :
لست أعرفه ... صدقيني.
بياتريس :
ألم يثر يوما في نفسك الضحك؟
بنيديك :
أناشدك من هو؟
بياتريس :
كيف هذا؟ إنه مهذار الأمير،
14
وهو مضحكه، سمج، كل موهبته اختراع فريات ووشايات لا تجوز على عاقل، ولا يستروح إليها غير الفتيان المستهترين، لا يرضيهم منه ذكاؤه وإنما يثيرهم خبثه، فهو يرضي الناس ويغضبهم، فيضحكون منه ثم يضربونه، وأنا واثقة أنه بين الحاضرين، وددت لو أنه تعرض لي.
بنيديك :
سأقول له كل هذا حين أعرفه.
بياتريس :
أرجوك أن تفعل، وسوف ينالني بنكتة أو نكتتين، وقد لا ينتبه أحد إليها، ولا يجد من يضحك لها، فتنتابه الكآبة، ويصيبه الغم، وفي ذلك اقتصاد جناح بطة.
15
لأن هذا المغفل لن يأكل الليلة. (تعزف الموسيقى)
دعنا نتبع الراقصين الأولين.
بنيديك :
في كل شيء حسن.
بياتريس :
أجل، وإذا ساقانا إلى شين تركتهما عند أول منعطف. (رقص، ثم ينصرف الجمع عدا دون جون وبوراشيو وكلوديو.)
دون جون :
لا شك عندي في أن أخي مستهام بهيرو وقد انتحى بأبيها ناحية ليتحدث إليه عنها، وقد رأيت السيدات يتبعنها، ولم يبق غير وجه واحد ملثم.
بوراشيو :
وهو وجه كلوديو، إنني أعرفه من سمته.
دون جون :
ألست السنيور بنيديك؟
كلوديو :
أنت تعرفني حق المعرفة، أنا هو.
دون جون :
أنت يا سنيور صاحب سر أخي
16
في حبه، إنه بهيرو مغرم كلف، أناشدك أن تثنيه عن حبها لأنها لا تساويه مولدا، ولو قد فعلت، لأديت إليه ما يؤديه الناصح الأمين.
كلوديو :
من أين عرفت أنه يحبها؟
دون جون :
لقد سمعته يقسم أنه يحبها.
بوراشيو :
وأنا كذلك، وقد حلف أنه سيتزوج بها الليلة.
دون جون :
هلم بنا إلى المأدبة. (يخرج دون جون وبوراشيو.)
كلوديو (مناجيا نفسه) :
هكذا أجبت باسم بنيديك، وإن سمعت نبأ سوء بأذني كلوديو. إن الأمر مؤكد فإن الأمير يخطبها لنفسه. إن الصداقة في كل شيء وفية وموضع ثقة إلا في خدمة الحب وشئونه، ولهذا السبب ينبغي للقلوب المحبة أن لا تستخدم سوى ألسنتها ولتفاوض كل عين عن ذاتها، ولا تثق بأحد يتولى المفاوضة عنها، لأن الجمال ساحر، لا يلبث الوفاء حيال فتونه أن يستحيل هياما. وأن هذا الحادث ينهض الدليل في كل ساعة على صحته، ولكني لم أفطن إليه، ولهذا وداعا يا هيرو ... إني عنك لمنصرف. (يدخل بنيديك.)
بنيديك :
الكونت كلوديو؟
كلوديو :
نعم. ها أنذا.
بنيديك :
هلم ... ألا تأتي معي؟
كلوديو :
إلى أين؟
بنيديك :
إلى أقرب صفصافة
17
يا كونت، فهناك المكان الذي يليق بك، قل لي في أي شكل تريد أن تضع إكليلك؟
18
أحول عنقك كسلسلة المرابي؟
19
أم حول ذراعك كشارة الضابط؟
20
واحدة من اثنتين ؛ لأن الأمير قد ظفر بهيرو التي فتنتك.
كلوديو :
ليفرح بها.
بنيديك :
ما هذا! إنك لتتكلم بلهجة بائع الماشية الأمين في سوق العجول، ولكن هل كنت تظن الأمير فاعلا بك هذا؟
كلوديو :
إليك عني ... أرجوك.
بنيديك :
وي ... إنك الآن تتخبط كالأعمى اصطدم بالعمود، إن الغلام هو الذي سرق لحمك، ولكنك تصطدم بالعمود.
21
كلوديو :
إذا لم تنصرف عني انصرفت أنا عنك (ينصرف) .
بنيديك (لنفسه) :
وا أسفاه ... أيتها الدجاجة الجريح المسكينة ... إنها الساعة متسللة إلى العشب الملتف تخفي جرحها ... ولكن سواء عرفتني السيدة بياتريس أو لم تعرفني، مهذار الأمير
22 ... ها، ها ... لعلي حملت هذا اللقب لأني أخو فكاهة مرح.
نعم، غير أني بذلك أسيء إلى نفسي، ولكني لم أشتهر بهذا، وإنما هي نزعة بياتريس السافلة، وفطرتها المريرة التي جعلتها تضع العالم كله في شخصها، وتصفني بهذا الوصف، ولكني سأنتقم منها إذا وجدت إلى الانتقام سبيلا. (يدخل دون بدرو.)
دون بدرو :
والآن يا سنيور أين الكونت؟ ألم تره؟
بنيديك :
يمين الحق يا مولاي ... لقد مثلت دور السيدة «شائعة»؛
23
فقد وجدته هنا ساهما كئيبا ككوخ الحارس الموكل بأرض صيد
24
فأنبأته، وأحسبني أنبأته الحق، إن مولاي ظفر برضى هذه الغانية الشابة، وعرضت عليه أن يصحبني إلى شجرة صفصاف، لأصنع له إكليلا من ورقه شأن الفاشل في حبه، أو لأعد له منها عصا لأنه استوجب الضرب.
دون بدرو :
الضرب؟ وما الذنب الذي أتاه؟
بنيديك :
ذنب تلميذ تناهى به الفرح بالعثور على عش عصافير فأراه لصاحبه فسرقه هذا الصاحب.
دون بدرو :
هل تعد الثقة ذنبا؟ إن الذنب ذنب السارق.
بنيديك :
ولكن هذا هو الذي جرى. العصا أعدت، والإكليل عقد، ولم يكن هذا عبثا، فأما الإكليل فقد كان من الجائز أن يلبسه هو، وأما العصا فلعله منعم بها عليك، لأنك كما فهمت منه سرقت عش عصافيره.
دون بدرو :
سأعلمها الشدو ثم أردها إلى صاحبها.
بنيديك :
يمينا، لقد قلت حقا إن تحقق ما تقول.
دون بدرو :
إن السيدة بياتريس منك غضبى؛ فإن السيد الذي راقصها نبأها أنك أخطأت كثيرا في حقها.
بنيديك :
لقد أساءت إلي إساءة؛ لا يحتملها الصخر، ولو أن سروة لم يبق عليها غير ورقة خضراء لما أطاقت السكوت عليها، إن قناعي نفسه لم يلبث أن دبت فيه الحياة فرد عليها وكال لها بكيلها.
لقد قالت لي، وهي لا تظن أنني أنا مراقصها: «إنني مهذار الأمير» وإنني أبرد من لوح ثلج، ومضت ترميني بنكتة في إثر نكتة ببراعة لا يتصورها العقل، حتى لقد لبثت أمامها كأنني هدف لرمية جيش بأكمله، إن كلماتها كالخناجر وكل لفظة منها طعنة سنان، ولو كانت أنفاسها في مثل بشاعة كلماتها، لما توانت الحياة لأحد بقربها، بل لأصابت نجم القطب الشمالي بعدواها، ولست أرضى الزواج بها.
حتى ولو أتيح لها كل ما أنعم به على آدم قبل الخطيئة.
25
ولو أن هرقل مني بها لجعلته يقلب على الجمر سفودا، بل لكسر عصاه ليجعل منها وقودا.
26
دعنا من الحديث عنها، فإنك لواجدها ربة الجحيم «آتي» القديمة
27
في زي حسن، وليت الله يقيض لنا عالما يبطل سحرها، ويطرد عنا شرها،
28
وما دامت هنا بيننا، فليس من شك في أن المرء ليحيا في الجحيم هادئا راضيا كأنه في الجنة، ويرتكب الناس الخطيئة عامدين، لأنهم يريدون الذهاب إلى جهنم، فالشر والنكر والفوضى كلها تبع لها وحشم.
دون بدرو :
حذار - إنها قادمة. (يدخل كلوديو وبياتريس وهيرو وليوناتو.)
بنيديك :
ألا تأمرني يا مولاي بتأدية أية خدمة لك في أقصى الأرض، أود لو أرسلت في أتفه مهمة تشير بها في الجهة المقابلة لهذه القارة، بل إني لراض أن ألتمس لسماحتك سواكا من أبعد ركن في آسيا، أو آتيك بمقياس قدم القس يوحنا
29
أو شعرة من لحية الملك تشام
30
أو أتولى أية سفارة لك لدى الأقزام،
31
فذلك عندي خير من التحدث بثلاث كلمات مع هذا العقاب.
32
هل من خدمة أؤديها لك يا مولاي؟
دون بدرو :
لا شيء إلا رغبة الاستمتاع بمحضرك.
بنيديك :
رباه. يا سيدي، هذا طعام لا أسيغه، لأنني لا أطيق ذات اللسان.
33 (يخرج)
دون بدرو :
هلمي يا سيدتي، هلمي.
لقد خسرت قلب السنيور بنيديك.
بياتريس :
لقد أعارنيه يا مولاي منذ هنيهة.
وأديت له الفائدة،
34
قلبين اثنين لقاء قلب واحد، يمينا، لقد أحسنت في قولك يا مولاي إنني خسرته، فقد كسبه مرة من قبل بنرد مزيف.
35
دون بدرو :
لقد صرعته يا سيدتي ... لقد صرعته.
بياتريس :
ولهذا أود أن لا يفعل هذا بي يا مولاي، مخافة أن أعد أم الحمقى ... لقد جئت بالكونت كلوديو الذي أوفدتني للبحث عنه.
36
دون بدرو :
كيف أنت يا كونت؟ وما بالي أراك حزينا؟
كلوديو :
لست حزينا يا مولاي!
دون بدرو :
ما بالك إذن ... أمريض؟
كلوديو :
لا هذا ولا ذاك يا مولاي.
بياتريس :
ليس الكونت بمحزون، ولا هو بمريض، ولا هو بمبتهج، ولا هو بموفور العافية، ولكنه حمض قليلا كالبرتقالة الأشبيلية.
37
وبه شيء من أعراض الغيرة وسماتها.
دون بدرو :
يمينا، أيتها السيدة إني لأحسب إشارتك هذه صادقة، وإن كنت أقسم أنه واهم في تقديره إن كان كذلك. اسمع يا كلوديو لقد خطبت باسمك، وفزت لك بالحسناء هيرو، وأفضيت بالنبأ إلى أبيها وظفرت برضاه، فعين يوم القران، وأدعو الله لك بالهناءة.
ليوناتو :
خذ يا كونت مني ابنتي، ومعها ثروتي، فإن قداسته خطب، والله جل جلاله أمن على خطبته.
بياتريس :
تكلم يا كونت، فهذه فرصتك.
38
كلوديو :
الصمت أكمل بشائر الفرح، ولو وصفت مقدار سعادتي، لأنقصت منها، سيدتي، أما وأنت لي، فأنا لك، إني لك واهب نفسي، ومغتبط بهذا التبادل.
بياتريس :
تكلمي يا ابنة العم، وإن لم تقدري، فأغلقي بقبلة فمه ولا تدعيه هو الآخر يتكلم.
دون بدرو :
يمينا، أيتها السيدة لقد أوتيت قلبا مرحا.
بياتريس :
أجل، يا مولاي، وإني لهذا القلب الأحمق لشاكرة، لأنه يأبى إلا أن يبقى أبدا في مأمن من الهم، إن ابنة العم تقول له في أذنه إنه يسكن في قلبها.
كلوديو :
وإنها لتسكن قلبي يا ابنة العم.
بياتريس :
رب، ألا من زوج!
39
أفكل إنسان يدخل الدنيا ما خلاي ... لقد لوحتني الشمس،
40
فليس لي إلا أن أجلس في ركن أغني واها، ألا من زوج!
41
دون بدرو :
يا سيدتي بياتريس إن لك عندي زوجا.
بياتريس :
إني لأوثر أن يكون من ذرية أبيك، أليس لقداستك أخ على غرارك، لقد أنجب أبوك أحسن الأزواج، لو أتيح لفتاة الظفر بأحدهم.
دون بدرو :
هل ترتضيني يا سيدتي؟
بياتريس :
كلا يا مولاي، ما لم يكن لي بعل آخر لأيام العمل،
42
لأن قداستك أغلى من أن تلبس في كل يوم، ولكنني أستميحك مغفرة فقد ولدت هكذا، أقول هزلا، ولا أقول شيئا ذا معنى.
دون بدرو :
إن أشد ما يؤلمني أن لا تتكلمي، فإن المرح أليق شيء بك، فأنت بلا نزاع مولودة في ساعة سعد.
بياتريس :
كلا بلا ريب يا مولاي، فقد كانت أمي تبكي، ولكن كان هناك نجم في السماء يرقص، ومن تحته جاء مولدي، يا بني العم، متعكم الله بالسرور.
ليوناتو :
يا ابنة الأخ، هلا عنيت بالأشياء التي قلت لك عنها.
43
بياتريس :
أستأذنك يا عمي، مولاي عن إذنك (تخرج) .
دون بدرو :
يمين الحق، إنها لسيدة خفيفة الروح.
ليوناتو :
ليس فيها يا مولاي غير قليل من العنصر السوداوي،
44
فهي لا تكتئب إلا في المنام، ولا أحسبها حتى فيه بمكتئبة، فقد سمعت ابنتي تقول: إنها كثيرا ما حلمت بالبؤس، ثم استيقظت ضاحكة.
دون بدرو :
إنها لا تطيق أن تسمع أحدا يتحدث إليها عن الزواج.
ليوناتو :
بلى ... إنها لتستهزئ بكل خطابها وتردهم بذلك عن خطبتها.
دون بدرو :
لو تزوجت بنيديك لكانت خير الزوجات!
ليوناتو :
سبحان الله يا مولاي ... لو لبثا زوجين أسبوعا واحدا لأدى بهما الحديث إلى الجنون.
دون بدرو :
متى تنتوي يا كونت كلوديو الذهاب إلى الكنيسة؟
كلوديو :
غدا يا مولاي. إن الزمن يمشي على عكاز، حتى يستكمل الحب مراسمه.
ليوناتو :
لن يتم هذا قبل يوم الاثنين يا بني العزيز، أي بعد أسبوع، وهي فترة وجيزة لإتمام كل ما في نفسي تحقيقه.
دون بدرو :
لا تهزز رأسك هكذا متبرما بطول الوقت،
45
ولكنني أؤكد لك يا كلوديو أن الوقت لن ينقضي علينا ثقيلا مضجرا، فسأتولى خلاله إنجاز عمل من الأعمال التي فرضت قديما على هرقل،
46
وهو تأليف قلبي السنيور بنيديك والسيدة بياتريس، والوصول بهما إلى ذروة التعاطف والمودة المتبادلة، وبودي لو يتحقق زواجهما، ولست أشك في تحقيقه، إذا تيسر لثلاثتكم تقديم المعونة التي سأوجهكم إليها.
ليوناتو :
أنا معك يا مولاي ولو كلفني ذلك السهر عشر ليال.
كلوديو :
وأنا يا مولاي.
دون بدرو :
وأنت أيضا يا هيرو الرقيقة؟
هيرو :
سأبذل يا مولاي جهدي المتواضع، في معاونة ابنة عمي على الظفر بزوج صالح.
دون بدرو :
ليس بنيديك بأقل الرجال صلاحية للزواج،
47
وليس الأمل فيه زوجا أضعف الأمل، وهذا هو كل ما في وسعي أن أمدحه به.
إنه رجل عريق المحتد وأخو شجاعة مشهودة وأمانة مؤكدة، وسأعلمك كيف تغرين ابنة عمك بحب بنيديك، وأتولى أنا بعونكما الأمر من ناحية بنيديك نفسه، رغم حاضر بديهته، وسرعة تأثره، حتى يقع في حب بياتريس، ولو استطعنا ذلك، لما عاد كيوبيد بعد اليوم نابلا،
48
بل سينقل مجده إلينا فنصبح نحن آلهة الحب وحدنا، هلموا بنا ندخل لأنبئكم بما عقدت النية عليه. (يخرجون)
المنظر الثاني
المكان ذاته (يدخل دون جون وبوراشيو.)
دون جون :
الأمر كما قلت، وسيقترن الكونت كلوديو بابنة ليوناتو.
بوراشيو :
أجل يا مولاي، ولكنني قادر على أن أحول دونه.
دون جون :
كل حائل، أو عائق، أو عقبة أو مانع، شفاء لما أجده، إني مريض من الموجدة عليه، فكل ما يعوق حبه يرضيني، نبئني كيف تستطيع أن تمنع الزواج؟
بوراشيو :
لا صراحة يا مولاي وجهارا، بل خفية وسرارا. بحيث لا يبدو مني غدر، ولا تظهر خيانة.
دون جون :
أرني كيف، وأوجز.
بوراشيو :
أحسبني قد نبأتك يا مولاي منذ عام مضى، عن مدى حظوتي عند مرجريت، وصيفة هيرو.
دون جون :
أذكر ذلك.
بوراشيو :
إنني مستطيع في أية لحظة غير مناسبة ليلا أن أجعلها تطل من نافذة مخدع مولاتها.
دون جون :
وكيف تستطيع بهذه الفكرة أن تقضي على زواجه؟
بوراشيو :
إن فيها لسما عليك أنت أن تركبه،
49
فاذهب إلى الأمير أخيك، وأبلغه أنه قد ثلم شرفه، وأساء إلى كرامته بتزويج كلوديو الذائع الذكر - واحرص كل الحرص على أن تعظم من شأنه - من امرأة دنسة كهيرو.
دون جون :
وأي دليل على هذا أقدمه؟
بوراشيو :
حسبك منه أن تضلل به الأمير، وتغيظ به كلوديو، وتقضي على هيرو، وتقتل ليوناتو، فهل ترتقب شيئا غير ذلك؟
دون جون :
لن أتردد في أمر ما، إذا كان فيه شفاء موجدتي عليهم.
بوراشيو :
اذهب إذن فالتمس لي وقتا مناسبا، لجر دون بدرو والكونت كلوديو إلى خلوة بك، ونبئهما بأنك تعرف أن هيرو تحبني، وأظهر الغضب لأجلهما، غيرة منك على شرف أخيك الذي تولى الخطبة، وعلى سمعة صديقه الذي يوشك أن يخدع، في فتاة تساق إليه كأنها عذراء وما هي بعذراء. وقل لهما إنك كشفت ذلك، ولعلهما سوف لا يصدقانه بغير دليل، فأضرب لهما أمثلة. وأعرض عليهما بينات. وليس منها ما هو أرجح من رؤيتي تحت نافذة مخدعها، وسماعك إياي وأنا أنادي مرجريت «هيرو» ومرجريت تناديني «كلوديو». واطلب إليهما أن يتحققا من ذلك بنفسيهما في الليلة التي ستسبق الزفاف، لأنني في الوقت ذاته سأدبر الأمر، حتى تغيب هيرو عن المخدع في تلك اللحظة، لكي تتراءى خيانتها كأنها الحقيقة التي لا ريب فيها، ويبدو ما تهيؤه الغيرة كأنه يقين ويفسد كل استعداد تم.
دون جون :
إنني لمنفذ ذلك فعلا مهما يكن له من سيئ العواقب، فأحسن بالمكر تدبيره يكن جزاءك عنه ألف دوقية.
50
بوراشيو :
وتمسك أنت بالاتهام ولا تتناقص، وأما أنا فلن يخذلني مكري.
دون جون :
إنى ذاهب من فوري لأعرف موعد القران. (يخرجان)
المنظر الثالث
في حديقة بيت ليوناتو (يدخل بنيديك.)
بنيديك :
يا غلام! (يدخل غلام.)
الغلام :
سيدي السنيور؟
بنيديك :
على نافذة غرفتي تجد كتابا، هاته لي هنا في الحديقة.
الغلام :
أنا هنا الآن يا سيدي.
بنيديك :
أعرف ذلك، ولكني أريد أن تذهب إلى هناك ثم تعود إلى هنا (يخرج غلام) .
إني لفي عجب عاجب، أن أرى رجلا بدت له حماقة سواه، وبالغ سخفه، في الاستسلام للحب، وطالما ضحك ساخرا من حمق الآخرين فيه، كيف يستسلم هو له فيقيم من نفسه الحجة على حماقته ، والدليل على استحقاقه لسخريته، ذلكم هو كلوديو، فقد عرفته لا يطرب إلا لقرع الطبول وصوت المزمار،
51
فإذا هو اليوم يؤثر عليهما سماع القربة والطنبور، وعرفته يقطع عشرة أميال سيرا على قدميه ليرى لأمة
52
حسنة، فإذا هو اليوم يقضي عشر ليال ساهرا يفكر في زي صدار جديد، وكان فيما مضى الصريح الموجز، يرمي إلى هدفه شأن الرجال الأمين، وديدن الجندي، فإذا هو يصبح الرجل المتعالم المتأنق
53
في حديثه، الحافل القول بأغرب أصنافه، كأن حديثه المائدة المليئة بأعجب ألوان الطعام وصحافه، فهل أرجو أن أتحول هكذا وأتبدل، وأشهد بعيني ما تشهده عيناه؟ لا أدري! ولا أظن، وأحسب الحب سيحيلني قوقعة أو يردني حيوانا، ولكني أقسم أنه لن يجعلني أبله مأفونا، قبل أن يتم له تحويلي كذلك. إن في النساء الحسناء، وأنا الخلي، والعاقلة ولكني لست أرضاها، والفاضلة، وقلبي من حبها خلاء، فلن تظفر مني بالرضى بنت حواء، حتى تجمع كل هذه الصفات، وتتوافر لها كل هذه الخلال. لتكن ذات مال، فهذا لا نزاع فيه، وأخت حكمة، وإلا لما رضيتها، وفاضلة، وإلا لما قبلت مساومة فيها، وحسناء، وإلا لما نظرت إليها، ورقيقة، وإلا لما دنت مني، ونبيلة،
54
وإلا لما كنت حيالها ملاكا، وحلوة الحديث صاحبة طرب بارعة، شعرها كما صنعه الله.
ها ... ها هو ذا الأمير، والسيد «الحب»
55
قادمان، فلأختبئ في الخميلة (يختبئ) . (يدخل دون بدرو وكلوديو وليوناتو.)
دون بدرو :
تعال بنا ألا تستمع لهذه الموسيقى؟
كلوديو :
بلى، يا مولاي الكريم، ما أسجى الليل!
كأنما قد سكت عن عمد، ليزيد اللحن حسنا وانسجاما.
دون بدرو :
أرأيت أين اختبأ بنيديك.
كلوديو :
ليكن يا مولاي، أما والموسيقى قد انتهت، فليأذن للثعلب الصغير بهذه التافهة.
56 (يدخل بلتازار والموسيقى.)
دون بدرو :
هلم يا بلتازار، أسمعنا هذه الأغنية مرة أخرى.
بلتازار :
أي مولاي الكريم، لا تكلف صوتا قبيحا كصوتي، أن يسيء إلى الطرب أكثر من مرة.
57
دون بدرو :
إن إنكار المرء لفضله ودعواه الجهل بأحسن ما فيه، لهما دائما خير برهان على عظم شأنه، وجلال قدره، فغن ولا تدعني أكرر السؤال، وأردد الخطبة.
58
بلتازار :
سأغني ما دمت قد تحدثت عن الخطبة، فكم من خطيب شرع في خطبة فتاة لا يحسبها خليقة به، ولكنه يمضي في تشبيبه، ويقسم أنه الصب المستهام.
دون بدرو :
أناشدك أن تغني، أو إن أبيت إلا المضي في المحاجة، فلتكن حججك أنغاما.
بلتازار :
ألق بالك إلى هذا قبل أن أنطلق بأنغامي، إذ ليس فيهن نغمة جديرة بالملاحظة.
دون بدرو :
يا عجبا، إن كلامه هذا «دندنة» في ذاتها ونغمات، فهو لا يكف عن ذكر الأنغام ولا يقول شيئا. (يبدأ بلتازار النغم.)
بنيديك :
يا لجلال النغم وسحر الأوتار، هذه روحه قد بدأت تفتن، أليس عجيبا أن تكون لأمعاء الضأن القدرة على اجتذاب الأرواح من أعماق الأجسام.
59
بلتازار (الأغنية) :
أيتها الغيد اكففن عن التأوه والتنهيد،
فديدن الرجال، الخداع والضلال،
قدم لهم في البحر، وقدم في البر،
ولا نبات عندهم إلى آخر الدهر.
حسبكن تحسرا وتنهيدا، واتركنهم وشأنهم،
وابتغين لهوا ومرحا وانثنين عن أناشيد الحزن،
إلى أغاني الأفراح، والطرب.
حسبكن ترنما بالأناشيد النكدة الثقيلة،
كذلك كان غدر الرجال من الأزل،
منذ خلق الصيف مورقا وارف الظل،
وإذن تحسرا ... إلخ ...
دون بدرو :
يمين الحق، إنها لأغنية حسنة.
بلتازار :
والمغني رديء يا مولاي.
دون بدرو :
كلا، كلا ... يمينا، إنك لتغني غناء حسنا ينتقل من نغمة إلى نغمة.
بنيديك :
لو كان كلبا وعوى هذا العواء، لشنقوه، أرجو الله أن لا يكون صوته القبيح نذيرا بسوء، ووددت لو أني سمعت الغراب الأسحم، وإن جاء الطاعون في إثره يدهم.
دون بدرو :
أتسمع يا بلتازار؟
أرجوك أن تأتينا بموسيقى بديعة، لأننا نريدها مساء غد، تحت شرفة مخدع الحسناء هيرو.
بلتازار :
سآتي بخير ما أستطيع يا مولاي.
دون بدرو :
افعل ... مع السلامة (يخرج بلتازار) .
أقبل يا ليوناتو، ما الذي نبأتنيه اليوم.
أقلت إن ابنة أخيك بياتريس تحب السنيور بنيديك؟
كلوديو :
أي نعم ... لنتقدم بحذر ... إن الطائر جاثم مطمئن،
60
ما كنت أحسب يوما أن هذه السيدة ستحب أحدا.
ليوناتو :
ولا أنا - وأعجب العجب أن يشغفها السنيور بنيديك حبا، وهي تبدي له في الظاهر أشد المقت.
بنيديك :
أممكن هذا؟ أتهب الريح من هذه الناحية؟
ليوناتو :
يمين الحق يا مولاي، إني لفي حيرة، لا أدري كيف توليه هذا الحب الشديد، إن هذا الأمر يتجاوز حدود المعقول.
دون بدرو :
لعلها تتظاهر.
كلوديو :
محتمل، جائز.
ليوناتو :
بالله ... تتظاهر ... ما أحسب في الدنيا عاطفة مزيفة هي أدنى إلى العاطفة الصحيحة مما تبديه.
دون بدرو :
وأي أعراض الحب هي كاشفة؟
كلوديو :
أصلح الطعم في الشص، فإن هذه السمكة ستقضمه.
ليوناتو :
أتسألني عن الأعراض يا مولاي؟ إنها سوف تدهشك، ألم تنبئك ابنتي كيف كان ذلك؟
كلوديو :
لقد نبأتني حقا.
دون بدرو :
كيف ... كيف ... أناشدكما، فقد أدهشتماني، لقد كنت أظن أن عواطفها مستعصية على هجمات الحب وطعناته.
ليوناتو :
لم أكن لأتردد يا مولاي في القسم بذلك، وبخاصة نحو بنيديك بالذات.
بنيديك :
كنت أحسبها خدعة ومكرا، لولا أن المحدث بهذا هو ذلك الشيخ الأشيب، والمكر لا يمكن أن يجتمع مع هذا الوقار الطاهر.
كلوديو :
لقد وقع الصيد في الفخ، فلا تدعوه يفلت منه.
دون بدرو :
وهل كاشفت بنيديك بحبها؟
ليوناتو :
كلا، وقد أقسمت أنها لن تفعل، وهذه هي محنتها.
كلوديو :
حقا إنها لكذلك، فقد حدثتني ابنتك. أنها قالت لها: «أأنا التي طالما سخرت منه حين لقيته، أكتب إليه بأني أحبه؟»
ليوناتو :
هذا هو ما تقوله الآن، حين بدأت تكتب إليه، فهي تنهض عشرين مرة في الليل، فتكتب وهي في جلبابها، حتى تملأ صفحة كاملة، لقد حدثتنا ابنتي عن هذا كله.
كلوديو :
أما وقد ذكرت الصفحة «المليئة»، فلا أزال أذكر فكاهة مليحة قالتها لنا ابنتك.
ليوناتو :
آه، حين فرغت من كتابتها، وقرأت الصفحة التي «ملأتها». خيل إليها أن بنيديك وبياتريس في الفراش فوق «ملاءتها».
61
كلوديو :
هذه هي النكتة بالذات.
ليوناتو :
لقد مزقت الكتاب إربا، وسخرت من نفسها كيف لم تستح أن تكتب مثله، إلى رجل تعرف أنه سوف يستهزئ بها، وأنثنت تقول، إنني أقيسه «بما كنت أنا في مثل هذه الحال فاعلته» فلو كتب إلي هكذا لسخرت منه، وإن كنت أحبه.
كلوديو :
ثم تخر راكعة على ركبتيها ... باكية، ناشجة. تدق صدرها بكفها، وتقتلع شعرها، وتضرع، وتلعن، وتنادي، أي بنيديك الجميل «اللهم ألهمني الصبر».
ليوناتو :
هذا هو ما تفعله كما علمت من ابنتي، حتى لقد بلغ من فرط جنتها، وأثر النوبة العنيفة التي انتابتها، أن بدأت ابنتي تخشى أن تلحق بنفسها أذى بليغا في أثناء نكبتها وهذا صحيح.
دون بدرو :
يحسن أن يعرف بنيديك هذا الأمر بأية وسيلة أخرى، ما دامت تأبى أن تكاشفه به.
كلوديو :
وما النتيجة، فلسوف يتخذها هزءا، ويزيد في تعذيب المسكينة طغيانا وبغيا.
دون بدرو :
لو فعل؛ لكان من الخير أن نشنقه شنقا. إنها لفتاة حسناء حلوة. وفاضلة فوق كل شبهة.
كلوديو :
وحكيمة إلى أبعد حدود الحكمة.
دون بدرو :
هي كذلك إلا في شيء واحد، وهو حب بنيديك.
ليوناتو :
إن الحكمة يا مولاي والعاطفة، تتنازعان وتضطرمان في هذا البدن الغض، ولدينا الأدلة المتوافرة على أن العاطفة هي المنتصرة، وإني لها لمحزون، ولي العذر، لأني عمها وولي أمرها.
دون بدرو :
ليتها وهبتني أنا هذا الحب الجنوني، إذن لاطرحت كل اعتبار وجعلتها نصف نفس. أرجوك أن تنبئ بنيديك وتعرف ما هو قائل.
ليوناتو :
هل تظن أن في ذلك نفعا؟
كلوديو :
إن هيرو تظن أنها ستموت لا محالة؛ لأنها تقول إنها ستقضي إذا هو لم يحبها، وستموت قبل أن تعلن حبها، وستفضل الموت إذا هو فاتحها على الإقلال من مألوف سخريتها منه.
دون بدرو :
تحسن صنعا؛ لأنه من الجائز إذا هي عرضت عليه حبها أن يسخر منه؛ لأن الرجل - كما تعلمون جميعا - ذو نفس هازئة ساخرة.
كلوديو :
إنه مثال الرجل المستقيم الفاضل.
دون بدرو :
إن له في الحق مظهرا جميلا يستهوي النفوس.
كلوديو :
وإني لأشهد أمام الله أنه لرجل كريم.
دون بدرو :
إنه لتبدو عليه في الواقع مخايل الحكمة، وتنبثق منه شرارة ذات بريق يشبه الذكاء.
كلوديو :
وأنا أعده شجاعا باسلا.
ليوناتو :
أؤكد لك أنه في مثل شجاعة «هكتور»
62
وبسالته، أما في تدبير الاشتباكات والمشاجرات؛ فلك أن تقول إنه الحكيم، لأنه إما أن يتحاشاها بفطنة بالغة، أو يتولاها بخشية أقرب ما تكون لها خشية المسيحيين المؤمنين.
ليوناتو :
إذا كان حقا يخشى الله، كان حتما الوديع المسالم، أما إذا هو لم يجنح إلى السلم، فلا مفر له من الدخول في الشجار وجلا مرتجفا.
دون بدرو :
هذا هو ديدنه، لأنه يخاف الله، وإن لم يبد ذلك عليه للنكات والأمازيح الجافة التي يرسلها. إنني ليحزنني حظ ابنة أخيك. أنذهب لنبحث عن بنيديك لكي ننبئه بحبها.
كلوديو :
ينبغي أن لا تخبره بذلك يا مولاي، ولندعها تتغلب عليه بحسن تفكيرها.
ليوناتو :
كلا، هذا غير جائز. فقد ينهك الصبر عليه فؤادها أولا.
دون بدرو :
حسن ما قلت، ولنسمع من ابنتك ما هي فاعلة بعد، ولندع الأمر في سبيله حتى يهدأ قليلا، إنني أحب بنيديك حقا، وبودي لو يعود إلى نفسه فيبلوها، حتى يتبين إلى أي حد، هو غير خليق بسيدة طيبة مثلها.
ليوناتو :
مولاي، ألا نمضي، إن العشاء قد أعد.
كلوديو :
إذا هو لم يشغف بها حبا بعد هذا، فلن يصدق يوما ظني.
دون بدرو :
لندع الشرك على هذا النحو منصوبا لها، وهذا هو ما نحن تاركوه لابنتك ووصيفتها تدبرانه، وستكون التسلية الممتعة حين يعرف كل منهما شغف صاحبه، بودي لو أرى هذا المشهد، إنه سيكون تمثيلا بالإشارات لا بالكلام. دعونا نوفدها لتدعوه إلى العشاء. (يخرج دون بدرو وكلوديو وليوناتو.)
بنيديك (يتقدم من مخبئه) :
لا يمكن أن يكون هذا خدعة، فقد كان الحديث جادا. وقد عرفوا حقيقة الأمر من هيرو، ويبدو لي أنهم على الفتاة مشفقون والظاهر أن حبها بلغ نهاية المدى ... إنها تحبني ... يا لله!
لا معدى عن تبادل الحب والاستجابة له، وقد سمعتهم يلومنني وينتقدون مسلكي، ويقولون إنني سأروح المزهو المتكبر، إذا لمحت الحب من جانبها منبعثا، ولقد قالوا أيضا إنها لتؤثر الموت على إظهار حبها، ولكني لم أفكر يوما في الزواج، ولا ينبغي لي أن أبدو صلفا متكبرا، إن السعداء من يسمعون معايبهم فيستطيعون إصلاحها، وهم قائلون إن السيدة حسناء ، وهذا صحيح، وإني لشاهد لها بالحسن غير منكر؛ وفاضلة، وهذا حق لا أكذبه؛ وأريبة عاقلة، إلا في حبي، ولكن يمين الحق، إن حبها لي لا يزيد في حكمتها، ولا يضيف شيئا إلى فطنتها، ولا هو بحجة بالغة على حماقتها؛ لأنني سأتناهى في حبها، وأمعن في الكلف بها، ولعلي مستهدف لشيء من النكت وقليل من السخرية، لأنني كثيرا ما سخرت من الزواج واستزريته، ولكن ألا تتغير الشهوة إلى الطعام، وتقبل أحيانا أو تنصرف. فقد يحب الرجل أكل اللحم في شبابه. فإذا تقدمت به السن لم يعد يطيقه، فهل ترى هذه النكت والأمثال، والفكاهات التي لا ضرر فيها، صارفة المرء عن سبيله، عادلة به عن رغبته وهوى نفسه. كلا، يجب أن يعمر العالم بالناس، وحين قلت إنني أوثر أن «أموت» أعزب، لم أكن أدري أنني «سأحيا» حتى أقترن ... ها هي ذي بياتريس قادمة ... وحق هذا النهار إنها لحسناء، وإني لألمح بعض أمارات الحب عليها. (تدخل بياتريس.)
بياتريس :
أوفدت على كره مني لأدعوك إلى العشاء.
بنيديك :
أشكرك أيتها الحسناء بياتريس على تجشمك هذا التعب.
بياتريس :
لم أتكبد في سبب شكرك لي تعبا، أكثر من تكبدك أنت في شكري. ولو كان في مجيئي إليك تعب لما جئت.
بنيديك :
هل سرتك إذن الوفادة إلي؟
بياتريس :
أجل، كسرورك من تناولك مدية ووخز غراب بسنانها ... ألا رغبة لك في الطعام يا سنيور ...؟ طاب يومك (تخرج) .
بنيديك :
ها ...! «لقد أوفدت إليك على كره لأدعوك إلى الطعام»، إن هذا القول منها يحمل معنيين. ثم قولها لم أتكبد في سبب شكرك لي تعبا أكثر مما تتكبده أنت لشكري، يعني أن أي تعب أتكبده في سبيلك لسهل هين كالشكر ... وإذا أنا لم أشفق عليها، كنت وغدا دنيئا، وإذا أنا لم أحبها كنت يهوديا ... فلأذهب لأظفر بصورتها. (يخرج)
هوامش
الفصل الثالث
المنظر الأول
في حديقة ليوناتو (تدخل هيرو ومرجريت وأورسولا.)
هيرو :
أسرعي يا مرجريت إلى الردهة، تجدي ابنة عمي بياتريس، تتحدث مع الأمير وكلوديو، فاهمسي في أذنها أنني أنا وأورسولا نتمشى الساعة في الحديقة، وإن حديثنا كله يدور حولها، وقولي إنك استرقت السمع علينا، واطلبي إليها أن تتسلل إلى الدغلة الظليلة المشذبة، حيث أنضجت الشمس أعواد العلندا، فمنعتها من النفاذ فيها، كمثل أهل الحظوة عند الأمراء، يتكبرون على السلطان الذي اصطنعهم، ويزهون على الصولة التي أنشأتهم؛ ونبئيها أنه يحسن بها أن تختبئ عن كثب، لتنصت إلى حديثنا، وتتسمع علينا. هذه هي مهمتك، فأحسني تأديتها ودعينا وحدنا.
مرجريت :
أؤكد أني سآتي بها في الحال (تخرج) .
هيرو :
والآن يا أورسولا اسمعي: لنجعل حديثنا إذا جاءت بياتريس، ونحن نقطع هذا الدرب ذهابا وجيئة، منصرفا بجملته إلى الكلام على بنيديك، فإذا ما ذكرت اسمه، فليكن قولك مديحا فيه، وثناء عليه، أطيب مما ظفر امرؤ يوما بمثله، وسأحدثك أنا عن مدى صبابته ببياتريس، وفرط جواه، فكذلك نصطنع سهام كيوبيد الصغير ونباله المصمية، تجرح بالسماع وتدمي بالرواية.
1 (تدخل بياتريس من خلفهما.)
والآن فلنبدأ الكلام فها هي ذي بياتريس قادمة تتسلل كالزقزاق،
2
يتوثب قريبا من الأرض، لكي تنصت إلى حديثنا.
أورسولا :
إن أكثر ما في الصيد من متعة، أن يشهد الصائد السمكة، تمرق بزعانفها الذهبية تحت أمواه الجدول الفضي، وتقبل منهومة على الطعم الغدار لتأكله، وما مثلنا حيال بياتريس إلا كمثل هذا الصائد المترقب، وهي الآن منزوية بين أعواد العلندا مختبئة، فلا تخشي من ناحية دوري في الحوار الذي سيجري بيننا.
هيرو :
لنقترب إذن منها، حتى لا يفوت أذنها شيء من هذا الطعم الخادع الحلو الذي ندسه لها. (تقتربان من الدغلة.)
كلا، والله يا أورسولا، إنها لمفرطة في الترفع والكبرياء، وأعرف عنها شدة الحياء، وإنها لنافرة كالصقور البرية والرخم.
أورسولا :
ولكن أواثقة أنت أن بنيديك يحب بياتريس من كل قلبه؟
هيرو :
هكذا يقول الأمير وقريني الجديد.
أورسولا :
وهل طلبا إليك يا مولاتي أن تنبئيها به.
هيرو :
لقد ناشداني أن أكاشفها به، ولكني رجوتهما إن كانا يحبان بنيديك حقا، أن ينصحا له بمغالبة حبه، فلا يدع بياتريس تعرف عنه شيئا.
أورسولا :
ولماذا فعلت ذلك؟ أليس هذا الرجل الكريم خليقا ببياتريس زوجا وشريك فراش؟
هيرو :
يا إله الحب، إني لأعرف أنه خليق بكل ما يجدر برجل أن يوهبه، ولكن الله لم يخلق قلبا أشد زهوا من قلب بياتريس. إن الترفع والسخرية يتلألآن في عينيها، فتستصغران شأن كل ما تقعان عليه، وهي تبالغ في تقدير قوة ذكائها، حتى ليبدو كل ما عداه ضعيفا إنها لا يمكن أن تحب، ولا تطيق التفكير في الحب أو تصوره، إنها محبة لذاتها، مفرطة في أثرتها.
أورسولا :
حقا إني لأراها كذلك، ولهذا يحسن بلا شك ألا تعرف شيئا عن حبه لئلا تعبث به.
هيرو :
الحق ما قلت، فما رأيت في حياتي رجلا، حكيما نبيلا فتيا، نادر الوسامة، حلو القسمات، إلا أساءت وصفه، وعكست عليه مزاياه، فإن كان أبيض الوجه، أقسمت أنه كان خليقا به أن يكون أختها، وإن كان أسمر قالت إن الطبيعة أرادت أن ترسم صورة مهرج مهذار. فسكبت قطرة من المداد فكان تلك القطرة، وإن كان طويلا، فهو الرمح الرديء الرأس. وإن كان قصيرا فهو عندها فص من عقيق، لم يتقن قطعه ولم يهذب تركيبه. وإن كان متحدثا، فهو في نظرها دوارة تدور مع الرياح. وإن كان صموتا، فصخرة لا يحركها شيء، وكذلك هي، تقلب كل رجل إلى ضده، وتحيله إلى نقيضه، ولا تعطي الحق والفضل يوما نصيبهما من البساطة والاستحقاق.
أورسولا :
حقا، حقا، إن هذا البحث عن المثالب ليس مستحبا.
هيرو :
إن كل شذوذ وخروج عن المألوف، كدأب بياتريس، هيهات أن يستحب، ولكن منذا الذي يجسر أن يقول هذا لها؟ فلو تكلمت، لسخرت مني وهزأت، بل لأضحكتني من نفسي، وأثقلت كاهلي بعبء فكاهتها حتى ألفظ الأنفاس،
3
فليبق بنيديك كالنار المغطاة، وليحترق زفرات، ولتذهب نفسه حسرات، فإن الموت على هذا النحو خير من الموت من وخزات الاستهزاء، وما أشبهه بالموت من الغمر والتخميش.
أورسولا :
ومع ذلك فلتتحدثي في هذا إليها، ولتسمعي ما تقول.
هيرو :
كلا، إني لأوثر أن أذهب إلى بنيديك، وأنصح له أن يغالب صبابته، ويصارع جواه، وفي الحق إنني سأختلق أكاذيب لا بأس منها لألصقها بابنة عمي؛ فمن يدري كم من كلمة سوأى سممت حبا، وأفسدت عاطفة.
أورسولا :
لا تسيئي إلى ابنة عمك هكذا. فما أحسبها متجردة من صحة الحكم والتقدير إلى هذا الحد، وهي الفطنة الحاضرة البديهة الذكية، والرضى بسيد مهذب نادر المثال كالسنيور بنيديك، أحجى وأولى من رفضه.
هيرو :
إنه الرجل الأوحد في إيطاليا، إذا استثنينا عزيزي كلوديو بطبيعة الحال.
أورسولا :
أناشدك يا مولاتي أن لا تغضبي مني إذا صارحتك برأيي، إن السنيور بنيديك لأعظم الناس شهرة، بحسن الصورة والسمت ورجحان العقل والشجاعة، في طول إيطاليا وعرضها.
هيرو :
حقا، إن له شهرة عظيمة واسعة.
أورسولا :
لقد أكسبته شمائله هذه الشهرة قبل أن ينالها؛ ومتى يتم قرانك يا مولاتي؟
هيرو :
كل يوم، ما دام سيتم غدا.
4
هلمي ندخل، لأريك بعض الثياب.
وأستنصحك أيها أحسن لتوافيني به غدا.
أورسولا :
لقد وقعت في دبق الفخ، أؤكد لك يا مولاتي أننا قد أوقعناها في الشرك.
هيرو :
إذا صح ما تقولين، صح أيضا أن الحب قد يأتي مصادفة واتفاقا، وأن بعض الناس يصرعهم كيوبيد بالسهام، وبعضهم يوقعهم في الفخاخ. (تدخل هيرو وأورسولا.)
بياتريس (تتقدم) :
ما هذه النار التي تحرق أذني ... أحق هذا الذي سمعته،
5
أكذا أرمى بالإفراط في الكبرياء والسخرية إلى هذا الحد، فاليوم وداعا أيتها السخرية، وعفاء عليك يا حياء (العذارى)، فلا حياة للمجد وراء ظهرك، ويا بنيديك امض في حبك فإني لمنصفتك، ومروضة قلبي النافر على لمس راحتك الحانية، فإن كنت تحب فإن حناني سيدفعك إلى ربط حياتنا برباط مقدس، لأن الناس يقولون إنه بالحب جدير، وأنا أعرف به من القائلين.
المنظر الثاني
غرفة في دار ليوناتو (يدخل دون بدرو وكلوديو وبنيديك وليوناتو.)
دون بدرو :
لن أقيم هنا إلا ريثما يتم زواجك ثم أذهب إلى أراجون.
كلوديو :
سأرافقك إليها يا مولاي، إذا سمحت.
دون بدرو :
كلا، لو فعلت لكان ذلك أشبه شيء بلطخة في صفحة زواجك الناصعة الجديدة، كمن يري الطفل رداءه الجديد ثم يمنعه من ارتدائه، ولن أجرؤ إلا على اصطحاب بنيديك لأنه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه مليء مرحا، مفعم فكاهة، وقد قطع مرتين أو ثلاث مرات لكيوبيد وتر قوسه. فلم يجرؤ هذا الجلاد الصغير
6
على إطلاق السهام عليه، وإن له لقلبا سليما كالناقوس رنينا، ولسانه هو مدقه
7
كلما خطر للقلب خاطر، كان لسانه عنه المعبر.
بنيديك :
سادتي البواسل، لم أعد المرح الذي كنته.
ليوناتو :
هذا ما قلته، يلوح لي أنك مكتئب.
كلوديو :
لعله عاشق.
دون بدرو :
لا تعلق هذا الوهم به، ولا يشرد بك الفكر فيه، فليس فيه نقطة صادقة من الدم يمكن أن يمسها الحب حقا. فإن كان مكتئبا فهو في حاجة إلى المال.
بنيديك :
بل هو وجع ضرس.
دون بدرو :
اقلعه.
بنيديك :
ألا سحقا له.
كلوديو :
اربطه بالخيط ثم اجذبه.
دون بدرو :
لك الله! أتزفر من وجع ضرس؟
ليوناتو :
حيث لا يوجد إلا بعض الصديد أو السوس.
بنيديك :
في وسع كل إنسان أن يتغلب على الألم إلا من يعانيه.
كلوديو :
ولا زلت أقول إنه عاشق.
دون بدرو :
لا أثر فيه لهوى، إلا أن يكون نزوعا إلى غريب تنكر، كان يبدو اليوم هولنديا، وغدا فرنسيا، أو في زي رجلين من أمتين في آن واحد، كألماني مثلا، من الخاصرة فما دون سراويل فضفاضة، وكأسباني، من العجز فما فوق، بغير صدار، فإذا لم يكن له هذا الهوى الذي ينازعه إلى هذه الحماقة - ويبدو أن له هذا الهوى - فليس هو من الحمق بحيث ينزع إلى الخيال، كما تريد أن تظنه كذلك.
كلوديو :
إذا لم يكن قد وقع في حب امرأة، فلا خير إذن في تصديق الأمارات. لقد راح ينفض بالفرشاة قبعته كل صباح، فماذا ترى ذلك منبئا به؟
دون بدرو :
هل بصر به أحد عند الحلاق؟
كلوديو :
كلا، ولكن صبي الحلاق رؤي عنده، وأمسى ما كان حلية لخده حشوا للكرات التي يتقاذفها اللاعبون.
8
ليوناتو :
حقا، إنه ليلوح اليوم أصغر سنا منه فيما مضى بعد زوال لحيته.
دون بدرو :
إنه ليتضمخ بالمسك ... ألم تعرفوه بطيبه قبل أن يقترب؟
كلوديو :
ومعنى هذا بعبارة أخرى أن هذا الفتى الظريف البديع عاشق.
دون بدرو :
إن الكآبة أكبر سمات هذا الحب.
كلوديو :
ومتى رأيتموه قد اعتاد غسل وجهه؟
دون بدرو :
أي نعم، بل متى كان يتزين ويتجمل؟ وهذا ما أسمع الناس يقولون عنه.
كلوديو :
ولكن روحه الماجنة قد تسللت الآن إلى أوتار عود تتحكم فيه المفاتيح.
9
دون بدرو :
الواقع أن في هذا دليلا قويا، نستنتج منه أنه يحب.
كلوديو :
نعم، وأنا أعرف من التي تحبه.
دون بدرو :
وأنا أيضا أريد أن أعرفها، وأؤكد لك أنها فتاة تجهله.
كلوديو :
أجل ولا تدري عن سوء حاله شيئا. وإن كانت مع ذلك تموت من فرط حبها إياه.
دون بدرو :
ستدفن وجهها إلى أعلى.
10
بنيديك :
وبعد فليس هذا «برقية» من وجع الأسنان ... أيها الشيخ، هلا انتحينا ناحية؟ فقد أعددت ثماني كلمات أو تسعا أريد أن أقولها لك، حتى لا يسمعها هذان السخيفان. (يخرج بنيديك وليوناتو.)
دون بدرو :
إني لشديد الرغبة في أن أنقل إليه حب بياتريس له.
كلوديو :
إن الأمر لكذلك، وقد أدت هيرو ومرجريت
11
دورهما معها، ولهذا لن يعض الدبان بعضهما بعضا حين يلتقيان.
12 (يدخل دون جون.)
دون جون :
سلمت يا مولاي وأخي.
دون بدرو :
نعمت مساء يا أخي.
دون جون :
أريد أن أتحدث إليك إذا سمح بذلك وقتك.
دون بدرو :
حديثا خاصا ...؟
دون جون :
إذا تفضلت، ولا بأس من أن يسمع الكونت كلوديو لأن الكلام الذي سأقوله يعنيه.
دون بدرو :
ما خطبك؟
دون جون (مخاطبا كلوديو) :
هل تنتوي يا مولاي القران غدا؟
دون بدرو :
وأنت تعرف أنه ينتويه.
دون جون :
لا أعرف ذلك، حين يعرف ما أنا عارف.
كلوديو :
إن كان ثمة حائل، ناشدتك أن تكشف عنه.
دون جون :
لقد تحسب أنني لا أحبك، فلندع هذا إلى ما بعد، وحاول أن تحسن الظن بما أنا الساعة كاشفه، أما أخي فهو يؤثرك، وقد ساعد عطفا منه، وإعزازا في تحقيق قرانك الذي حان موعده واقترب، وما من شك في أنه قد أخطأ في هذه الوساطة، وبئس الجهد المبذول فيها.
دون بدرو :
ماذا تقول، وما الخطب ...؟
دون جون :
لقد جئت لكي أنبئك باختصار، لأن الحديث طويل، أن هذه الفتاة غير وفية.
كلوديو :
من ... هيرو ...؟
دون جون :
نعم، هي، هيرو ابنة ليوناتو، هيرو صاحبتك، وصاحبة كل رجل.
كلوديو :
أغير وفية هي؟
دون جون :
إن هذا اللفظ لأجمل من أن يصور مبلغ شرها، بل أستطيع أن أقول إنها أدهى من ذلك وأمر، فهل عندك وصف أسوأ لكي أنعتها به؟ ولكن لا تعجب حتى يأتيك الدليل، وما عليك إلا أن تصاحبني الليلة فترى رجلا يدخل خدرها من النافذة. في هذه الليلة التي تسبق يوم زفافها، فإن كنت مع ذلك تحبها فابن غدا بها، ولكن من الخير لحفاظك وشرفك أن تعدل عنها.
كلوديو :
أيمكن أن يكون هذا صحيحا ...؟
دون بدرو :
لا أظن.
دون جون :
إن لم تستطع أن تصدق ما تراه بعينيك فلا تقر بما تعرف، وسأريك ما فيه الكفاية إن اتبعتني، وبعد أن تبصر وتسمع أكثر مما أبصرت وسمعت، تصرف على ضوئه وافعل وفق مقتضاه.
كلوديو :
إذا أنا رأيت شيئا الليلة، فلست بمقترن بها غدا، وفي الاجتماع الذي سيعقد، سأخزيها وأكشف عن عارها.
دون بدرو :
وسأشاركك في كشف شنارها، ما دمت أنا الذي سعيت في الظفر لك بها.
دون جون :
لن أنتقصها أكثر من هذا، حتى تكونا شاهدين، فاصبر إلى منتصف الليل، ودع الأمور تجري في أعنتها.
دون بدرو :
يا له من يوم انقلب نحسا.
كلوديو :
يا لها من مصيبة تخنق الأنفاس.
دون جون :
ستقول حين ترى البقية يا له من شر مستطير عرفنا كيف نحول دونه قبل مداهمته. (يخرجون)
المنظر الثالث
طريق عام (يدخل دوجبري
13
وفارجس،
14
مع جمع من الحراس.)
دوجبري :
هل أنتم إخوان خير وصدق؟
فارجس :
أجل، وإلا كان مما يؤسف له أن حقت عليهم النقمة، والعذاب بدنا وروحا.
15
دوجبري :
نعم وهذا عقاب قليل عليهم، إذا كانت لديهم ذرة من الوفاء، وقد وقع الاختيار عليهم للسهر والرقابة طوعا للأمير.
فارجس :
عين لهم يا جارنا دوجبري العمل المطلوب منهم.
دوجبري :
أولا من الذي تظنه أبعد من أن يكون جديرا برتبة ضابط صف.
16
الحارس 1 :
هيو أوتكيك
17
يا سيدي أو جورج سيكول لأنهما يقرآن ويكتبان.
دوجبري :
أقبل يا جارنا سيكول، لقد أنعم الله عليك باسم حسن، إن حسن المظهر حبوة القدر، ولكن معرفة القراءة والكتابة تؤتيها الطبيعة.
الحارس 2 :
وكلاهما يا معلم ...
دوجبري (مقاطعا) :
إنهما لك، لقد كنت أعرف أن هذا سيكون جوابك، أما عن حسن مظهرك يا سيد فاحمد الله ولا تفخر به، وأما علمك بالقراءة والكتابة فلا تظهره إلا عندما لا تكون ثمة حاجة إلى هذه المفخرة،
18
إن الرأي المجمع عليه هنا أنك أقل الناس عقلا وجدارة
19
لرياسة الحرس. فلتمسك أنت إذن بالمصباح
20
فهذه هي مهمتك لتركب السافلة،
21
وتأمر كل عابر بالوقوف باسم الأمير.
الحارس 2 :
وإذا لم يقف؟
دوجبري :
لا تأبه به ودعه ينطلق، وناد في الحال بقية الحرس، واحمد الله على أنك قد تخلصت من وغد أثيم.
فارجس :
إذا لم يقف حين يؤمر فهو ليس من رعايا الأمير.
دوجبري :
هذا صحيح، ولا دخل للحراس بأحد غير رعاياه، وينبغي كذلك ألا تحدثوا في الطرق ضجيجا، لأن ثرثرة الحرس وحديثهم أكثر مما يحتمله الإنسان ولا يطيقه.
22
حارس :
إنا لنؤثر النوم على الكلام، ونحن أعرف الناس بما ينبغي للحراس وما لا ينبغي.
دوجبري :
مرحى، إنك لتقول قالة شيخ مجرب خبير هو أكثر الناس هدوءا، فأنا لست أدري كيف يكون النوم ذنبا، وإنما عليك أن تحترس حتى لا يسرق منك سلاحك.
23
والمطلوب منك أن تطوف بكل الحانات وتأمر السكارى بالذهاب إلى الفراش.
حارس :
وإذا هم أبوا.
دوجبري :
دعهم وشأنهم حتى يفيقوا، وإذا لم تجد منهم عندئذ جوابا أفضل مما أجابوا به أول مرة، فلك أن تقول إنهم ليسوا كما كنت تحسبهم من قبل.
حارس :
حسن يا سيدي.
دوجبري :
وإذا لقيت لصا، أدركت بحكم وظيفتك أنه ليس امرأ شريفا، وكلما أقللت من التدخل في شئون هذا الصنف من الناس، كان ذلك أسلم لشرفك.
حارس :
وإذا عرفنا أنه لص أفلا نلقي القبض عليه؟
دوجبري :
لك أن تفعل بحكم وظيفتك، ولكني أحسب أن من يلمس القار يلوث يديه، وأسلم سبيل لك إذا وقعت على سارق، أن تدعه يثبت لك من أي صنف من الناس هو فيسترق الخطى ويفارقك.
فارجس :
لطالما قيل عنك أيها الزميل إنك رجل رفيق رحيم.
دوجبري :
في الحق لست أرضى أن أشنق كلبا بإرادتي، وأنا أكثر
24
من ذلك رغبة في أن أفعل ذلك برجل أوتي ذرة من الشرف.
فارجس :
إذا سمعت وليدا يصرخ في الليل فادع المربية واطلب إليها أن تسكته.
حارس :
وما العمل إذا كانت المربية نائمة فلا تسمعنا؟
دوجبري :
إذن فانصرف بسلام ودع الوليد يوقظها بصراخه، لأن النعجة التي لا تسمع الحمل حين يرغو، لن تستجيب للعجل حين يخور.
فارجس :
هذا صحيح لا فرية فيه.
دوجبري :
هذه هي كل المهمة. وأنت يا ضابط الصف، فلتعلم أنك تماثل
25
في شخصك الأمير - فإن لقيته ليلا فلك أن توقفه.
فارجس :
يا الله، هذا ما لا قبل لي به.
دوجبري :
إنني أراهن أي إنسان يعرف القوانين بخمسة شلنات لقاء شلن واحد، إن له أن يوقفه، إذا رضى الأمير الوقوف طواعية، لأنه ليس للحارس في الواقع أن يسيء إلى أحد، ومن المساءة أن يوقف المرء أحدا رغم إرادته.
فارجس :
قسما، إن هذا هو الرأي الذي أراه.
دوجبري :
ها. ها. ها. والآن يا سادة طاب ليلكم، وإن طرأ عليكم أمر ذو بال فادعوني، وأمركم شورى بينكم، وعمتم مساء، هلم بنا أيها الجار!
حارس :
والآن أيها السادة لقد سمعنا الأوامر فهلموا بنا نقصد دكة الكنيسة إلى الساعة الثانية، ثم نذهب جميعا إلى الفراش.
دوجبري :
كلمة أخرى أيها الجيران الأخيار.
أرجو إليكم أن ترقبوا باب دار السنيور ليوناتو، فإن العرس سيقام فيه غدا وستكثر فيه الحركة الليلة. إلى اللقاء، وافتحوا أعينكم أناشدكم الله. (يخرج دوجبري وفارجس ويدخل بوراشيو وكونراد.)
بوراشيو :
كونراد! ألا تسمع؟
حارس (في ناحية) :
سكوتا ... ولا تتحركوا!
بوراشيو :
كونراد، إنني أناديك.
كونراد :
هأنذا يا رجل، عند مرفقك.
بوراشيو :
وعشاء الرب
26
لقد أحسست فيه حكة
27
فظننت أنها سيعقبها جرب.
كونراد :
سوف أحاسبك على هذا القول ... والآن علي بقصتك ...
بوراشيو :
اقترب، ولنقف تحت هذه السقيفة لنحتمي من الرذاذ، وسأحدثك بكل ما عندي فعل السكارى إذا حلت الخمر عقدة ألسنتهم.
28
حارس (في ناحية) :
جناية أيها السادة تدانوا.
بوراشيو :
ألا فاعلم أنني ظفرت من دون جون بألف دوقية.
كونراد :
أيمكن أن يكون ثمة إثم يبتاع بهذا الثمن كله؟
بوراشيو :
أولى بك أن تسأل هل يمكن أن يكون الإثم غنيا إلى هذا الحد؟
لأنه حين يحتاج الأشرار الأغنياء إلى عون الأشرار الفقراء، يحق لهؤلاء أن يعينوا الثمن الذي يطلبون.
كونراد :
إني لفي عجب من هذا.
بوراشيو :
إن هذا العجب منك ليدل على أنك لا تزال قليل التجربة، ولا أحسبك تجهل أن زي صدار أو قبعة أو قباء أمر لا يهم المرء ولا يعنيه.
كونراد :
نعم ... إنه ملبس فحسب.
بوراشيو :
إنني أعنى الزي.
كونراد :
أي نعم. الزي هو الزي.
بوراشيو :
هراء! إن هذا القول لهو بمثابة قولك إن الأحمق هو الأحمق.
ولكن ألا ترى إلى أي حد يبدو الزي لصا مشوها.
29
حارس (في ناحية) :
أعرف المشوه هذا، لقد كان لصا لئيما خلال السنوات السبع الماضية، وإن كان يروح ويغدو كأنه السيد المهذب إنني أتذكر اسمه.
بوراشيو :
ألم تسمع صوت أحد؟
كونراد :
كلا، إنه صوت الدوارة القائمة فوق سطح البيت.
بوراشيو :
قلت لك ألا ترى إلى أي حد يبدو الزي لصا مشوها؟
وكيف يستلب ألباب الشباب، ويذهل إخوان الدم الحار، الذين تتراوح أسنانهم بين الرابعة عشرة والخامسة والثلاثين، حتى ليجعلهم تارة يتراءون في ثياب جنود فرعون في رسومهم القاتمة.
30
وتارة أخرى في أردية كهنة بعل.
31
كما يبدون في الرسوم التي تزدان بها نوافذ المعابد، وحينا في زي هرقل الحليق كما هو مصور على أدم الأسفار القذرة التي أكلها العث.
في سراويل فضفاضة تشبه في حجمها عصاه.
32
كونراد :
كل ذلك أراه، وأرى أيضا كيف يبلى الزي من الثياب أكثر مما يبليه الإنسان،
33
ولكن ألست أنت نفسك قد أذهلك الزي كذلك وأطار لبك، حتى خرجت من القصة التي ستنبئني بها إلى حديث الزي؟
بوراشيو :
ليس الأمر كذلك، ولكن اعلم أنني الليلة قد أغريت مرجريت وصيفة هيرو، وناشدتها باسم مولاتنا أن تطل علي من شرفة مخدع سيدتها، وتقرئني ألف تحية وسلام، ولكني لم أحسن بداية الخبر. وكان أولى بي أن أقص عليك أولا كيف شهد الأمير وكلوديو ومولاي من مكان قصي في الحديقة هذا اللقاء المحبب بإيعاز دون جون وتأثيره وحملهما على الترصد في ذلك الموضع.
كونراد :
وهل ظنوا مرجريت هي هيرو؟
بوراشيو :
اثنان منهما حسباها كذلك. وهما الأمير وكلوديو، ولكن مولاي الشيطان كان يعلم أنها مرجريت، وهو الذي تمكن بأيمانه المغلظة من أن يستأثر بلبهما، وأعانه الليل البهيم كذلك على التغرير بهما، ولكن الفضل الأكبر يرجع إلى لؤمي ومكري؛ لأنهما أكدا كل وشاية اصطنعها دون جون، حتى لقد انطلق كلوديو محنقا مغيظا، وأقسم أنه حين يلتقي بها غداة اليوم التالي في الموعد المضروب، ويقف بجانبها في الكنيسة سيكشف أمام الجمع الحاشد عارها، ويعلن ما شهده في العشية بعينيه، ويردها إلى بيت أبيها غير ذات بعل.
الحارس 1 :
باسم الأمير آمرك أن تقف.
الحارس 2 :
ناد الرئيس، فقد كشفنا هنا أخطر خيانة عرفت في الدولة.
الحارس 1 :
ومن بينهم واحد يدعى المشوه وأنا أعرفه. إنه يرسل على جبينه طرة حب.
34
كونراد :
يا سادة ... يا سادة.
الحارس 2 :
وسنحملك على إحضار المشوه معك أؤكد لك هذا.
كونراد :
يا سادة.
الحارس 1 :
لا تتكلم، إننا نأمرك أن تتركنا نستاقك معنا.
بوراشيو :
أكبر ظني أننا سنكون صيدا ثمينا، ما دام هؤلاء قد قبضوا علينا.
كونراد :
صيدا مريبا. هلموا ... إننا ممتثلان لكما. (يخرجون)
المنظر الرابع
في مخدع هيرو (تدخل هيرو ومرجريت وأورسولا.)
هيرو :
أيقظي يا أورسولا ابنة عمي بياتريس واطلبي إليها النهوض.
أورسولا :
طاعة يا مولاتي.
هيرو :
والحضور إلى هنا.
أورسولا :
سمعا. (تخرج)
مرجريت :
يمينا، إن المرط
35
الآخر أحسن.
هيرو :
كلا ... أرجوك، سأرتدي هذا يا مرجريت.
مرجريت :
يمين الحق، إنه لا يعدله جمالا، وأؤكد لك أن هذا هو ما ستقوله ابنة عمك.
هيرو :
ابنة عمي بلهاء، وأنت مثلها، لن ألبس سواه .
مرجريت :
يروقني هذا المئزر إلى أبعد حد، لو كان الشعر أسمر قليلا، وأما الثوب ففي الحق آية. لقد رأيت ثوب دوقة ميلانو الذي أفاضوا في مديحه.
هيرو :
آه ... لقد قالوا إنه يفوق الوصف.
مرجريت :
يمينا، إنه لا يعدو جلبابا للنوم إذا قيس بثوبك. نعم، لقد نسج من الذهب نسجا، وجعل مقدمه من الفضة، ورصع باللآلئ، وله كمان طويلان من الكتف إلى المعصم، وأخريان فضفاضتان إلى المرفق، وربطة مبهرجة بشفاف يضرب إلى الزرقة، ولكن ثوبك من حيث رقة الطراز، وجمال الزي وإبداعه، أفضل منه عشرة أمثال.
هيرو :
أدعو الله أن يمتعني بارتدائه لأني أحس ثقلا شديدا يجثم على صدري.
مرجريت :
لن يلبث أن يصبح «أثقل» تحت بدن رجل ...
هيرو :
تبا لك ... ألا تستحين؟؟
مرجريت :
مم يا مولاتي، وأنا أقول قولا شريفا، أليس الزواج شرفا حتى للمتسول؟ أو ليس سيدك أخا شرف بغير زواج؟ أحسبك تريدين منى أن أقول «مع احترامي العظيم لك، زوجا» إذا لم يفسد سوء التفكير صدق القول، فإني لا أسيء إلى أحد. وهل من بأس في قولي «سيصبح أثقل تحت بدن الزوج»، لا أعتقد أن هناك بأسا، ما دام المعنى المقصود بين المرء وزوجه، وإلا كان خفيفا لا ثقيلا. فإذا لم تصدقي فسلي مولاتي بياتريس فها هي ذي قادمة. (تدخل بياتريس.)
هيرو :
عمي صباحا يا ابنة العم.
بياتريس :
عمت صباحا يا هيرو الحسناء.
هيرو :
ما بالك تتكلمين بنغمة مريضة؟
بياتريس :
أظن أني لا أعرف ما عداها من النغمات.
مرجريت :
لنغن بسرعة أغنية «نور الحب»، فهذه لا تتطلب صوتا خفيضا. ما دمنا وحدنا لا رجال معنا، فغنها أنت، وأرقص أنا.
بياتريس :
أغنية «نور الحب» بكعبيك الخفيفتين، إذا كان زوجك يملك مرابط خيل كافية، فسوف ترين عندئذ أنه لن يفتقر إلى الأجران ولا يعوزه الولدان!
36
مرجريت :
قول نغل، ومنطق فاسد، أركله ساخرة بكعبي.
بياتريس :
كادت الساعة تؤذن الخامسة يا ابنة العم، وحان أن تستعدي، يمين الحق، إنني جد مريضة. يا لله ... ألا من ...
مرجريت :
أتريدين صقرا، أو صافنا، أو صاحبا ؟
37
بياتريس :
الحرف الذي تبدأ به جميعا وهو الصاد صداع.
مرجريت :
إذا لم تكوني قد غيرت رأيك، فلن يجدي الملاحين الاستهداء بالكواكب.
38
بياتريس :
لست أدري ماذا تريد هذه المغفلة.
مرجريت :
لا شيء ولكن الله يحقق لكل امرئ أمنيته.
هيرو :
لقد بعث الكونت إلي بهذا القفاز، إن له أرجا ذكيا.
بياتريس :
إننى (ممتلئة) بردا يا ابنة العم، فلا أشم شيئا.
مرجريت :
بكر و(ممتلئة)! نعم البرد الذي أخذته.
بياتريس :
سبحان الله، ومتى احترفت قول النكتة؟
مرجريت :
منذ تركته أنت. ألا تليق فكاهتي بي إلى حد يثير الإعجاب؟
بياتريس :
غير ظاهرة بالقدر الكافي ... لخير لك أن تضعيها في طرطورك.
39
يمين الحق، إنني لموعوكة.
مرجريت :
خذي قليلا من الكارديواس بنيدكتس
40
المقطر واشربيه، إنه الدواء الوحيد الذي يفيد هذه النزلات المفاجئة.
هيرو :
إنك تخزينها بعلاج شائك.
41
بياتريس :
بنيدكتس! ولم بنيدكتس بالذات؟
إن لك في وصفه معنى خفيا.
مرجريت :
معنى خفيا! كلا ويمين الحق، لست أقصد أي معنى خفي.
إنما أعني نبات المرار المقدس
42
ليس إلا، ولعلك تظنين أنني أظنك تحبين. كلا، ويمين العذراء، لست مغفلة إلى حد أنني أظن حقا ما أسمعه. أو أسمع لما في إمكاني أن أظنه. ولا يمكنني أن أظن وإن شئت، أن استنفد كل خاطري فيما أظن - إنك تحبين أو ستحبين أو يمكن أن تحبي، ولكن أمر بنيديك مختلف فقد أصبح رجلا وكان من قبل يقسم أنه لن يتزوج أبدا، فأضحى الآن على كره من قلبه، يأكل طعامه غير مغمغم ولا متبرم، ولست أدري متى تتغيرين أنت وتتبدلين، ولكني أظنك تنظرين بعينيك كما يفعل غيرك من النساء.
بياتريس :
أية سرعة هذه التي ينطلق بها لسانك؟
مرجريت :
ليست خببا كاذبا. (تعود أورسولا.)
أورسولا :
مولاتي، ادخلي، فقد جاء الأمير والكونت والسنيور بنيديك ودون جون.
وجميع سادات المدينة ووجهائها ليصحبوك إلى الكنيسة.
هيرو :
أعنني على ارتداء ثيابي يا ابنة العم العزيزة، ويا مرجريت المحبوبة ويا أورسولا الكريمة. (يخرجون)
المنظر الخامس
حجرة أخرى في دار ليوناتو (يدخل ليوناتو، ومعه دوجبري وفارجس.)
ليوناتو :
ماذا تريد مني أيها الجار العزيز؟
دوجبري :
وحق العذراء يا سيدي، أريد أن أسر إليك أمرا يحضك عن قرب.
43
ليوناتو :
قل وأوجز ناشدتك الله، فإنني كما ترى في شغل شاغل.
دوجبري :
حقا إنه لكذلك يا سيدي.
فارجس :
نعم إنه لكذلك حقيقة يا سيدي.
ليوناتو :
وما هو يا صاحبي الكريمين؟
دوجبري :
إن السيد فارجس «يشط» قليلا في كلامه. إنه شيخ كبير يا سيدي.
وليس كليل
44
الذكاء، كما أرجو له بعون الله، ولكنه والله صادق صريح كالجلدة التي بين حاجبيه
45
فارجس :
أي نعم، أحمد الله على أنني صادق، لا أقل صدقا عن أي إنسان حي، إذا كان شيخا كبيرا، ولم يكن أصدق مني.
دوجبري :
المفاضلات عطرة
46
فأوجز القول يا سيد فارجس.
ليوناتو :
أيها الجاران، إنكما لثقيلان مملان.
دوجبري :
قد يسرك هذا القول يا مولاي، غير أننا رجلان مسكينان في شرطة الدوق، ولكن في الحق أني لو كنت مملا كالملك،
47
لهان علي أن أنعم بهذا الملل كله على سيادتك.
ليوناتو :
بكل ملالتك علي أنا؟ أهذا ما تقول؟
دوجبري :
أي نعم، ولو كانت أكثر من قيمتها بألف جنيه
48
فقد سمعت عن سيادتك من الاستصراح
49
المستطاب بقدر ما سمعته عن أي رجل في المدينة.
وإني وإن لم أكن سوى رجل فقير لفرح بما سمعته.
فارجس :
وأنا كذلك.
ليوناتو :
أتمنى أن أعرف ماذا تريدان أن تقولاه.
فارجس :
يمينا يا سيدي، إن حراسنا قبضوا الليلة
50
على اثنين من أشد المجرمين في مسينا. خلا سيادتك.
51
دوجبري :
إنه لشيخ كبير يا سيدي فلا تأخذه بما يقول، وفي المثل حين يقبل العمر، يدبر العقل.
52
كان الله في عوننا. ويا عجبا للدنيا وما فيها حقا، لقد أحسنت القول والله يا سيدي فارجس، الدنيا بخير.
53
وحين يركب اثنان حصانا، يتحتم أن يكون أحدهما رديفا،
54
إنه - والحق يقال - رجل صادق يا سيدي، كأي امرئ أكل خبزا، ولكن سبحان الله إن الناس ليسوا سواسية للأسف أيها الجار الكريم.
ليوناتو :
حقا أيها الجار إنه ليقصر عنك كثيرا.
دوجبري :
إن الله هو واهب النعم.
ليوناتو :
لا بد لي من ترككما.
دوجبري :
كلمة أخيرة يا سيدي، إن حراسنا يا سيدي قد أدركوا
55
رجلين تحوم حولهما التشبيهات.
56
وسنأتي بهما في هذا الصباح للتحقيق أمام سيادتك.
ليوناتو :
توليا أنتما التحقيق وارفعاه إلي.
إنني في عجلة شديدة الساعة كما تريان.
دوجبري :
حسبنا هذا.
57
ليوناتو :
تناولا شيئا من النبيذ قبل أن تنصرفا. أستودعكما الله. (يدخل رسول.)
الرسول :
مولاي، إن القوم ينتظرونك لزفاف كريمتك إلى زوجها.
ليوناتو :
سأوافيهم، إنني مستعد. (يخرج ليوناتو والرسول.)
دوجبري :
اذهب أيها الزميل الكريم إلى «فرانسس سيكول» واطلب إليه أن يحضر قلما ودواة إلى السجن وسنتولى الآن التحقيق مع هذين الرجلين.
فارجس :
وعلينا أن نسير فيه بحكمة.
دوجبري :
أؤكد لك أننا لن ندخر فيه نكتة
58
وسنذهلهما ونقطع عليهما كل سبيل وكل ما عليك أن تحضر الكاتب القدير ليدون تقريرا وعليك أن توافيني
59
إلى السجن. (يخرجان)
هوامش
الفصل الرابع
المنظر الأول
في كنيسة (يدخل دون بدرو، دون جون، ليوناتو، القس فرانسس، كلوديو، بنيديك، هيرو، بياتريس، والحاشية.)
ليوناتو :
أقبل أيها القس فرانسس وأوجز.
فلا تتجاوز الصيغة المألوفة في عقد القران، واترك شرح واجبات الزوجين إلى ما بعد.
القس :
هل جئت هنا يا مولاي لتتزوج هذه السيدة.
كلوديو :
كلا.
ليوناتو :
ليقترن بها أيها القس. وقد جئت أنت لتزويجهما.
القس :
هل جئت أيتها السيدة لتقترني لهذا الكونت.
هيرو :
نعم.
القس :
إذا كان أحدكما يعرف عائقا خفيا يحول دون قرانكما فإني أناشده بحق نفسه عليه أن يفضي به.
كلوديو :
هل تعرفين شيئا كهذا يا هيرو؟
هيرو :
كلا، يا مولاي.
القس :
وهل تعرف أنت يا كونت؟
ليوناتو :
أجترئ فأرد عنه نافيا.
كلوديو :
كم من امرئ يجترئ على أن يفعل، وكم من رجل يجوز له أن يفعل، وكم من أناس في كل يوم يفعلون وهم لا يعلمون أنهم يفعلون.
بنيديك :
ما هذه الألفاظ كلها؟ إن بعضها أشبه بعلامات الضحك، كقولك آه - هأ ... هي!
كلوديو :
تنح قليلا أيها القس، ودعني أسألك يا أبي
1
هل أنت واهبي هذه العذراء ابنتك بنفس طائعة مختارة؟
ليوناتو :
كما وهبنيها الله بمشيئته ورضاه.
كلوديو :
وماذا تسألني لقاءها، حتى يتكافأ وهذه الهبة النفيسة الغالية؟
دون بدرو :
لا شيء إلا أن تردها إليه.
كلوديو :
أيها الأمير العزيز، إنك تعلمني نبل العرفان بالجميل، أي ليوناتو. خذها، ولا تعط صديقا لك هذه البرتقالة العفنة، فليس عليها من شرف العذراء غير مظاهره.
انظر إليها كيف يتورد محياها خجلا، يا لله! ما أقدر الخطيئة النكراء، على إخفاء ذاتها بميسم الصدق. أليس هذا الحياء على الطهر والنقاء دليلا متواضعا؟ وأنتم يا من تنظرون إليها ألا تقسمون إنها لعذراء، حين ترون هذه المظاهر الخارجية؟ ولكنها ليست كذلك. لقد عرفت حرارة الفراش ودفيء المضجع، وليس تورد وجهها حياء، بل استنكافا من جرمها واستخذاء.
ليوناتو :
ماذا تعني بهذا يا مولاي؟
كلوديو :
أعني أنني لن أتزوج.
ولن أربط روحي بامرأة آثمة ثبت الجرم عليها.
ليوناتو :
إذا كنت يا مولاي العزيز بما لك من قوة الحجة قد استطعت أن تتغلب على مقاومة شبابها وهزمت عذرتها ... فإن ...
كلوديو :
أعرف ماذا كنت قائلا لو أنني عرفتها من قبل وخبرتها. ستقول إنها اعتنقتني بوصفي زوجها، وفي هذا ما يخفف من إثم التعجل.
ليس الأمر كذلك يا ليوناتو، فما أغريتها يوما بكلمة عوراء، بل رحت كأخ لأخته أبدي لها الإخلاص الحي والحب النقي.
هيرو :
وهل كنت يوما غير ذلك نحوك؟
كلوديو :
سحقا لك، أيها الرياء، لأكتبن عنك
2
ولأنددن بك، إنك لتظهرين شبيهة بديانا في فلكها،
3
وفي مثل نقاء الزهرة في كمها، قبل أن تهب عليها الأنفاس، بل إنك لأحر دما من فينوس،
4
وأطغى بهيمة من تلك الحيوانات المرفهة، التي تحتدم الشهوة فيها احتداما.
هيرو :
هل مولاي سليم وهو يتكلم على هذا النحو البعيد من الصدق؟
ليوناتو :
أيها الأمير الكريم، لماذا لا تتكلم؟
دون بدرو :
ماذا أقول؟
إنني أقف الآن مثلوم الكرامة، وأنا الذي سعيت في ربط صديقي العزيز بامرأة لا شأن لها ولا قدر.
ليوناتو :
أأسمع حقا، أم أنا في حلم.
دون جون :
إنك تسمع، وإن ما تسمعه لحق.
بنيديك :
ليس هذا من مظاهر العرس.
هيرو :
حقا ... رباه!
كلوديو :
أي ليوناتو، أتراني في هذا المكان واقفا؟ وهل هذا هو الأمير وهل هذا أخوه؟ وهل هذا وجه هيرو، وهل هذه حقا أعيننا؟
ليوناتو :
كل هذا صحيح، ولكن ماذا تعني يا مولاي؟
كلوديو :
دعني أوجه سؤالا واحدا إلى ابنتك، وأمرها بحق سلطانك الأبدي الرفيق عليها أن تجيب عنه صدقا.
ليوناتو :
آمرك وأنت ابنتي أن تفعلي.
هيرو :
رب، خذ بيدي، فقد أحيط بي، بأي اسم تدعو هذا الاستجواب؟
كلوديو :
أريد أن أحملك على جواب صادق يكشف عن اسمك.
هيرو :
أليس اسمي هيرو؟
فمنذا الذي يستطيع أن يدنسه بمعاب صحيح.
كلوديو :
ذلك ما تستطيعه هيرو نفسها، فهي التي تستطيع أن تمحو شرفها. خبريني من ذلك الذي كان يتحدث إليك ليلة أمس؟ تحت نافذتك بين الثانية عشرة والواحدة؟ إن كنت حقا عذراء فأجيبي.
هيرو :
لم أتحدث إلى أحد في تلك الساعة يا مولاي.
دون بدرو :
أنت إذن لست عذراء.
يا ليوناتو يحزنني أن أنبئك، مقسما بشرفي وشرف أخي وشرف هذا الكونت الكليم المحزون، إننا رأيناها وسمعناها في تلك الساعة من الليلة البارحة تكلم وغدا مجرما من نافذة مخدعها، وقد اعترف فعلا شأن السافل المستهتر، باللقاءات الأثيمة التي جرت سرا بينهما مئات المرات.
دون جون :
العار. العار!
إن هذه اللقاءات لا تحصى يا مولاي ولا توصف، فليس في اللغة من العبارات العفة، ما يكفي المرء من غير سوء أن يفوه بها.
إنني لآسف أيتها السيدة الحسناء، لهذا المسلك الأثيم الذي سلكته.
كلوديو :
أي هيرو، لقد كنت تروحين اسما على مسمى
5
لو أن نصف هذا الجمال الظاهر الذي أوتيته، أحيط بدوافع قلبك وخوالج فؤادك! ولكن سعدت حالا يا من جمعت بين أشد الدنس، وأبهى الحسن. وداعا أيها الدنس النقي، وداعا أيها النقاء الدنس،
6
في وجهك سأغلق جميع أبواب الحب، وعلى أجفاني سأعلق الريبة، حتى أرى كل جمال أذى وضرا، فلن أفتن به يوما.
ليوناتو :
ألا من خنجر هنا أغيبه في هذا الصدر؟ (يغمى على هيرو.)
بياتريس :
ما هذا يا ابنة العم، ولماذا تخرين مغشيا عليك؟
دون جون :
هلموا بنا إن الأمر قد وضح، فخنق أنفاسها خنقا. (يخرج دون بدرو ودون جون وكلوديو.)
بنيديك :
ماذا بها ...؟
بياتريس :
أحسبها قد ماتت - الغوث يا عماه ...
هيرو، هيرو ...! عماه ... سنيور بنيديك، أيها القس ...
ليوناتو :
أيها القدر، لا تنزع يدك الثقيلة الداهمة عنها، إن الموت خير ساتر لعارها، وأحسن غطاء نتمناه لها.
بياتريس : ... هيرو ابنة العم، ما الذي دهاك؟ أفيقي.
القس :
روحي عنك يا سيدة ولا تراعي.
ليوناتو :
أتفيقين؟
القس :
أجل، ولم لا؟؟
ليوناتو :
لم لا؟؟ ألا ترى أن كل شيء في الأرض ينادي بعارها؟ أتستطيع أن تنكر القصة التي طبعها العار على وجهها؟ لا تحيي يا هيرو ولا تفتحي عينيك. ولو كنت أظن أن الموت غير معاجلك، وكان في حسباني أن روحك أقوى من عارك، لانتزعت بنفسي الحياة منك انتزاعا، عقب ما وجهه إليك من تأنيب.
وا حزني، ووا فجيعتي. وليس لي إلا ابنة واحدة، أفأعيب على الطبيعة بخلها!
أواه. إن واحدة من طرازك لكثير. لم رزقت واحدة؟ ولماذا كنت على الدهر جميلة في عيني؟ ولماذا لم يقدر لي رحمة وإحسانا، أن أكون السائل المتكفف عند بابي؟ أنا الذي تلوث على هذا النحو عرضه! وتلطخ بالعار اسمه!
لقد كان في إمكاني أن أقول، إنها ليست في شيء مني. وإن إثمها جاء من صلب مجهول، ولكنها ابنتي التي أحببت وأعززت، ابنتي التي أشدت بها ونوهت، وفاخرت بها الناس وباهيت، إنها مني بل أكثر، حتى لقد ذهبت في الغلو بقدرها، أحسب نفسي ليست لنفسي. وإنني لا أملك لذاتي بعدها شيئا. فإذا هي، أواه، إذا هي تتردى في هوة من مداد، إذا أريد منه تطهيرها، لنفد البحر قبل أن تطهر منه.
ولما كفى ملح البحر لتطهير لحمها الملوث.
بنيديك :
سيدي. سيدي. صبرا، بعض هذا الحنق، إنني من فرط العجب لا أدري ماذا أقول.
بياتريس :
أواه ... ونفسي التي بين جنبي، إن ابنة عمي ضحية إفك وافتراء.
بنيديك :
هل كنت ليلة أمس يا سيدتي نائمة معها في فراش واحد؟
بياتريس :
كلا ... في الحق. وإن كنت طيلة هذا العام أرقد معها إلا الليلة الماضية فلم أفعل.
ليوناتو :
لقد حصحص الحق ... إن هذا ليزيد الحجة قوة، وإن كانت من قبل قد سيجت بقضبان من حديد، أفيكذب الأميران، ويفتري عليها كلوديو، الذي أحبها الحب كله، وراح في الحديث عن رجسها يغسله بالدموع. ألا بعدا لها ... دعوا الموت يخترمها.
القس :
استمع لي هونا ما.
فقد اعتصمت بالصمت كل هذه اللحظة، وتركت المقادير تجري في أعنتها، لقد لاحظت وأنا أرقب حركاتها وسكناتها، أطيافا من حياء تتوارد على وجهها، وأخرى بريئات في مثل بياض وجوه الملائكة، تغالب ذلك الخجل وتلاشيه، ثم بدت في عينيها شعلة نار تحرق الإفك الذي أقامه هذان الأميران على صدق عذرتها. فلتدعني مغفلا ولا تثق بما قرأته، ولا تركن إلى ملاحظاتي التي طبعتها التجارب بخاتمها مؤكدة صدق قراءتي، ومضمون حكمتي. لا تثق بكبر سني ومركزي، وقدسية معرفتي، إذا لم تكن هذه السيدة الحسناء بريئة من الإثم، ولكنها ضحية خطأ أليم.
ليوناتو :
لا يمكن أن يكون الأمر كذلك أيها القس، ألا ترى أن الكفارة الوحيدة التي بقيت لها أنها لا تضيف إلى إثمها إثما آخر، وهو القسم زورا. أنها لم تنكر. فلماذا تريد أنت أن تستر بالأعذار ما بدا في صورته الحقة؟
القس :
سيدتي، أي رجل هذا الذي تتهمين به؟
هيرو :
يعرفه الذين اتهموني، أما أنا فلا أعرف أحدا، ولو عرفت عن أحد من الأحياء أكثر مما يبيحه حياء العذارى، فلتنأ الرحمة عن كل خطاياي، أبت إن ثبت لك أني تحدثت مع رجل في ساعة لا يسوغ فيها الحديث، أو أني تبادلت ليلة أمس الكلام مع مخلوق، فابرأ مني وامقتني، وعذبني حتى أموت.
القس :
أحسب الأمراء قد وقعوا في خطأ عجيب.
بنيديك :
إن منهم اثنين هما مثال النزاهة والشرف، فإن أخطأهما الصواب في هذا الأمر وضلا سبيل الحكمة، كان هذا الكيد من تدبير جون النغل الذي دأبت نفسه على الشر.
ليوناتو :
لست أدري، ولكن إذا كان الحق ما قالوا عنها فسأقطعنها بيدي إربا. أما إذا كانوا فيما تناولوا به شرفها ظالمين، فوالله لأحاسبن أشدهم اعتدادا بنفسه وأكثرها كبرياء، إن الزمن لم يجفف بعد الدم الذي يجري في عروقي، وتقدم السن لم يستنفد مني حيلتي، ولا الأقدار أتلفت مواردي، ولا العيش المرسل على عواهنه أفقدني أصحابي، لسوف يرون قوة البدن، وأصالة العقل، حين يستيقظان في رجل مثلي، ولسوف يشهدون مقدرة الموارد، وخيرة الصحب والمناصرين، كيف تثأر لي أشد الثأر من المتجنين والظالمين.
القس :
مهلا، ودع نصيحتي تهدك في هذا الأمر سواء السبيل لقد انصرف الأمراء وهم يحسبون ابنتك قد ذهبت في الهالكين، فاحتجزها سرا عن الناس إلى حين، وأعلن على الملأ أنها قد ماتت حقا واصطنع عليها حدادا.
وأقم على مقبرة عشيرتك رثاء لها يروح على مماتها شهيدا، واحتفل بالدفن احتفال الأحياء بالموتى، مراسم وطقوسا عدادا ...
ليوناتو :
وما أثر ذلك وما جدواه؟
القس :
يمينا، إن هذا سيحيل الوشاية، إلى ندامة، إذا أتقنت الحيلة. وفي هذا التحول بعض الخير، ولكن ليس هذا السبيل الغريب هو الذي أرمي إليه، بل الذي أرجوه من وراء هذا الجهد الشاق أكبر من ذلك شأنا. وأبعد منه مدى. إن موتها في اللحظة التي اتهمت فيها، إذا أحكمتم إعلانه، سيحمل السامعين على التفجع عليها، والرثاء لها، واستماحة المعاذير عنها. فقد جبل الناس على أن ما نملكه لا نعرف قيمته، ما دمنا ننعم بمتعته.
فإذا انتزع منا وفقدناه، عرفنا له يومئذ قدره، وبدا لنا فضله وخطره، وكنا من قبل وهو في أيدينا بقيمته جاهلين، وسيكون هذا حال كلوديو، حين يسمع بأنها ماتت من أثر أقواله، فلا تلبث صورتها قبل الممات أن تتسلل برفق إلى خياله، وإذ تبدو له كل معالم جمالها في الحياة في صورة أجمل وأغلى مظهرا، وتتمثل لعين نفسه وخاطره، أفتن وأرق أثرا مما كانت وهي في عالم الحياة، وعندئذ سيحزن عليها إن كان للحب مكان في جوانحه، ويتمنى لو أنه لم يتهمها بمثل ما اتهمها به، وإن اعتقد أن الاتهام كان حقا، فافعل كما أشرت، ولا تشك في أن ما سوف يحدث بعدئذ، سيشكل النتيجة خيرا مما أستطيع أن أصورها أنا. أما إذا أخطأنا التوفيق في كل ما عدا هذا، فإن تصور ميتتها، سيروي ظمأ العجب من سوء فعلتها، فإذا لم تأت النتيجة كما نتمنى، فلك أن تخفيها في معزل أو متبتل
7
تضمد فيه جرح سمعتها، بعيدا عن الأعين والألسنة والأذهان ومساءة المسيئين.
بنيديك :
خذ يا سنيور ليوناتو بنصيحة القس، وإنك لتعلم خبيئة نفسي وحبي للأمير وكلوديو. ولكنني أقسم بشرفي أنني معالج هذا الأمر سرا وعدلا كما تعامل روحك جسدك.
ليوناتو :
لقد هدني الأسى هدا، حتى ليقودني الطفل الصغير.
القس :
اتفقنا - فلننصرف في الحال، ومن يطلب لغرائب القروح شفاء، فليلتمس لها - جهد الطاقة - الدواء. وأنت يا سيدتي هلمي، اطلبي الموت توهبي الحياة، ومن يدري، فلعل هذا العرس مرجأ إلى حين، فاصبرا وتجلدا.
8 (يخرج الجميع إلا بنيديك وبياتريس.)
بنيديك :
أي بياتريس - هل كنت تبكين كل هذه الفترة؟
بياتريس :
أجل وسيطول بكائي.
بنيديك :
لا أريد ذلك.
بياتريس :
ليس لك حق، إنني أفعل ذلك باختياري.
بنيديك :
أعتقد يقينا أن ابنة عمك الحسناء مظلومة.
بياتريس :
كم يستحق عندي الرجل الذي يستطيع أن ينصفها.
بنيديك :
هل من سبيل إلى إظهار هذه الصداقة؟
بياتريس :
السبيل جلية واضحة، ولكن أين الصديق؟
بنيديك :
هل يستطيع رجل أن يتولاه؟
بياتريس :
إنه عمل رجال، ولكنه ليس عملك.
بنيديك :
لست أحب في هذا العالم شيئا قدر حبي لك، أليس هذا غريبا؟
بياتريس :
غرابة الشيء الذي لا أعرفه.
9
لقد كان في مقدوري أن أقول إنني لا أحب شيئا قدر حبي لك، ولكن لا تصدقني وإن كنت لا أكذب، ولست أعترف بشيء، ولا أنكر شيئا، إنني في أسف على ابنة عمي.
بنيديك :
أقسم بسيفي يا بياتريس إنك تحبينني.
بياتريس :
لا تقسم به، بل ابلعه.
بنيديك :
أقسم به إنك تحبينني، وأدفعه في حلق من يقول إنني لا أحبك.
بياتريس :
أولن تبتلع كلامك؟
بنيديك :
لم يصطنع بعد المرق الذي يطبخ به، إنني أقر أنني أحبك.
بياتريس :
إذن ليغفر لي الله!
بنيديك :
أي ذنب جنيته أيتها الحسناء بياتريس ليغفره؟
بياتريس :
لقد أخرتني لحظات هنية، فقد كدت أقر أني أحبك.
بنيديك :
أقري به من كل قلبك.
بياتريس :
أحبك حبا ملك علي كل قلبي، فلم يترك منه شيئا ليقره.
بنيديك :
مريني أفعل شيئا من أجلك.
بياتريس :
اقتل كلوديو.
بنيديك :
ها! هذا محال، ولو أعطيت العالم كله.
بياتريس :
إنك برفض سؤالي تقتلني ... وداعا!
بنيديك :
مهلا ... بياتريس الحلوة.
بياتريس :
لقد ذهبت، وإن كنت هنا.
ليس في فؤادك حب لي ... أناشدك دعني أذهب.
بنيديك :
بياتريس!
بياتريس :
يمينا، لأذهبن عنك.
بنيديك :
لنكن صديقين أولا.
بياتريس :
أأيسر لك أن تكون لي صديقا من أن تقاتل من أجلي عدوا لي؟
بنيديك :
وهل كلوديو عدوك؟
بياتريس :
ألم يثبت أنه أوغد الأوغاد؟ أن قذف ابنة عمي وازدراها وولغ في عرضها، ليتني كنت رجلا! يا للنكر! أكذلك يأخذ بيدها إلى الموضع الذي سيطلب فيه يدها؟! وعندئذ يوجه علانية التهمة إليها، يا للفضيحة السافرة! ويا للحقد الشديد ... رباه، لو أني كنت رجلا، لأكلت قلبه على الملأ أكلا.
بنيديك :
استمعي إلي يا بياتريس.
بياتريس :
تتحدث إلى رجل من النافذة! ما شاء الله! قول صادق.
10
بنيديك :
ولكن يا بياتريس ...
بياتريس :
واها لهيرو الحسناء، لقد ظلمت وافتري عليها وهدمت هدما.
بنيديك :
بياتريس ...
بياتريس :
أمراء وأشراف، ومن ذا يجادل في شهادة أمير، ويدحض قول كونت؟ كونت حلاوة؟
11
رجلا حلو، شهم حقا ... أواه ... لو كنت رجلا من أجله، أو كان لي في الصحاب من يكون رجلا من أجلي، ولكن الرجولة قد استحالت انحناءات، وانقلب الرجال ألسنة، لا تقول إلا متلطفة، وانقلبت الشجاعة ملقا، وزخرفا، واستحال الناس ألسنة، وألسنة مزخرفة.
وأمسى الشجاع في مثل شجاعة هرقل من يكذب، ويحلف إنه لصادق، وهيهات أن أكون رجلا بمجرد أمنية، فلأمت إذن امرأة ذاهبة النفس حسرة وبكاء ...
بنيديك :
بياتريس. مهلا، أقسم بهذه اليد التي أمدها إني أحبك!
بياتريس :
استخدمها من أجل حبي في شيء آخر غير الحلف بها.
بنيديك :
هل تعتقدين في أعماق نفسك أن الكونت كلوديو قد ظلم هيرو؟
بياتريس :
نعم، إني لعلى يقين بهذا كيقيني بنفسي التي بين جنبي.
بنيديك :
حسبي هذا مبررا ... لك إذن عهدي، وإني لمبارزه، دعيني ألثم راحتك ثم أنصرف.
وحق هذه اليد
12
لأحاسبن كلوديو حسابا عسيرا.
وليكن ظنك في قائما على ما تسمعينه عني.
اذهبي لتواسي ابنة عمك، لا بد لي أن أقول إنها قد ماتت، والآن، وداعا ... (يخرجان)
المنظر الثاني
السجن (يدخل دوجبري وفارجس والكاتب
13
وهم في أرديتهم. والحرس ومعهم كونراد وبوراشيو.)
دوجبري :
هل اكتمل عقد شتاتنا.
فارجس :
مقعدا ووسادة لحضرة الكاتب.
الكاتب :
ومن الجناة؟
دوجبري :
أقسم أنهما أنا وزميلي هذا.
فارجس :
هذا مؤكد ... نحن الذين أذن لنا أن نتولى الاستجواب.
الكاتب :
ولكني أسأل من الجناة الذين يراد استجوابهم. أحضروهم أمام حضرة الضابط.
دوجبري :
نعم أحضروهم أمامي، ما اسمك يا صاح.
بوراشيو :
بوراشيو.
دوجبري :
اكتب من فضلك اسمه (بوراشيو)، وأنت يا مولاي؟
كونراد :
أنا سيد يا حضرة ... واسمي كونراد.
دوجبري :
اكتب (الرئيس السيد كونراد).
اسمع أنت وصاحبك هل تخدمان الله؟
كونراد، بوراشيو (معا) :
نرجو ذلك يا سيدي.
دوجبري :
اكتب. إنهما يرجوان أن يكونا في خدمة الله.
وابدأ بالله أولا، ومعاذ الله يتقدم عليه هذان الشقيان. يا أيها السيدان، لقد ثبت فعلا أنكما لا فرق بينكما وبين الأوغاد الخائنين - وهذا ما سيظهر عاجلا، فما أقوالكما؟
كونراد :
أقوالنا يا سيدي أننا لسنا كما وصفت.
دوجبري :
ألا ما أعجب ذكاءك! سأعرف كيف أحيط به. تعال هنا أيها الإنسان أسر إليك كلمة؛ لقد قلت إنكما وغدان خائنان.
بوراشيو :
وأنا أقول لك إننا لسنا كذلك.
دوجبري :
إذن ... قف في ناحية. والله إنهما لمتفقان على كلام واحد يقولانه. هل كتبت عندك أنهما ليسا كذلك.
الكاتب :
ليست هذه هي طريقة التحقيق.
إن عليك أن تحضر الحراس الذين اتهموهما.
دوجبري :
أي والله، هذه أيسر طريقة. أحضروا الحرس في الحال. أيها الحرس أطلب إليكم باسم الأمير أن توجهوا الاتهام إلى هذين الرجلين.
الحارس 1 :
إن هذا الرجل يا سيدي قال إن دون جون أخا الأمير، وغد أثيم.
دوجبري :
اكتب أن الأمير جون وغد أثيم.
هذه وحدها خيانة صريحة. أفتصف أخا الأمير بالوغد.
بوراشيو :
يا حضرة الضابط ...
دوجبري :
أرجوك يا حضرة ... أن تسكت.
وأؤكد لك أن نظراتك لا تعجبني.
الكاتب :
وماذا سمعته يقول أيضا.
الحارس 2 :
سمعته والله يقول إنه أخذ ألف دوقية من دون جون لاتهام السيدة هيرو ظلما.
دوجبري :
مؤامرة صريحة ما بعدها مؤامرة.
فارجس :
وحق عشاء الرب إنها لكذلك.
الكاتب :
وماذا أيضا؟
الحارس :
وأن الكونت كلوديو أقسم بشرفه إنه سيشهر بهيرو أمام الجمع كله، وأنه لن يرتضيها زوجا له.
دوجبري :
يا للشقي، سيحكم عليك بعقاب مؤبد نظير هذا القول.
الكاتب :
وماذا أيضا؟
الحارس :
هذا هو كل شيء.
الكاتب :
وهو أيها السيدان أكثر مما تستطيعان إنكاره، فإن الأمير جون غادر البلد خفية في صباح اليوم، واتهمت هيرو فعلا على هذا النحو، ورفض القران بها، على هذه الصورة، فعاجلها الموت فجأة من فرط الحزن. يا حضرة الضابط مر بشد وثاق هذين الرجلين، واستياقهما إلى دار ليوناتو وسأسبقك إليه لأعرض التحقيق عليه (يخرج) .
دوجبري :
هيا أوثقوهما.
فارجس :
وضعوا الأغلال في أيديهما.
كونراد :
بعدا لك أيها المأفون.
دوجبري :
لي الله، أين الكاتب. ليدون قوله عن خادم الأمير مأفون. هلموا شدوا منهما الوثاق ... أيها الوغد الأثيم.
كونراد :
بعدا لك ... إنك لحمار ... إنك لحمار.
دوجبري :
ألا تحترم مركزي، ألا توقر سني، ليت الكاتب هنا ليكتب أني حمار.
ولكن تذكروا يا سادة أنني حمار وإن لم يدون هذا في المحضر. لا تنسوا أنني «حمار».
كلا أيها الشقي إنك لملء ثوبك شرا وغدرا، وسيثبت ذلك عليك بأقوال الشهود الصادقين، إنني رجل عاقل، وأكثر من هذا ضابط، بل أكثر من ذلك رب بيت، وأكثر من أولئك إنسان مهذب كخير من احتوتهم مسينا. ورجل يعرف القانون، وميسر الحال، دعني أقل لك، وامرؤ كسب في حياته وخسر، وله رداءان لا رداء واحد.
وعنده كل ما يسر ويرضي هلموا خذوه ... ليتني كتبت في المحضر «حمارا». (يخرجون)
هوامش
الفصل الخامس
المنظر الأول
أمام دار ليوناتو (يدخل ليوناتو وأنطونيو.)
أنطونيو :
إنك لمود بحياتك إذا استرسلت على هذا النحو، وليس من الحكمة أن تعين الحزن على نفسك هكذا.
ليوناتو :
أناشدك أن تكف عن نصحك، لأنه يقع في أذني موقع الماء في الغربال لا يجدي شيئا، لا تنصحني ولا تحاول أن تسري عني.
وجئني بمن تشبه فجيعته فجيعتي، جئني بأب أحب ابنته حبي، وكان فرحه بها عظيما مثل فرحي، ودعه يحدثني عن الصبر، ويقس مصابه طولا وعرضا بمصابي، ويوازن بين حزنه وحزني، وخطبه وخطبي، من كل ناحية، ووجه وشكل، وصورة. فإن رأيته يبتسم، ويمسك بلحيته
1
ليتكلم، فقل عندئذ للحزن توار.
واطلب إلى الأسى أن يزول. فإن شهدته يئن أنينا، فخفف الحزن عنه بالحكم والأمثال، واغمر أصحاب الخطوب الكبار بأقوال العاكفين على الكتب ليل نهار. فلتأتني به إن استطعت لآخذ عنه الصبر، ولكن هذا الرجل لا وجود له؛ لأن الناس يا أخي ينصحون ويواسون في الخطوب التي لا يشعرون هم بها. فإذا ذاقوا من صابها انقلبوا ثائرين، وكانوا من قبل يقدمون الحكم والمواعظ علاجا من كربتها، وما مثلهم في هذا إلا كمثل من يقيد المجنون الهائج بخيوط من حرير، ويزيل الألم بالنفخ فيه، ويعالج العذاب الأليم باللفظ.
كلا. كلا، لقد جبل الناس جميعا على التحدث عن الصبر إلى من ينوءون بحمل الأسى، ولكن هيهات لامرئ أن يسدي هذه النصائح إذا هو نفسه ذاق المصاب.
فلا تنصحني إذن، إن أحزاني أجهر صوتا من النصائح.
أنطونيو :
لا فرق إذن بين الرجال والأطفال.
ليوناتو :
أناشدك أن لا تكلمني، إنني إنسان من لحم ودم. وما رأينا يوما حكيما استطاع أن يحتمل ألم الضرس صابرا، وإن شهدنا الفلاسفة والحكماء يكتبون أروع الكتب ويتوخون أبدع الأساليب، ويستخفون بصروف الدهر والأحزان.
أنطونيو :
ولكن لا تلق التبعة كلها على كاهلك وحدك، بل دع الذين ظلموا يحملوا منها نصيبهم كذلك.
ليوناتو :
ها أنت ذا تقول حقا. أجل، إني لفاعل، فإن نفسي تحدثني أن هيرو قد ظلمت، وسيعلم هذا كلوديو، وسيعرفه الأمير وجملة الذين افتروا عليها وثلموا عرضها.
أنطونيو :
ها هو ذا الأمير وكلوديو قادمان مسرعين. (يدخل دون بدرو وكلوديو.)
دون بدرو :
طاب صباحك. طاب صباحك.
كلوديو :
طاب يومكما جميعا.
ليوناتو :
استمعا إلي أيها الأميران.
دون بدرو :
إننا في عجلة، يا ليوناتو.
ليوناتو :
في عجلة يا مولاي، أدعو لك بالتوفيق يا سيدي، متعجلان الآن. هذا شيء لا يهمني.
دون بدرو :
لا تشتجر معنا أيها الشيخ الكريم.
أنطونيو :
لو استطاع بالشجار أن ينتصف لنفسه، لهوى بعضنا من عليائه.
كلوديو :
ومن الذي ظلمه؟
ليوناتو :
قسما إنك أنت الذي ظلمتني. أيها المرائي ... أيها ... حذار ... لا تضع يدك على مقبض سيفك، فإني أخافك.
كلوديو :
شلت يميني، إن هي أخافت شيخا في مثل سنك، يمين الله، ما أرادت كفي أن تصنع شيئا لسيفي.
ليوناتو :
أف لك يا رجل، أف لك، وحسبك. لا تسخر مني ولا تهزأ بي. فإني لست فيما أقول مخرفا وما أنا بمأفون. ولا أنا بمستغل سني للتفاخر بما فعلت في الفتوة والشباب، أو أستطيع فعله لو لم أكن شيخا مسنا. ألا فاعلم يا كلوديو صراحة، أنك ظلمت ابنتي البريئة وظلمتني. وإنني لمضطر أن أطرح وقار سني جانبا، وأدعوك للمبارزة وإن كان رأسي قد اشتعل شيبا، وإن كنت قد تلقيت كثيرا من الجراح، أكرر القول إنك قد ظلمت ابنتي البريئة، ومزقت بإفكك قلبها تمزيقا، فهي الساعة ترقد إلى جانب آبائها، في قبر ما رقدت فيه الفضيحة يوما من الأيام، خلا هذه الفرية التي نسج الكيد لها الخيوط!
كلوديو :
كيدي أنا؟
ليوناتو :
أجل، كيدك أنت يا كلوديو، كيدك أنت.
دون بدرو :
أخطأت الصواب أيها الشيخ.
ليوناتو :
مولاي. مولاي.
سأثبت صدق قولي فوق جثته، إذا هو اجترأ على مناجزتي، رغم براعته في فنون المجالدة، ودربته الطويلة عليه، وريع شبابه، وعنوان بأسه.
كلوديو :
اغرب عني، ليس لي بك شأن.
ليوناتو :
أتجرؤ على تنحيتي؟ لقد قتلت ابنتي، فإن تقتلني يا فتى تقتل رجلا.
أنطونيو :
بل سيقتلنا نحن الاثنين، أو سيقتل رجلين حقا. ولكن هذا ليس بأمر ذي بال، دعه يقتل أحدنا أولا، خذني وألبسني.
2
دعه يبرز لي. أقبل يا غلام واتبعني. هلم يا سيدي الغلام. اتبعني. فإني سائطك من عليائك فمرديك.
3
أي والله إني لفاعل، فعلة الرجل المهذب الشريف.
ليوناتو :
أخي ...
أنطونيو :
هدئ روعك، الله يعلم كم أحببت ابنة أخي، فجاء الكيد الخسيس فقتلها. كيد الأوغاد اللئام، فليجرؤ على الخروج لرجل، جرأتي على الإمساك بثعبان من لسانه، يا للصبيان، ويا للقردة، ويا للمتباهين، والمهاذير والبله الأغبياء الضعفاء.
ليوناتو :
أخي أنطونيو ...
أنطونيو :
لا تثر ... تكلم يا رجل، إني أعرفهم. وأعرف موازينهم، وأقدارهم، إلى أصغر أجزائها، إنهم غلمة مغرورون صفيقو الوجوه، إخوان حذلقة وزخرف، كل همهم الكذب والمين والسخرية والدس والكيد، إنهم ليمشون بين الناس مهرجين، ويكثرون من التهديد والوعيد، ويتحدثون عن شجاعتهم في منازلة الخصوم، ومقارعة الأعداء إذا جرءوا على لقائهم، هذا هو كل ما عندهم.
ليوناتو :
ولكن يا أخي أنطونيو ...
أنطونيو :
لا تراع، ولا تتدخل. دعني لهذا الأمر وحدي.
دون بدرو :
أيها السيدان ... لن نستفزكما، إن فؤادي لمحزون لموت ابنتك، ولكني أقسم بشرفي أنها لم تتهم، إلا بما وقع حقا، وقام عليه الدليل القاطع.
ليوناتو :
مولاي! مولاي!
دون بدرو :
لن أستمع لك.
ليوناتو :
لن تستمع لي. هلم يا أخي. سأعرف كيف أسمعهما قولي!
أنطونيو :
وسيستمع أو ليهلكن بعضنا لهذا السبب (يخرج ليوناتو وأنطونيو) .
دون بدرو :
انظر. انظر! ها هو ذا الرجل الذي كنا نبحث عنه. (يدخل بنيديك.)
كلوديو :
ما وراءك يا سنيور؟
بنيديك :
طاب يومك يا مولاي.
دون بدرو :
مرحبا يا سنيور. لو تقدمت لحظة لكدت تشترك في مبارزة.
كلوديو :
لقد كدنا نفقد أنفينا في مجالدة مع شيخين ترمت أسنانهما.
دون بدرو :
ليوناتو وأخوه، فما رأيك، أحسبنا أن فعلنا، أصغر من أن نقاتلهما ...
بنيديك :
لا كرامة ولا منة في معركة ظالمة، لقد جئت أبحث عنكما.
كلوديو :
لقد بحثنا عنك في كل مكان لأننا مكتئبان أشد الاكتئاب، ونريد أن تطرد الهم عنا، فهلا استخدمت فكاهتك؟
بنيديك :
هي في غمد سيفي، فهل أسحبه؟
دون بدرو :
أتضع عقلك في جنبك؟
4
كلوديو :
ما فعلها أحد من قبل، وإن رأينا خلقا كثيرين قد اطرحوا عقولهم جانبا.
ولكني قائل لك ما أقول لجماعة العازفين والمنشدين، اسحب لتطربنا.
5
دون بدرو :
في الحق إنه ليلوح شاحب الوجه. أمريض أنت أم مغضب؟
كلوديو :
ماذا بك، الشجاعة يا رجل! ولئن قتل الهم الهرة، فلا يزال لديك قدر من خفة الروح يكفي لقتل الهم.
6
بنيديك :
إذا أنت وجهت فكاهتك إلي، فإني ملاق الطعنة السريعة بمثلها أو أشد. أناشدك أن تختار موضوعا غير هذا.
كلوديو :
بل اعطوه رمحا آخر فقد انكسر بالعرض رمحه.
7
دون بدرو :
وحق هذا النهار
8
إن لونه يزداد امتقاعا. أحسبه في سورة غضب شديد.
كلوديو :
إن كان كذلك، فهو يعرف كيف يقلب حزامه.
9
بنيديك :
هل تسمح لي بهمسة في أذنك؟
كلوديو :
حماني الله من المشاجرة!
بنيديك (منتحيا بكلوديو ناحية) :
أنت وغد، أقولها جدا لا هزلا، وسأدلل على صحتها إن كنت تجترئ، وبأي شيء تجترئ، وحين تجترئ، فاقبل هذا التحدي مني، وإلا أعلنت جبنك. لقد قتلت سيدة كريمة. وسيقع وزر مماتها على رأسك. دعني أسمع منك متى نلتقي.
كلوديو :
ليكن ما تريد، سألاقيك حتى أستمتع بمتعة طيبة.
دون بدرو :
ماذا؟ أدعوة إلى مأدبة، مأدبة!؟
كلوديو :
يمين الله، إني له شاكر. فقد دعاني إلى رأس عجل ودجاجة، فإن لم أبرع في تقطيعهما البراعة كلها فقل إن سكيني مثلم ولا يقد.
ألن أجد على المائدة أيضا دجاجة من دجاج الراج.
10
بنيديك :
إن النكتة يا سيدي مسعفتك.
دون بدرو :
إني لمنبئك بما مدحت بياتريس به مجانتك منذ أيام. قلت لها إنك ذو فكاهة، قالت حقا، ولكنها قليلة محدودة. بل عظيمة قالت حقا عظيمة خشنة.
قلت كلا، بل حسنة رقيقة. قالت تماما. فلا تؤذي أحدا. قلت كلا إن السيد عاقل حكيم، قالت هذا صحيح إنه مدعي الحكمة ادعاء.
قلت إنه ينطق بعدة ألسن،
11
قالت هذا ما أعتقده. فقد حلف على شيء ليلة الاثنين وحنث في حلفه صباح الثلاثاء، هذا لسان مزدوج. أو قل لسانان. وهكذا لبثت ساعة تشوه مزاياك، وانتهت آخر المطاف بقولها وهي ترسل زفرة إنك أملح رجل في إيطاليا كلها.
كلوديو :
وعندئذ بكت من كل قلبها وقالت إنها لا تحفل بك.
دون بدرو :
أجل، هذا ما قالته، ولكنها قالت مع ذلك إنها إذا لم تمقته إلى حد الموت فهي تحبه إلى حد الإعزاز. لقد نبأتنا ابنة الشيخ بكل شيء.
كلوديو :
بكل شيء، ولا تنس كذلك أن الله رآه حين كان مختبئا في الحديقة.
12
دون بدرو :
ولكن متى ستنبت قرون العجل الوحشي، في رأس بنيديك العاقل.
13
كلوديو :
أي نعم، وضع هذه الكلمات تحت الصورة «هنا يسكن بنيديك البعل».
بنيديك :
إلى اللقاء يا فتى. أنت عارف ما أقصد.
وإني لتاركك الآن لثرثرتك وفكاهتك السمجة، إنك لتكسر النكت كما يكسر الأدعياء الثرثارون سيوفهم، وهي بحمد الله لا تؤذي ولا تجرح. وأنت يا مولاي، إني لشاكر لك صنائعك الكثر، ومننك الغر، فإني مضطر إلى التخلي عن رفقتك. إن أخاك النغل قد فر من مسينا، وقد اشتركتما في قتل سيدة بريئة كريمة.
وأما هذا المولى الأمرد فسألتقي به ... وإلى أن نلتقي ... سلام عليكم! (يخرج) .
دون بدرو :
إنه يجد.
كلوديو :
أشد الجد. أؤكد لك أن هذا مرده إلى حب بياتريس.
دون بدرو :
ولقد دعاك إلى المبارزة.
كلوديو :
أصدق ما تكون الدعوة.
دون بدرو :
ما أحمق الرجل الذي يستر بجسده صداره وجوربه، ويتجرد من عقله.
14
كلوديو :
وهو في هذه الحال إذا قيس بالقرد، عملاق، ولكن القرد إذا قيس به، حكيم.
15
دون بدرو :
ولكن لنكف عن هذا ودعني أستجمع فؤادي لنأخذ في الجد
16
ألم يقل إن أخي قد فر؟ (يدخل دوجبري وفارجس والحراس ومعهم كونراد وبوراشيو.)
دوجبري :
تعال هنا يا سيد، وإذا لم تقلم العدالة أظافرك. فلن ترجح كفتها يوما في الميزان.
17
وإذا كنت يوما منافقا شتاما لعينا، فلا بد من النظر في أمرك.
دون بدرو :
ماذا أرى. رجلان من أتباع أخي موثقان. وهذا بوراشيو أحدهما؟
كلوديو :
أصغ إلى أقوالهما وألق بالك إلى سماع تهمتهما يا مولاي.
دون بدرو :
أيها الضابط، ما الذي ارتكبه هذان الرجلان؟
دوجبري :
قسما يا سيدي، لقد شهدا زورا، فضلا عن قول الكذب، وثانويا،
18
إنهما مفتريان.
و«سادسا» وأخيرا إنهما قالا إفكا في حق سيدة. وثالثا إنهما قررا أمورا فرية، وفي الختام إنهما من الكذابين الأوغاد اللئام.
دون بدرو :
ألا - أسألك ماذا فعلا؟ و«ثالثا» ما ذنبهما؟ - و«سادسا» وأخيرا لماذا قبضت عليهما؟
وفي الختام بأي شيء تتهمهما؟
كلوديو :
أحسنت السؤال، وأجدت التفصيل على الطريقة ذاتها، والحق أنك أتيت بالمعنى الواحد في عدة صور.
دون بدرو :
إلى من أسأتما أيها السيدان حتى ربطوكما بأقوالكما
19
على هذا النحو؟
إن هذا الشرطي العالم لأعلم من أن يفهم، نبئاني ما تهمتكما.
بوراشيو :
أيها الأمير الكريم، لا تدعني أمعن في القول واستمع لي وأذن للكونت في قتلي.
لقد أضللت عينيك ذاتهما، ولكن ما عجزت حكمتك عن كشفه، قد فضحه هؤلاء المعاتيه السذج، فقد استرقوا علينا السمع ليلا، وأنا أعترف لصاحبي هذا بأن أخاكم دون جون حرضني على الوشاية بالسيدة هيرو، وكيف سيق بك إلى الحديقة فرأيتني أتغزل في مرجريت وهي في زي هيرو.
ومضيت تشهر بها بينما كان عليك أن تراها زوجا. وقد دون هؤلاء الأشراط تفاصيل جنايتي.
وإني لأوثر أن أختمها بموتي، على ما ينالني من العار بترديدها، لقد ماتت السيدة نتيجة فعلتي، وفرية سيدي، ولست أبغي غير جزاء الوغد الأثيم لي عقابا.
دون بدرو :
ألا يجري هذا القول كنصل السيف في دمك؟
كلوديو :
لقد كان سما شربته وهو يفوه به.
دون بدرو :
ولكن هل أخي هو الذي حرضك على هذا الجرم؟
بوراشيو :
نعم، وأجزل لي العطاء على تنفيذه.
دون بدرو :
لقد طبع على الغدر وركبت الخسة فيه.
وها هو ذا قد فر عقب أن اقترف جريمته.
كلوديو :
أواه، يا هيرو المحببة، إن صورتك لتبدو الساعة في تلك المعالم النادرة التي أحببتها أول مرة.
دوجبري :
هلموا، عودوا بالمجرمين. ولا بد أن يكون كاتبنا قد أبلغ
20
السنيور ليوناتو الآن بجلية الأمر وأنتما يا سيدان، لا تنسيا في الوقت والمكان المناسبين أن تقررا أني ... حمار ...
فارجس :
ها هو ذا السيد السنيور ليوناتو قادم، والكاتب أيضا ... (يدخل ليوناتو وأنطونيو ومعهما الكاتب.)
ليوناتو :
أيها الشقي الأثيم ... دعوني أر عينيه لكي أتحاشى من يشبهه إذا التقيت به، أي هذين الرجلين هو؟ ...
بوراشيو :
إن أردت أن تعرف الذي بغى عليك فانظر إلي.
ليوناتو :
أأنت العبد الذي قتلت «بوشايتك».
21
ابنتي البريئة الطاهرة؟
بوراشيو :
نعم أنا وحدي.
ليوناتو :
كلا، ليس الأمر كذلك أيها الشقي، إنك لظالم لنفسك فها هما هذان سيدان شريفان، ومعهما ثالث لاذ بأذيال الفرار. إنني أيها الأميران لشاكر لكما مصرع ابنتي، فلتدوناه في سجل مآثركما المجيدة السامية، لقد فعلتماه بشجاعة إذا كنتما تذكرانه.
كلوديو :
لست أدري كيف أطلب إليك صبرا. ولكن لا مفر لي من الكلام. فلتختر بنفسك وسيلة ثأرك، وافرض علي ما يبتكره خيالك من عقاب،
22
جزاء الذنب الذي اقترفته، وإن كنت لم أقترفه إلا عن خطأ.
دون بدرو :
ونفسي التي بين جنبي، إنني أيضا قد اقترفته عن خطأ، ولكني - مرضاة لهذا الشيخ الكريم - متقبل أي عقاب هو فارضه.
ليوناتو :
ليس في إمكاني أن أطلب إليكما أن تردا ابنتي إلى الحياة لأن هذا مستحيل، ولكني أناشدكما أن تعلنا على الملأ في مسينا أنها ماتت طاهرة الذيل.
وإن هداكما وحي الشاعرية إلى مرثية، فعلقاها على قبرها، وغنياها لعظامها. أنشداها الليلة. فإذا كان صبح الغد فتعاليا إلى داري، وما دمت لا تستطيع أن تكون لابنتي زوجا، فلتكن زوجا لابنة أخي، فإن لأخي ابنة - تكاد تكون صورة أخرى لفقيدتي. وهي وريثتنا الوحيدة أنا وأخي،
23
فاخلع عليها من الحقوق، ما كنت موشكا أن تخلعه على ابنة عمها.
وكذلك تزول ترتي
24
وتشفى موجدتي.
كلوديو :
أيها السيد الكريم:
إن حنانك البالغ لينتزع من عيني الدمع انتزاعا، وإني لمتقبل ما عرضت، فافعل بعد الآن بكلوديو المسكين ما أنت فاعله.
ليوناتو :
وإذن فإنني مرتقب غدا مقدمكما، وأما الليلة فأستأذنكما، وسنواجه هذا الرجل الخبيث بمرجريت التي أعتقد أنها ورطت في هذا الإثم الذي استأجرها أخوك له.
بوراشيو :
كلا، ونفسي التي بين جنبي إنها لم تشترك فيه، ولم تورط ولم تكن تعرف شيئا حين كلمتني، وعهدي بها أبدا الوفية الفاضلة.
دوجبري :
وفضلا عن هذا يا سيدي، إن هناك شيئا آخر لم يسجل في كتاب، وهو أن هذا الجاني
25
الماثل أمامكما سماني حمارا، ورجائي أن تذكروا ذلك عند تقرير عقوبته.
وقد سمعهما الحرس أيضا يتحدثان عن شخص يدعى «المشوه»، ويقولان إنه يلبس «مفتاحا» في أذنه ويعلق قفلا به،
26
ويستقرض الناس باسم الله ويكرر القروض ولا يردها، حتى قست قلوب الناس فلم يعودوا يقرضون الله شيئا. أناشدكما أن تبحثا في هذه النقطة.
ليوناتو :
أشكر لك عنايتك وهمتك.
دوجبري :
إن سيادتك تتكلم كأحسن الشباب، شكرا وتقديرا وأنا أحمد الله إليك.
ليوناتو :
خذ جزاء عنائك.
دوجبري :
ليبارك الله لصاحب هذا البيت.
27
ليوناتو :
اذهب وأنا معفيك من سجينك وشاكر لك.
دوجبري :
إنني تارك لديك شقيا ضالا، وأرجو أن تقتص لنفسك منه ليكون عبرة لغيره.
ليحفظك الله، وأتمنى لك الخير، ورد الله إليك العافية، وبكل خشوع أستأذنك في الانصراف.
28
وأدعو الله أن أراك في أحسن الأوقات. هلم بنا أيها الجار. (يخرج دوجبري وفارجس.)
ليوناتو :
وداعا أيها الموليان إلى صباح غد.
أنطونيو :
وداعا أيها السادة، إننا في انتظاركما غدا.
دون بدرو :
لن نتخلف.
كلوديو :
سأقضي الليلة في التفجع والأسى على هيرو.
ليوناتو (إلى الحرس) :
سيروا بهذين الرجلين حتى نتحدث إلى مرجريت، لنعلم كيف عرفت هذا الوغد الأثيم. (ينصرفون)
المنظر الثاني
حديقة دار ليوناتو (يدخل بنيديك ومرجريت فيلتقيان.)
29
بنيديك :
أرجوك يا عزيزتي مرجريت أن تسديني صنيعا ولك عليه أحسن الجزاء، أعينيني على التحدث إلى بياتريس.
مرجريت :
هل ستكتب لي أغنية تتغزل فيها بجمالي إن أنا فعلت؟ ...
بنيديك :
في أبدع أسلوب لا يأتي إنسان بشيء فوقه يا مرجريت، لأنك والحق يقال، تستحقين هذا المديح.
مرجريت :
أتقول إن إنسانا لن يأتي بشيء فوقي ... يعني أنني سأظل دائما تحت السلم.
30
بنيديك :
إن النكتة لديك سريعة كفم كلب الصيد؛ حين يلقط
31 ...
مرجريت :
ونكتتك مثلمة «كسيف» اللاعب، تصيب ولكن لا تجرح.
بنيديك :
نعم النكتة وما أخلقها أن تصدر من رجل يا مرجريت، إنها لن تجرح امرأة، ولهذا أناشدك أن تنادي بياتريس. إنني أسلم لك دروعي.
مرجريت :
هات لنا السيوف، فلدينا دروعنا.
32
بنيديك :
إذا استخدمتها يا مرجريت فاربطي الرماح بالمنجلة لأنها أسلحة خطرة على الفتيات .
33
مرجريت :
سأدعو لك بياتريس، إن لها ساقين تسير عليهما.
بنيديك :
ومن أجل هذا ستجيء. (يغني):
يا إله الحب، يا من تجلس في عل،
أنت العليم بأني للشفقة مستحق
34 ...
أعني في الغناء.
أما في الحب فإن لياندر
35
السباح الماهر،
وترويلاس
36
أول من استعان في الهوى بالرسل والوسطاء،
وسائر معاشر الفرسان الجلوس على الأبسطة،
37
وتجار الكلام الذي تملأ أسماؤهم كتابا كاملا،
وتجري سهلة هينة في طريق الشعر المرسل ...
فلم يغلبهم الحب على أمرهم، قدر ما غلبني -
ولم يستحوذ عليهم مثل ما استحوذ على خاطري،
يمينا، إنني لعاجز عن وصف حبي شعرا؛
ولطالما حاولت فلم أجد في القوافي كلمة،
على وزن «سيدة» غير «وليدة»،
ولا وقعت من الأوزان الصادقة غير المتكلفة للفظة «سخرية»
إلا على «قرون ملتوية»،
ولا لكلمة «مدرسة» غير «ذي لوثة»،
إن الشعر لملعون الخواتيم،
كلا لا أحسبني ولدت وفي طالعي أني سأكون ناظما للقوافي،
ولا أنا على الغزل بالكلام المنمق قدير.
38 (تدخل بياتريس.)
بنيديك :
يا عزيزتي بياتريس، أرضيت المجيء حين دعوتك؟
بياتريس :
نعم يا سنيور، وسأنصرف حين تأمرني.
بنيديك :
أواه، فلتمكثي إلى هذا الحين.
39
بياتريس :
لقد قلتها، فوداعا الآن، ولكن قبل أن أذهب دعني أنصرف بالذي جئت له، وهو أن أعرف ما الذي جرى بينك وبين كلوديو.
بنيديك :
كلمات كريهة ليس أكثر، وعليها سأقبلك.
بياتريس :
الكلمات الكريهة كالريح الكريهة، والريح الكريهة إن هي إلا الأنفاس الكريهة، وهذه خبيثة مستكرهة. ولهذا سأنصرف من غير أن أقبل.
بنيديك :
لقد أخفت الكلمة ذاتها فأخرجتها من عقلها،
40
إن فكاهتك لقوية شديدة، ولكني مصارحك الحقيقة: إن كلوديو مرتبط بالتحدي الذي وجهته إليه، فإما أن أتلقى قريبا جوابه، أو أعلن أنه نذل جبان، والآن أناشدك أن تنبئيني أي مساوئ حملتك أولا على حبي؟
بياتريس :
كلها مجتمعة، فقد احتفظت بحال من السوء جعلها لا تقبل أية حسنة تختلط بها. وأنت خبرني أي محاسني حملك أولا على أن «تعاني» حبي؟
بنيديك : «أعاني» الحب! كلام جميل. إنني أعاني الحب حقا؛ لأنني أحبك رغم إرادتي.
بياتريس :
على كره من قلبك ... وا أسفاه لهذا القلب المسكين ... إذا كنت له كارها من أجلي، فإني له كارهة من أجلك؛ لأنني لن أحب أبدا ما يكرهه صاحبي.
بنيديك :
أنا وأنت من فرط العقل بحيث لا نقدر على غزل رقيق.
بياتريس :
ولكن هذا العقل المفرط لا يبدو في هذا الاعتراف، ولن تجد بين عشرين رجلا، رجلا واحدا يمدح نفسه كما فعلت.
بنيديك :
تلك حكمة قديمة، جد قديمة يا بياتريس، وجدت حين كان الناس صالحين لا يحسد بعضهم بعضا، إن المرء إذا لم يبن الآن قبره قبل مماته، فلن يحيا في الذاكرات أطول أمدا مما يستغرقه دق النواقيس بمنعاته، وبكاء الأرملة لوفاته.
بياتريس :
وكم يطول هذا في ظنك؟
بنيديك :
هذا هو السؤال، ساعة في دق أجراس ورنين، وبعض ساعة في بكاء وأنين، فمن الخير للعاقل أن يعلن عن فضائله كما أعلن أنا عنها، وذلك إذا لم يحل شيء بين الإنسان طعمة الديدان
41
وبين هذا الإعلان. وحسبي هذا في مديح نفسي الجديرة في شهادتي لها بكل مديح وثناء. والآن نبئيني كيف حال ابنة عمك؟
بياتريس :
جد عليلة.
بنيديك :
وكيف حالك أنت ...
بياتريس :
جد عليلة كذلك.
بنيديك :
اتقي الله وأجيبيني واسأليه لنفسك صلاحا، والآن أتركك لأني أرى إنسانا قادما نحونا مسرعا. (تدخل أورسولا.)
أورسولا :
مولاتي - تعالي إلى عمك، إن في البيت حركة قلما شاهدت مثلها.
لقد ثبت أن مولاتي هيرو قد اتهمت زورا وبهتانا، وأن الأمير وكلوديو ضلا ضلالا مبينا، وأن دون جون أس هذا البلاء كله قد فر هاربا. هلمي إليه في الحال.
بياتريس :
ألا تأتي لتسمع هذا النبأ يا سنيور.
بنيديك :
سأحيا في قلبك، وأموت في حجرك، وأدفن في عينيك، وإلى جانب هذا كله سأذهب معك إلى عمك. (يخرجون)
المنظر الثالث
في الكنيسة (يدخل دون بدرو وكلوديو وثلاثة أو أربعة يحملون شموعا.)
كلوديو :
أهذه هي مقبرة آل ليوناتو؟
أحدهم :
نعم يا مولاي.
كلوديو (يقرأ في رق مسطور) : «ذهبت ضحية ألسنة السوء، هيرو التي ترقد في هذا المكان، فإن الموت - إنصافا لها من الظلم الذي حاق بها - قد وهبها مجدا لن يموت. وكذلك راحت الحياة التي ماتت بعار تحيا في الموت بمجد وفخار. قفوا على هذا القبر وترحموا عليها. واذكروا محاسنها إذا انعقد لساني فلم أجد كلاما. ويا أيتها الموسيقى اعزفى واصدحي سلاما وأنشدي أغنيتك المقدسة لحنا وأنغاما ...» (أغنية):
يا ربة الليل
42
صفحا وغفرانا
للذين قتلوا فارستك العذراء؛
43
وجاءوا من حول قبرها طائفين
ليغنوا غناء المكروب الحزين،
ويا أيها الليل البهيم أعنا على الأنين
وحسرات المتحسرين،
ويا قبور تثاءبي، والفظي موتاك
إلى أن ينادى بالموت مهزوما مدحورا.
كلوديو :
والآن طاب ليل أعظمك، وإني لمعاهدك أن أقف كل عام وقفتي هذه بقبرك.
دون بدرو :
طاب صباحكم أيها السادة، أطفئوا مشاعلكم، إن الذئاب قد فرغت من الفتك بفريساتها، وانظروا، إن الصبح حول مراكب فيبوس طائف
44
يرقط المشرق الوسنان ببقع شهب، شكرا لكم جميعا، واتركونا ... وداعا.
كلوديو :
طاب نهاركم أيها السادة، وليأخذ كل منكم سبيله.
دون بدرو :
هلم بنا من هذا المكان، لنرتدي ثيابا غير هذه الثياب، ونذهب إلى دار ليوناتو.
كلوديو :
ويا إله القران، أسرع بنا الآن إلى حظ أسعد من الذي جئنا نؤدي له هذه التحية محزونين. (يخرجون)
المنظر الرابع
في إحدى حجرات دار ليوناتو (يدخل ليوناتو وأنطونيو وبنيديك وبياتريس ومرجريت وأورسولا والقس فرانسس وهيرو.)
القس :
ألم أقل لك إنها بريئة؟
ليوناتو :
وكذلك الأمير وكلوديو اللذان اتهماها على أساس الفرية التي سمعتنا نتحدث عنها، ولكن بعض الذنب واقع على مرجريت في هذا الأمر وإن أتى على غير إرادتها. كما يبدو من مجرى التحقيق وتتابعه.
أنطونيو :
إنني لمغتبط بأن الأمر انتهى بخير.
بنيديك :
وأنا كذلك. وإن كنت برا بعهد عاهدته قد دعوت الفتى كلوديو إلى الحساب على فعلته.
ليوناتو :
والآن، يا ابنتي، ويا أيتها السيدات كلكن، اذهبن فانفردن بأنفسكن في حجرة أخرى.
وحين أدعوكن، تعالين مخفيات وجوهكن (تخرج النساء) .
لقد وعدني الأمير وكلوديو أن يزوراني في هذا الموعد وأنت يا أخي تعرف الدور الذي ستضطلع به. وهو أن تكون أبا لابنة أخيك، وتسلمها للفتى كلوديو.
أنطونيو :
وإني لفاعل ذلك قوي العزيمة مطمئنا.
بنيديك :
أيها القس، أراني مضطرا إلى طلب معونتك.
القس :
وماذا تريد أن أفعل يا سيدي؟
بنيديك :
أحد أمرين، إما أن تربطني أو تفكني
45
الحق يا سيد ليوناتو الكريم إن ابنة أخيك تنظر إلي بعين الرضى.
ليوناتو :
إن هذه العين هي التي أعارتها إياها ابنتي، هذا هو الحق المبين.
بنيديك :
وأنا بعين الحب أؤدي حقها علي.
ليوناتو :
أحسبني أنا الذي أخذت بصر هذه العين منه، كما أخذته من كلوديو والأمير
46
ولكن ما مشيئتك؟
بنيديك :
إن جوابك يا سيدي كاللغز مستغلق، أما عن مشيئتك فهي مشيئتك، وهي أن توافق على ارتباطنا اليوم برباط قران شريف لا عائب عليه ولا ذام، وأرجو منك أيها القس التقي المعونة عليه.
ليوناتو :
إن قلبي معك.
القس :
ومعونتي لك. ها هو ذا الأمير وكلوديو قادمان. (يدخل دون بدرو وكلوديو واثنان أو ثلاثة آخرون.)
دون بدرو :
صباحا مباركا لهذا الجمع الكريم.
ليوناتو :
صباحا أيها الأمير وعم صباحا يا كلوديو، إننا هنا في انتظاركما ... ألا تزال معتزما الاقتران اليوم بابنة أخي؟
كلوديو :
سأبر بعهدي، ولو كانت حبشية.
ليوناتو :
ادعها يا أخي. وها هو ذا القس على استعداد. (يخرج أنطونيو.)
دون بدرو :
عم صباحا يا بنيديك. ما خطبك ومالي أرى وجهك كأنه في شهر فبراير، يلوح باردا قاتما مليئا بالجليد والعواصف والسحب الثقال؟
كلوديو :
أحسبه يفكر في الفحل الهائج، ولكن اطمئن يا رجل ولا تخف، فسنغطى طرفي قرنيك بالذهب، ونجعل «يوروبا» بأسرها تلهو بك، كما لهت يوروبا من قبلك بجوبيتر الشديد البأس، حين تمثل الوحش الكريم في الحب.
47
بنيديك :
ولكن الفحل جوبيتر يا سيدي كان له خوار رفيق، وأما أنت فإن فحلا غريبا وثب على بقرة أبيك، فأولدها بهذه الفعلة الكريمة عجلا أشبه شيء بك لأن لك عين ثغائه.
كلوديو :
هذه واحدة سأحاسبك عليها، وها هي ذي أمور تتطلب التسوية. (يعود أنطونيو والسيدات وهن مقنعات.)
أيهن الغانية التي ستكون لي؟
أنطونيو :
ها هي ذي، وأنا واهبك إياها.
كلوديو :
إنها إذن لي ... دعيني أنظر محياك أيتها الحسناء.
ليوناتو :
كلا، لن تفعل حتى تتناول يدها أمام هذا القس فتقسم إنك لمقترن بها.
كلوديو :
هاتي يدك. وأمام هذا القس الموقر، أنادي أنني زوجك إن رضيت بي زوجا.
هيرو (تحسر القناع عن وجهها) :
يوم كنت بين الأحياء، كنت زوجك الأخرى، وحين أحببت، كنت زوجي الآخر.
كلوديو :
أهيرو أخرى ...؟
هيرو :
لا شيء أكثر توكيدا، واحدة قضت بالإفك مدنسة، أما أنا فأعيش، ولا ريب في أني عذراء كما لا ريب في أني من الأحياء.
دون بدرو :
هيرو الأولى! هيرو التي ماتت!
ليوناتو :
لم تمت يا مولاي إلا حين كانت الفرية حية.
القس :
سأزيل هذه الحيرة كلها حين انتهي من مراسم القران المقدسة، وسأشرح باستفاضة سر موت هيرو الحسناء. فدعوا العجب في هذه الساعة، واحسبوه من الأمور المألوفة، وهلموا بنا من فورنا إلى الكنيسة.
بنيديك :
مهلا أيها القس، مهلا. أيهن بياتريس؟ ...
بياتريس (حاسرة) :
هذا هو اسمي. فماذا تريد؟
بنيديك :
ألا تحبينني؟
بياتريس :
كلا، ليس أكثر مما أحب العقل والحجى.
بنيديك :
عجبا، لقد كان عمك والأمير وكلوديو مخدوعين حين أقسموا أنك تحبينني.
بياتريس :
ألست تحبني؟
بنيديك :
في الحق، كلا، ليس أكثر مما أحب العقل والحجى.
بياتريس :
عجبا، لقد كانت ابنة عمي ومرجريت وأورسولا مخدوعات كثيرا، لأنهن أقسمن أنك تحبني.
بنيديك :
لقد أقسمن بأنك في حبي مدلهة أو تكادين.
بياتريس :
وقد حلفن أنك تكاد من حبي تفارق الحياة.
بنيديك :
لا شيء من هذا القبيل. إذن أنت لا تحبينني ...
بياتريس :
في الحق لا، ولكن حب الصديق للصديق.
ليوناتو :
دعي عنك هذا يا ابنة أخي، إني لعلى يقين بأنك تحبين السيد الكريم.
كلوديو :
وأنا أقسم أنه يحبها، وها هي ذي ورقة بخط يده، تحوي أغنية متكلفة فاضت بها قريحته، موجهة إلى بياتريس.
هيرو :
وها هو ذا كتاب آخر بخط ابنة عمي سرق من جيبها، تصف فيه حبها لبنيديك.
بنيديك :
يا للمعجزة! ... هاتان يدانا تشهدان على قلبينا ... اقبلي، فإني آخذك.
ولكن بحق هذا النهار إني آخذك إشفاقا عليك.
بياتريس :
لست أرفض سؤلك، ولكن وحق هذا النهار المضيء، إني ما رضيت بك إلا بعد حض كثير؛ ولكي أنقذ حياتك، فقد نبئت أن الحب أضناك.
بنيديك :
حسبك ... سأغلق فمك (يقبلها) .
دون بدرو :
ماذا صنعت بنفسك يا بنيديك الزوج ...؟
بنيديك :
سأشرح لك أمري أيها الأمير، قل لو اجتمع علي حشد من محترفي الفكاهة ليسخروا مني، ويستنفروني مما أريد لما استطاعوا أن ينالوا من مأربهم شيئا. هل تحسبني أحفل بهجو شاعر، أو سخرية ساخر؟ كلا، إذا المرء استخذى لقول القائلين وفكاهة الفكهين، فلن يجد حوله شيئا جميلا.
وجملة القول إنني ما دمت قد أردت الزواج فلن آبه بما يقول الناس فيه؛ ولهذا لا تعبث بي ولا تذكرني بما قلت عنه كارها له، فقد خلق الإنسان حولا قلبا، وهذا هو كل ما عندي قلته. وأما أنت يا كلوديو فقد كنت معتزما أن أقتلك، ولكن ما دمت ستصبح لي نسيبا، فعش سالما وكن بابنة العم مغرما.
كلوديو :
لقد كنت أرجو أن تأبى على بياتريس، لكي أنتزع منك حياة الأعزب انتزاعا، وأجعلك مرائيا ذا وجهين، وأنك بلا ريب لتصبح كذلك إذا لم تشدد ابنة العم الرقابة عليك.
بنيديك :
حسبك. حسبك. إننا اليوم صديقان، فلنستمتع برقصة قبل القران. لنخفف عن قلوبنا وأعقاب زوجاتنا.
ليوناتو :
سيأتي الرقص بعد.
بنيديك :
يمينا، ليكونن أولا. أيها الموسيقيون اعزفوا. وأنت أيها الأمير أراك ساهما. فاتخذ لك زوجا. اتخذ لك زوجا.
فما رأينا في العصي أجمل ولا أروع من عصا في آخرها قرن. (يدخل رسول.)
الرسول :
مولاي الأمير، لقد قبض على أخيك أثناء فراره، وجيء به إلى مسينا مخفورا.
بنيديك :
لا تفكر فيه إلا غدا. وسأبتكر عقابا له يليق به، اعزفوا أيها العازفون. (يبدأ الرقص وفي ختامه ينصرفون.)
هوامش
Bilinmeyen sayfa