ولم تخلف الفتاة وعدها، فدفعت إلى القاتلين كيسا مثقلا بالدراهم بقية أجرهما، وصرفتهما.
ولما اختلت المرأتان بنفسهما نزعتا المسمارين من جثة القتيل، ثم درجتاه في غطائه، وجرتاه من حجرة لحجرة لتلقياه من شرفة على حديقة قاحلة في أقصى القصر، فتوهمان الناس أنه سقط من الشرفة خطأ فمات، ولكن ما كادتا أن تصلا به إلى آخر غرفة حتى فارقتهما قواهما من التعب، فجلستا تستريحان قليلا، وحانت من لوكريزيا التفاتة، فرأت أولمبيو ورفيقه لم يبرحا القصر وهما يتقاسمان المال الذي أخذوه، فدعتهما لمساعدتهما، فأطاعا وحملا الجثة إلى الشرفة، ثم أشارت لهما بياتريس على شجرة بيلسان، فألقياه فوقها؛ فتعلقت الجثة في أغصانها، ولبثت معلقة فيها.
ووجد أهل القصر جثة سيدهم في الغد معلقة في الشجرة تحت الشرفة، فظنوا جميعا أنه زلت قدمه وهو فوق الشرفة؛ والشرفة بلا دائر فسقط فمات، وكانت أغصان البيلسان قد مزقت ثياب المقتول وملأت جثته بالجراح؛ فلم ينتبه القوم بين هذه الجراح إلى أثر المسمارين، ولما أبلغت المرأتان الخبر خرجتا صارختين تندبان وتسكبان الدموع الغزيرة حتى رثى لهما كل ناظر، وما كان لأحد أن يتهمهما وهو يرى ما تظهرانه من علائم الحزن الشديد، إلا أن غسالة القصر تولتها الظنون عندما أتت لها بياتريس بغطاء أبيها لتغسله فوجدته ملطخا بالدماء، فسألتها عما فيه فقالت لها الفتاة: إنه أثر حيض أتاها بالأمس؛ فتظاهرت الخادمة بالتصديق ولم تنبس ببنت شفة، وانقضت معدات الجنازة، وتم المأتم وعادت بياتريس ولوكريزيا إلى روما مطمئنتين، فاعتزلتا فيها الناس، وبشرتا نفسيهما بحياة خير من الأولى على كل حال.
التحقيق
قد يكون المجرم مطمئن البال، لكن قلما يكون مطمئن الضمير، فإذا كان لا يخشى بأس الناس، فإن صوتا خفيا لا يزال ينذره بعقاب الله، وقد يظهر عقاب الله على أيدي الناس، وهكذا أراد الله أن يتضح الحق، فألهم قضاة نابولي إذ بلغهم موت فرنشسكو الفجائي أن لا بد أن يكون هذا الموت جنائيا، فأرسلوا مندوبا إلى روكابتريلا لاستخراج الجثة والبحث عن آثار الجريمة البادية عليها إن كانت الوفاة جنائية. ولما وصل المندوب إلى القصر قبض على كل ساكنيه وأرسلهم في الأغلال إلى نابولي، ولكنه لم يهتد إلى دليل ييسر له معرفة الحقيقة إلا قول الغسالة؛ حيث قررت أن بياتريس أتت إليها بغطاء ملطخ بالدم لتغسله، وادعت أنه دم حيض، فسألها القضاة إن كانت ذمتها ترتاح إلى تصديق قول الفتاة، فقالت: إنها لا تظن أن ذلك الدم كان دم حيض؛ لأنه كان أحمر قانيا زاهي اللون.
وأرسل القضاة ذلك الإقرار إلى محكمة روما، فلم تهتم به المحكمة؛ لقلة قيمته في باب الإثبات، فلم تأمر بالقبض على أحد من آل سنسي، وفي تلك الأثناء مات صغير هذه العائلة، فلم يبق من أولاد فرنشسكو الذكور إلا اثنان: جاك - الذي مر ذكره - وبرنار، فكان في استطاعتهما أن ينجوا بنفسهما في هذه الفرصة فيقصدا البندقية أو فلورنسا، ولكن لم يبرحا روما ولبثا فيها ينتظران ما تحكم به الأقدار.
وعلم جويرا أن رجال الشرطة بنابولي بلغهم أن أولمبيو ومارزيو كانا يطوفان حول القصر قبل مقتل فرنشسكو، فأخذوا في البحث عنهما للقبض عليهما؛ فخشي جويرا أن يبوحا بالسر الذي اؤتمنا عليه؛ فكلف رجلين من الأشقياء بقتلهما، فلحق أولهما بأولمبيو في مدينة ترني، وطعنه بخنجره طعنة كانت القاضية، أما الثاني فلم يصل إلى نابولي إلا وقد قبض رجال الشرطة على مارزيو وقرروه بواسطة التعذيب؛ فاضطر أن يعترف لهم بكل ما حصل، فأرسل اعترافه إلى محكمة روما، فصدر أمرها بإلقاء القبض على آل سنسي: جاك وبرنارد ولوكريزيا وبياتريس، وسجنوا أولا في قصر أبيهم ووكل بحراستهم الجنود، ولما قويت ضدهم الشبه نقلوا إلى قصر كورتي سافيلا، وهناك ووجهوا مع مارزيو، فأنكروا جميعا اشتراكهم في الجريمة بل ومعرفتهم القاتل، وطلبت بياتريس أن يواجهوها وحدها به، فلما وقفت أمامه كذبت في وجهه مدعاه بثبات جنان وقوة بيان أسراه، وأثر فيه جمالها وهواه، فعزم على أن يخلصها من هذه التهمة ولو ذهب هو فداءها، فقال: إنه كذب في كل ما قاله وافترى، وإنه يسأل الله أن يغفر له هذا الافتراء ويرجو بياتريس أن تصفح عن ذنبه، فأذاقه المحققون من أنواع العذاب ما يشيب الولدان، فلم يرجع عما قرره أخيرا، ومات بين أيدي معذبيه وقد أطبق فاه على سره حتى ظن آل سنسي أنهم ناجون.
ولكن أراد الله إلا أن تتم مشيئته فقبض على قاتل أولمبيو في جريمة أخرى، فاعترف القاتل بالجريمتين وقال: إن جويرا أوعز إليه بقتل أولمبيو؛ خشية فضيحة سر له عنده.
وعلم جويرا الخبر في حينه - وكان ذا حيلة لا تخيب - فلم يجزع ولم يرتبك في أمره، وكان لديه إذ وصله الخبر بائع فحم يحاسبه على ما ورده لمنزله، فأدخله إلى حجرته، وأنقده مبلغا وافرا على أن يكتم ما يفعله، ثم خلع عنه ثيابه وألقاها وارتدى بثياب الفحام القذرة بعد أن جز شعوره الذهبية الجميلة ولطخ وجهه ويديه بالفحم، ثم اشترى من الفحام حماريه بحملهما، وخرج هكذا من القصر يجوب طرقات روما وينادي: «الفحم يا طالب الفحم.» والجنود تسعى في أركان المدينة باحثة عليه. وما زال حتى بلغ المدينة فانضم إلى قافلة راحلة منها، فسار بصحبتها إلى نابولي، ومنها ركب البحر إلى حيث لا نعلم. وقال بعضهم: إنه قصد فرنسا وخدم في جيوش هنري الرابع، ولكن لا دليل على صحة ذلك القول.
ورأى القضاة من أقوال قاتل أولمبيو واختفاء جويرا ما أيد الشبهة ضد آل سنسي، فنقلوا من قصرهم إلى السجن، وأخذ المحققون في تعذيبهم حملا لهم على الإقرار، فلم يطق الولدان الألم واعترفا بذنبهما. أما لوكريزيا فابتدءوا بتعذيبها بواسطة شد أطرافها بالحبال، وكانت ممتلئة الجسم فلم تتحمل ذلك التعذيب، واعترفت بكل ما فعلت.
Bilinmeyen sayfa