ومر عليهما في هذه الحال أسبوع لم يرفع الفتى فيه عينه إلى مولاته، ولم يفتح في حضرتها فاه، حتى تأسفت على ما كان منها نحوه.
وإذ كانت المركيزة ذات يوم في غرفتها منشغلة بزينتها، اغتنم الفتى فرصة انفرادها وقد تركتها وصيفتها فولج إلى الغرفة، وارتمى على قدمي المركيزة قائلا: إنه حاول عبثا كتم هواه فأصبح لا طاقة له بإخفائه، حتى لو قدر له أن يموت تحت قدميها مسخوطا عليه منها فلن يرجع عن أن يعترف لها بأن هواه عظيم، شغل قلبه وباله، وأصبح أقوى من كل عاطفة فيه، فأرادت المركيزة أن تطرده من حضرتها كما فعلت أول مرة، لكنه أبى الخروج، وعمل بوصية مولاه، فهجم على المركيزة وضمها إلى صدره؛ فصرخت المركيزة وصاحت، وقطعت حبال الأجراس فلم تجبها وصيفتها، ولم تحضر واحدة من الخادمات؛ لأن الوصيفة كانت قد صرفتهن عملا بأمر المركيز، فلما رأت المركيزة نفسها وحيدة لا مغيث لها عملت على دفع القوة بالقوة، فاجتهدت حتى تخلصت من أيدي الفتى وأسرعت نحو غرفة زوجها مختلة الهندام عارية الصدر محلولة الشعور وقد احمرت وجنتاها وثار غضبها، فزادت جمالا على جمال، ووجدت المركيزة زوجها راقدا فألقت بنفسها عليه تستغيث به من شر ربيبه وتشكوه حيث أهانه في عرضه وشرفه، ولكن أدهشها ما رأته من عدم اهتمام زوجها بالأمر؛ إذ قال لها ببرود: إن ما تروينه غير معقول، ولم ينفعل غيرة على عرضه، وزاد قائلا: إنه عهد هذا الفتى عاقلا كاملا فلا يبدر منه هذا الفعل، وإنه لا بد أن يكون لدى المركيزة أسباب تحملها على اتهامه ظلما سعيا لإخراجه من القصر، وإنه رغما عن حبه واحترامه لها لا يسعه طرد هذا الفتى؛ لأنه ربيبه وابن صديقه، فهو في منزلة ولده لديه. فخرجت المركيزة من لدى زوجها حائرة لا تدري بما تؤول أقواله، ورأت نفسها بلا معين فصممت أن تحتمي وراء ستار العفاف تقابل ربيب زوجها بالشدة حتى تفقده كل أمل في الوصول إليها.
وأصبحت المركيزة من ذلك الحين لا تعامل الفتى العاشق إلا بالصد والجفاء، ولولا أن مولاه وراءه يشجعه ويعشمه لمات الفتى كمدا؛ لفرط حبه وميل المركيزة عنه، وضجر المركيز لحرص زوجته على عرضها، وازداد همه كما يزاد هم امرئ شريف لا تحرص زوجته على عرضه.
ولما يئس المركيز من إذعان زوجته طوعا لحب فتاه، عزم أن يطرق سبيل الحيلة أو الإكراه، فأخفى الفتى في خزانة ملاصقة لغرفة المركيزة وزوده بتعليماته، ثم رقد بجانب امرأته، حتى إذا مضى ثلث الليل انسحب من مرقده بدون أن تشعر به وخرج من الغرفة بعد أن أغلقها بالمفتاح ينصت إلى ما يحدث فيها.
ومضت عليه عشر دقائق في موقفه، ثم سمع حركة كبيرة في الغرفة وربيبه يحاول إبطال صوتها، فتعشم المركيز أن ينتصر الفتى، لكن زادت الحركة؛ فعلم أن الحيلة التي دبرها قليلة الجدوى. وما لبث أن سمع صراخا من داخل الغرفة والمركيزة تستغيث وتنادي، وكان زوجها قد رفع الأجراس من مكانها؛ حتى لا تتمكن زوجته من قرعها استدعاء للخدم، ولما لم يحضر لإغاثتها أحد سمعها المركيز وقد وثبت عن سريرها وأسرعت نحو باب الغرفة وحاولت فتحه فوجدته موصدا، فأسرعت نحو النافذة فأدرك المركيز أن السيل قد بلغ الزبى وأن لم يبق في الأمر حيلة، ففتح الباب خاشيا أن يحدث حادث أو تبلغ أصوات المركيزة أحد المارين، فتصبح القضية في الغد حديث المتكلمين.
ولما رأت المركيزة زوجها داخلا عليها أقبلت وألقت بنفسها على صدره، وقالت مشيرة إلى ربيبه: لعلك مصدق بعينيك ما كذبته أذناك، فهل تأبى الآن إخراج هذا الفتى من القصر؟
قال: نعم، ما يصنعه هذا الفتى منذ ثلاثة شهور يصنعه بإذني بل بأمري.
فاندهشت المركيزة لهذا الجواب وخرست، وأخذ زوجها يشرح لها بحضور ربيبه سر الأمر، ثم رجاها أن ترضخ لما يرجوه عساها ترزق بمولود يتخذه ولدا، فأجابته المركيزة بعزة نفس وطلاقة لسان تستكبر على من كانت في سنها، فقالت له: إن القوانين جعلت حدا لسلطته عليها، فليس له أن يتعداه، وإنه مهما بلغت منها الرغبة في إرضائه فلن تطيعه فيما يمس بكرامتها وعرضها.
فاضطر المركيز وهو في السبعين أن ينصاع لقول زوجة لم تبلغ العشرين، وما الكبير كبير بسنه بل بقلبه وعقله. وصرف المركيز آماله عن الحصول على وارث له، ولم يخلف عهده مع ربيبه؛ إذ لا ذنب له، فأنجزه ما وعد واشترى له وظيفة سامية في الجيش، وصبر على حكم الله إذ ابتلاه الله بأطهر النساء ذيلا وأصونهن عرضا، وأراد الله أن لا يطول عذابه، فقبضه إليه بعد ثلاثة شهور من الحوادث التي سردناها، فمات بعد أن قص على مسمع صديقه المركيز دوربان سر أحزانه وسبب أشجانه.
فتنة وخديعة
Bilinmeyen sayfa