أقام محمد وعروسه بالزقازيق واستطاع أن يخلو لها في أول حياتهما الزوجية بضع أسابيع، ولكن نداء القمار كان عاليا يطن في أذنيه طنينا متصل الجرس، حتى لم يستطع أن يغفله؛ فعاد طريقه إلى النادي ومائدة القمار، وعادت آمال إلى الوحدة.
إلا أنها في هذه المرة كانت في مدينة، فما أسرع ما ارتبطت أواصر الصداقة بينها وبين جاراتها الساكنات بالطابق الأعلى، والأخريات المقيمات بالبيوت المقابلة أو الملاصقة. ولكن ما أقل ما تغني هذه الصداقات؛ فللزيارات أوقات تنتهي عندها، وهي أشد ما تكون حاجة إلى الصديقة في الأوقات التي لا تصلح للزيارة؛ هناك في أعماق الليل حين لا تسمع إلا الصمت، ولا ترى إلا الظلام، في هذه الأوقات التي تمتد بغير نهاية تريد هي الصديقة، تريد من ينسيها أنها تزوجت لمجرد الزواج، تريد من يجعلها لا تذكر أنها تزوجت لأنها برمت بالسجن في القرية، تريد زوجها الذي تزوجته عن غير حب ليقول لها إنه يحبها، أو ليقول لها أي شيء، ولينتشلها من هذه الوحدة التي عانت منها الكثير. هناك في القرية لا يحيط بها إلا غضب أبيها، وتزمت أمها.
لم تكن الجارات إذن يعنين شيئا بالنسبة إليها ، فقد كانت الفلاحات بالقرية يجئنها في نفس المواعيد التي تتبادل فيها الزيارات مع جاراتها، لم يزد عليها في بيت زوجها إلا أنها أصبحت تزور معه القاهرة من حين إلى حين، وكانت تستطيع هناك أن تزور صديقتها ناهد التي تزوجت هي الأخرى، وإن كانت ما زالت تسير حياتها كما كانت تسيرها وهي بعد فتاة في المدرسة. كانت هذه الزيارات إلى القاهرة هي المتعة الوحيدة التي أحست آمال بها. ولم تكن قد أعدت نفسها لهذا الذي تلاقيه، فحين لقيته امتلأت نفسها تمردا وحنقا، حتى محمد ابن الحاج والي ... يتركها ليلعب القمار! وينفرد بها الليل! لماذا تزوجته إذن؟! نعم إنها تدري أنها تزوجته لأنها لم تتوقع أن تجد غيره، ولكن أيكون هذا مصيرها معه؟! وتنظر إلى المرآة وتزداد سخطا على محمد وعلى أبيها، بل إنها تسخط أيضا على هذا اليوم الذي عثر فيه أبوها عليها بالسيارة الواقفة بالجزيرة.
كانت آمال حاملا في طفلها الأول، وكان موعد وضعها قد اقترب، ولكن محمدا لم يعبأ بهذا؛ فإن يكن هذا القادم هو الطفل الأول لآمال فما كان الأول لمحمد. فهو لا يزيد حين يترك البيت عن أن يسألها في سرعة: أتحسين ألما؟
وتقول: لا.
فيأخذ سمته إلى السلم. طريقه إلى المائدة التي أصبح لا يطيق العيش دونها.
وقد كانت في هذا اليوم، تحس الآلام ولكنها وجدت نفسها تقول لا، في غير مبالاة، وكأنما خيل إليها بهذا تعاقبه على إهماله لها. ونزل محمد وازدادت آلام الوضع، وحاولت أن تتصل بزوجها بالتليفون ولكنها وجدته معطلا، فأرسلت خادمتها إلى عدلية هانم التي تقطن بالطابق الأعلى، وسرعان ما نزلت عدلية ثم نادت زوجها أن يحاول الاتصال بمحمد في النادي، وأن يحضر سيارة أجرة لنقلهم إلى المستشفى. وكانت السيارة الأجرة أسرع من محمد. وركبت عدلية وآمال ووقف زوج عدلية المهندس عزت زكي على باب السيارة حائرا ماذا يفعل إلى أن صاحت به زوجته: اركب يا عزت! فلا يمكن أن نذهب إلى المستشفى بلا رجل معنا.
وركب عزت في حيرة لا يدري ماذا يفعل وتحركت السيارة، وحين جاء محمد أخبرته الخادمة أن سيدتها سبقتهم إلى المستشفى مع عدلية هانم وزوجها.
وحين وصل محمد إلى المستشفى كانت آمال ما تزال تضع بينما كان عزت جالسا في بهو المستشفى حائرا ما يزال. وشكر محمد عزت على اهتمامه، ولم يجد عزت مناصا أن ينتظر. ولبس محمد ملابس الأطباء، وأراد أن يدخل إلى زوجته، ولكنه قبل أن يدلف إلى الباب كانت الولادة قد تمت، وجاءت ابنته الأولى إلى الحياة دون أن يكون له نصيب في معاونة أمها. ولم تنس آمال هذه الوحدة التي عانتها وهي تواجه الأمومة لأول مرة في حياتها. فابتدرت زوجها وهي تراه بعد الولادة مباشرة: ألم تنته البرتيتة إلا الآن؟! كثر خيرك يا محمد، كثر خيرك يا دكتور محمد.
وأطرق محمد ولم يحاول أن يجيب، بل ذهب إلى السرير الصغير الذي يحمل وليدته وظل يرنو إليها بنظرات فارغة فيها خزي وفيها خجل، وإن كان يحاول أن يجعل فيها شيئا من الأبوة.
Bilinmeyen sayfa