هنية فتاة بيضاء ناصعة البياض ذات شعر، لا هو بالأسود الداكن، ولا هو بالأصفر الفاقع، وإنما هو بين بين، تطلقه بعد أن تزوجت دون أن تلم ثائره بمنديل أو ضفيرة، وهي ليست طويلة، بل لعلها إلى القصر أقرب، سمينة بعض الشيء وإن كانت الآن سمينة غاية السمن، ذات عينين واسعتين وفم أوضح ما فيه شفتان غليظتان. تلقت تعليمها في الكتاب، فتعلمت الجهل من أوثق مصادره. فرحت يوم زواجها بمحمد غاية الفرح؛ فقد كان الزواج في ذاته هو الأمل المنشود الذي تهفو إليه أحلامها إذا أمست، وأفكارها إذا أصبحت، ولو كانت تدري كيف خطبها محمد، أو كيف خطبت لمحمد لترددت كثيرا قبل أن تفرح، وإنما قيل لها عريس، وابن الحاج والي، والقاهرة، وتصبح ستا في بيتها ففرحت، وهي تقيم الآن في بيت بالسيدة زينب هي ومحمد، ومحمد مشغول عنها في البيت بالمذاكرة وخارج البيت بأشياء كثيرة، وهي تستجدي الصداقات من الجارات، وتلتئم بينهن الصلات. ويذهب محمد إلى بيوت أصدقائه فيجد غير ما يجد في بيته؛ فالبيوت هناك نظيفة مرتبة، وبيته قذر مهوش. فيزداد ضيقا بزوجته ويكتم خبر زواجه عن زملائه، فإذا ألحوا عليه أن يزوروه يتنصل من الدعوة بشتى المعاذير، فعنوانه كزواجه سر من الأسرار لا يبيحه لأحد حتى ولا لصديقه الأوفى مجدي عبد العزيز. وكان من الطبيعي أن يعتبره الأصدقاء عزبا غير متزوج فيشركوه فيما يشترك فيه غير المتزوجين؛ فيشترك تدفعه إلى ذلك الرغبات المكبوتة في المغامرة والمبالغة في إخفاء أمر زواجه. وهكذا صحبه مجدي، إلى عزيزة فذهب مترددا أول الأمر، ثم أصبح يذهب إليها بلا صاحب ولا تردد. ويزداد محمد ضيقا بزوجته، ولكن هذا الضيق لم يمنعها أن تقول له بعد عام من زواجهما: لا بد أن أذهب إلى البلد لألد هناك.
وكان محمد يعتبر نفسه طبيبا منذ التحق بكلية الطب. - لا يمكن! كيف أكون طبيبا وتلدين في البلد؟ - وأنا لا يمكن أن أضع بعيدا عن أمي. - نرسل إلى أمك تأتي إلى هنا وتلدين في المستشفى. - لقد نذرت أن أجعل الحاجة زينب أم عوضين هي التي تولدني. - الحاجة زينب؟! هذه المرأة العجوز الراعشة اليدين. - ما لها؟ أليست هي التي جاءت بك إلى الحياة؟ - بل إنها هي التي أودت بأمي إلى الآخرة. - لن يولدني غيرها. - بل سيولدك الطبيب. - لن يكون هذا. - لن يكون إلا هذا. سترين.
وكان محمد يواجه امتحانه، ولكنه لم يجد بدا أن يسافر بامرأته إلى البلد ويعود في اليوم ذاته.
وحين انتهى محمد من الامتحان، سافر فوجد امرأته قد وضعت له ولدا، ووجد أباه قد أسماه أحمد. وحين يبدأ العام الدراسي الجديد يرجو محمد أباه أن يبقي زوجته وابنه عنده، حتى يستطيع أن يفرغ هو للمذاكرة؛ لأن الطفل سيجعل الأمر عسيرا عليه. ويحس أبوه في وخز الحديث، أنه تعجل في أمر زواجه، ويعود الضباب يتصاعد أمام عينيه، ويرحب بكنته وحفيده أن يقيما ما حلا لابنه أن يقيما.
ولا تشعر هنية من ذلك حرجا، بل إنها تحس نفسها أقرب إلى الحياة التي تحبها، فقد ضاقت بالقاهرة هذه الفترة التي أقامتها فيها، وكل هذا لم يمنع إحساسا واهنا في نفسها يلح عليها أن محمدا يريد أن يبتعد عنها، ولا تأبه كثيرا بهذا الإحساس فقد جاء أحمد، ولا مفر لمحمد من أحمد ومن أم أحمد.
الفصل الثالث والعشرون
كان حسين جالسا في حجرته حين جاءت مفيدة، وأغلقت الباب من خلفها. وبعد حين قالت: لم أعد أنا الوحيدة. - لا أفهم. - تعرف غيري.
ومسح حسين الدمعة المنحدرة عن عينه وقال: أنا؟! من قال هذا؟! - مثلي لا يفوتها هذا. - أبدا والله. - لا تحلف. إنك شيخ محترم. لا تحلف. - أحلف صادقا. - والله إن حلفت على المصحف ما صدقتك. - يا شيخة اعقلي. - اعقل أنت يا شيخ. تريد أن تلف علي أنا، وقد كنت قطة مغمضة، وفتحت أنا لك عينيك. - على فكرة، أين القطة؟ - القطة! وهل تسأل عليها؟ إنها هي الأخرى أحست أنك لم تعد تهتم بها، فتركتك إلى غيرك. - من غيري؟ - لا شأن لك. - وهل هي وحدها التي تركتني إلى غيري؟ - ومن غيرها. - لعلك أنت أيضا تفكرين في تركي. - أنا لا أترك صاحبي حتى وإن كنت أعرف أنه يلعب بذيله. - هل القطة عندك؟ - أتريدني أن أسلم لك عليها؟
وأطلقت ضحكة مجلجلة حتى لم يسمعا الطرقة الأولى على الباب.
وحين خفتت الضحكة سمعا الطرقة الثانية وانحبست أنفاسهما، وأرادت مفيدة أن تقوم عن السرير فأمسك بها حسين وأبقاها حتى لا يخرج السرير حسا. وعاد الطرق إلى الباب صافيا واضحا، وعاد الصمت إلى الحجرة أشد صفاء ووضوحا، وألح الطارق مرة ثالثة، ولم يسمع جوابا، وإن كانت الضحكة الأولى ما زالت أصداؤها ترن في أذنيه، حتى إذا يئس الحاج والي قال في نفسه اترك له فرصة أن يكون منفردا، ونزل السلم والضباب يغطي درجات السلم جميعا. ألهذا كان يربيه؟!
Bilinmeyen sayfa