فأطبقت على شفتيه مرة أخرى، وحين تركته قال مرة أخرى: حرام!
ونامت المرأة إلى جانبه، وهو لا يتوقف عن القول: حرام! - حرام ... حرام ... حرام.
أقام صلاة الفجر حاضرة ثم تناول إفطاره وراح يذاكر بعض الحين ثم لبس ملابسه ومد يده ليتناول العمامة؛ فأحس يده كأنها تريد أن ترتد عن العمامة دون أن تأخذها، حتى إذا استجمع قواه اختطف العمامة إلى رأسه؛ فأحس كأنها أطواق من حديد تضغط على رأسه حتى ليكاد رأسه ينفجر. ليست هذه هي العمامة التي يعهدها، لا ولا هي التي يتيه بها عجبا. ماذا دهى العمامة، ماذا ألم بها؟!
خلع ملابسه وعاد إلى الحمام مرة أخرى وراح يسكب مزيدا من الماء على جسمه. وانهمر الماء وانهمر حتى إذا خيل إلى حسين أنه يستطيع أن يلبس عمامته دون أن يضيق بها أو تضيق هي على رأسه؛ خرج من تحت الماء وعاد إلى غرفته. وقبل أن يجفف الماء عن جسمه انفرج الباب عن مفيدة، ولم يلبس حسين العمامة، لا ، ولا ذهب إلى الأزهر في يومه هذا.
لم تعد علوم الأزهر تعنيه، إنما كان يهتم بالشعر فيها فقط، وهو منذ عرف مفيدة أشد انصرافا عن العلوم الدينية. وكان يحس أنه غير متلائم مع ملابسه، ولا مع المستقبل الذي يعد نفسه له، حتى لقد أخذ يتجه بآماله إلى آفاق أخرى غير الأفق الذي كان قد رصد له حياته.
ولكنه مع ذلك مضطر أن يظل على عهده من لبس الجبة والقفطان والعمامة، وإن كان في داخل نفسه يخلع العمامة والجبة والقفطان. لم يعد يعنيه أن يقول شعرا في الصوفية، وإنما أصبح يعنيه أن يقول شعرا في أي شعر، فهو يقرأ، ويقرأ. وطاب له العيش مع مفيدة ومع آماله العريضة أن يصبح شاعرا، ولكن هاجسا ما يلبث أن يهجس في نفسه؛ ماذا يفعل به الحاج والي، إن هو اتجه إلى الشعر ولم يتجه إلى ما أراده لنفسه من تعليم ديني؟ وماذا يمكن أن يفعل الحاج والي؟ بل ماذا يمكن أن أفعل أنا إذا غضب علي الحاج والي؟ ضائع أنا شرير، ألتمس الرزق من غير أبي، بل من رجل لا تربطني به صلة إلا الفضل منه والفقر مني، ورغبته أن يفتخر أمام الناس أنه يغدق علي عطفه، ورغبتي أنا في أن أتعلم، وإن بذلت في سبيل ذلك كرامتي وماء وجهي.
وليس لي اليوم محيد عن التعليم الذي أخذته لنفسي، وإلا فأين أولي وجهتي من العلم؟ لات حين، لا بد أن أكمل تعليمي حتى أجد ما أقتات به وليفعل بي الحاج والي بعد ذلك ما يشاء، إنما بيني وبينه أن أنال شهادة، أي شهادة. لا، لا حاجة بي أن تكون شهادة العالمية، فماذا يمكن أن تكون إن لم تكن العالمية؟ وتدخل مفيدة وينقطع حسين عن التفكير.
الفصل التاسع عشر
فرغ الحاج والي من صلاة العصر، وتربع على السجادة، وراح يتمتم على مسبحته، وكان ابنه محمد جالسا أمامه، وراح الحاج ينظر إلى ابنه، بينما كان محمد مشغولا بالمذاكرة، وأحس محمد نظرات أبيه فالتفت إليه، والتقت ابتسامتان لا معنى لهما. وأطال الأب النظر إلى ابنه، وظل الابن رانيا إلى أبيه حتى انتبه أخيرا الحاج والي ونكس رأسه إلى السجادة؛ أيحرمني حتى من متعة النظر إليه، ما ضر لو تظاهر بأنه غير منتبه إلي، وأتاح لي فرصة أطول من النظر إليه؟! راحة وهدوء يشيعان في نفسي إذا نظرت إليه لا أدري لهما سببا.
وعاد محمد إلى المذاكرة، إنه في طريقه الآن إلى البكالوريا يتحسس طريقه إلى الشباب في خطى متعثرة، يحدوها شوق عارم لمجهول من الحياة.
Bilinmeyen sayfa