إذا رجع البصير إلى القياس الصحيح رأى في تشابه القوى الإنسانية وتماثل الفطرة البشرية ما يدل على تقارب العقول، بل على استواء المدارك، وأرشده الفكر السليم إلى أن فضل الله قد أعد كل إنسان للكمال، ومنحه ما يكون به مصدرا لفضائل الأعمال ، على تفاوت لا يظهر به الاختلاف بينها إلا للنظر الدقيق. هنا وقفة الحيرة ... استعداد فطري للكمال في خلقة الإنسان، ميل كلي في كل فرد لأن ينفرد بالفخار، ويمتاز بجلائل الآثار، وفضل عام من الجواد المطلق - سبحانه وتعالى - لا يخيب طالبا، ولا يرد سائلا، إذا صدق القاصد في قصده، وأخلص السالك في جده، فما العلة في إخلاد الجمهور الأعظم من بني الإنسان إلى دنيات المنازل وقصورهم عن الوصول إلى ما أعدته لهم العناية ويستفزهم إليه الميل الغريزي، خصوصا إن كانت النفوس مؤمنة بعدل الله، مصدقة بوعده ووعيده، ترجو ثوابا على الباقيات الصالحات، وتخشى عقابا على ارتكاب الخطيئات، وتعترف بيوم العرض الأكبر، يوم تجزى كل نفس بما كسبت
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (الزلزلة: 7-8)، ماذا يقعد بالنفوس عن العمل؟! ماذا ينحدر بها في مزالق الزلل؟! إذا ردت المسببات إلى أسبابها، وطلبت الحقائق من حدودها ورسومها وجدنا لهذا علة هي أم العلل ومنشأ يقرن به كل خلل: «الجبن».
الجبن هو الذي أوهى دعائم الممالك فهدم بناءها، هو الذي قطع روابط الأمم فحل نظامها، هو الذي أوهن عزائم الملوك فانقلبت عروشهم، وأضعف قلوب العالمين فسقطت صروحهم، هو الذي يغلق أبواب الخير في وجوه الطالبين، ويطمس معالم الهداية عن أنظار السائرين، يسهل على النفوس احتمال الذلة، ويخفف عليها مضض المسكنة، ويهون عليها حمل نير العبودية الثقيل، يوطن النفس على تلقي الإهانة بالصبر والتذليل بالجلد، ويوطئ الظهور الجاسية لأحمال من المصاعب أثقل مما كان، يتوهم عروضه عند التحلي بالشجاعة والإقدام، الجبن يلبس النفس عارا دون القرب منه موت أحمر عند كل روح زكية وهمة علية، يرى الجبان وعر المذلات سهلا، وشظف العيش في المسكنات رفها ونعيما.
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
لا، بل يتجرع مرارات الموت في كل لحظة، ولكنه راض بكل حال وإن لم يبق له إلا عين تبصر الأعداء، ولا ترى الأحياء، ونفس لا يصعد لا بالصعداء، وإحساس لا يلم به إلا ألم اللأواء. هذه حياته: أضاع كل شيء في القناعة بلا شيء، وهو يظن أنه أدرك البغية، وحصل المنية.
ما هو الجبن؟ انخذال في النفس عن مقاومة كل عارض لا يلائم حالها، وهو مرض من الأمراض الروحية، يذهب بالقوة الحافظة للوجود التي جعلها الله ركنا من أركان الحياة الطبيعية، وله أسباب كثيرة لو لوحظ جوهر كل منها لرأينا جميعها يرجع إلى الخوف من الموت، الموت مآل كل حي ومصير كل ذي روح، ليس للموت وقت يعرف، ولا ساعة تعلم، ولكنه فيما بين النشأة وأرذل العمر ينتظر في كل لحظة، ولا يعلمه إلا مقدر الآجال - جل شأنه:
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت (لقمان: 34).
يشتد الخوف من الموت إلى حد يورث النفس هذا المرض القاتل بسبب الغفلة عن المصير المحتوم، والذهول عما أعده الله للإنسان من خير الدنيا وسعادة الآخرة إذا صرف قواه الموهوبة فيما خلقت لأجله، نعم يغفل الإنسان عن نفسه فيظن ما جعله الله واقيا للحياة - وهو الشجاعة والإقدام - سببا في الفناء، يحسب الجاهل أن في كل خطوة حتفا، ويتوهم أن في كل خطوة خطرا، مع أن نظرة واحدة لما بين يديه من الآثار الإنسانية، وما ناله طلاب المعالي من الفوز بآمالهم، وما ذللوا من المصاعب في سيرهم؛ تكشف له أن تلك المخاوف إنما هي أوهام وأصوات غيلان، ووساوس شياطين، غشيته فأدهشته، وعن سبيل الله صدته، ومن كل خير حرمته.
الجبن فخ تنصبه صروف الدهر وغوائل الأيام؛ لتغتال به نفوس الإنسان، وتلتهم به الأمم والشعوب. هو حبالة الشيطان يصيد بها عباد الله ويصدهم عن سبيله، هو علة لكل رذيلة، ومنشأ لكل خصلة ذميمة، لا شقاء إلا وهو مبدؤه، ولا فساد إلا وهو جرثومته، ولا كفر إلا وهو باعثه وموجبه، ممزق الجماعات، ومقطع روابط الصلات، هازم الجيوش، ومنكس الأعلام، ومهبط السلاطين من سماء الجلالة إلى أرض المهانة، ماذا يحمل الخائنين على الخيانة في الحروب الوطيسة، أليس هو الجبن؟ ماذا يبسط أيدي الأدنياء لدنيئة الارتشاء، أليس هو الجبن؟ ربما تتوهم بعد المثال، فتأمل، فإن الخوف من الفقر يرجع بالحقيقة إلى الخوف من الموت، وهو علة الجبن، سهل عليك أن تعتبر هذا في الكذب والنفاق وسائر أنواع الأمراض المفسدة لمعيشة الإنسان، الجبن عار وشنار على كل ذي فطرة إنسانية خصوصا الذين يؤمنون بالله ورسله واليوم الآخر، ويؤملون أن ينالوا جزاء لأعمالهم أجرا حسنا ومقاما كريما.
Bilinmeyen sayfa