وهكذا، إذا استقريت جميع ما عده علماء التهذيب من الصفات الفاضلة؛ تجد أن من لوازم كل فضيلة منها التأليف بين المتصفين بها في متعلق الأثر الناشئ عن تلك الفضيلة، فإذا اجتمعت الفضائل أو غلبت في شخصين؛ مالت نفوسهما إلى الاتحاد والالتئام في جميع الأعمال والمقاصد أو جلها، ودامت الوحدة بينهما بمقدار رسوخ الفضيلة، وعلى هذا النحو يكون الأمر في الأشخاص الكثيرة، فالفضائل هي مناط الوحدة بين الهيئة الاجتماعية وعروة الاتحاد بين الآحاد، تميل بكل منهما إلى الآخر إلى من يشاكله حتى يكون الجمهور من الناس كواحد منهم، يتحرك بإرادة واحدة، ويطلب في حركته غاية واحدة.
مجموع الفضائل هو العدل في جميع الأعمال، فإذا شمل طائفة من نوع الإنسان وقف بكل من آحادها عند حده في عمله، لا يتجاوزه بما يمس حقا للآخر فيه يكون التكافؤ والتوازر، لكل شخص من أفراد الإنسان وجود خاص به، وأودعت فيه العناية الإلهية من القوى ما به يحفظ وجوده، وما به التناسل لبقاء النوع، وهو في هذا يساوي سائر أفراد الحيوان، لكن قضت حكمة الله أن يكون الإنسان ممتازا عن بقية الأنواع الحيوانية بكون آخر، ووجود أرقى وأعلى، وهو كون الاجتماع، حتى يتألف من أفراده الكثيرة بنية واحدة يعمها اسم واحد ، والأفراد فيها كأعضاء تختلف في الوظائف والأشكال، وإنما كل يؤدي عمله لبقاء البنية الجامعة وتقويتها وتوفير حظها من الوجود؛ ليعود إليه نصيب من عملها الكلي كما أودع الله في أعضاء أبداننا وبنيتنا الشخصية.
والفضائل في المجتمع الإنساني كقوة الحياة المستكملة في كل عضو ما يقدره على أداء عمله مع الوقوف عند حد وظيفته، كاليد بها البطش والتناول وليس من خصائصها الإبصار، والعين بها الإبصار وتميز الألوان والأشكال وليس من وظائفها البطش، والكل حي بحياة واحدة، وإن شئت قلت: الفضائل في عالم الإنسان كالجذبة العامة في العالم الكبير، فكما أن الجذبة العامة يحفظ بها نظام الكواكب والسيارات، وبالتوازن في الجاذبية ثبت كل كوكب في مركزه، وحفظت النسبة بينه وبين الكوكب الآخر، وانتظم بها سيره في مداره الخاص بتقدير العزيز العليم، حتى تمت حكمة الله في وجود الأكوان وبقائها؛ كذلك شأن الفضائل في الاجتماع الإنساني، بها يحفظ الله الوجود الشخصي إلى الأجل المحدود ويثبت البقاء النوعي إلى أن يأتي أمر الله.
أي أمة يكون الواضع فيها والرافع، والحارث والوازع، والجالب والدافع، وجميع من يدير أمورها، ويسوسها في شئونها إنما هم أفراد منها، من هاماتها أو من لهازمها «من الأعلياء والأوساط، بل سائر الأطراف» ويكون كل واحد منها قائما بحق الكل، ولا يختار مقصدا يعكس مقصد الكل، ولا يسعى إلى غاية تميل به من غاية الكل، ولا يهمل عملا يتعلق بالأمة، حتى يكون الجميع كالبنيان المتين لا تزعزعه العواصف ولا تدكه الزلازل، وبقوة كل منهم يجتمع للأمة قوة، تحفظ بها موقعها، وتدفع بها عن شرفها ومجدها، وترد غارة الأغيار عليها، فهي الأمة التي سادت فيها الفضائل، واستعلت فيها مكارم الأخلاق.
إن أمة هذا شأنها لا يتخالف أفرادها إلا للتآلف، ولا يتغايرون إلا للاتحاد، فمثلهم في اختلاف أعمالهم كمثل المتدابرين على محيط دائرة يتفارقان في مبدأ السير ليتلاقيا على نقطة من المحيط، ومثالهم في تغاير مأخذهم لجلب منافعهم كجاذبي طرفي خيطة واحدة - حبل واحد - كل آخذ بطرف، مع تعادل القوتين، ففي جذب أحدهما لصاحبه إبعاد لنفسه عنه من وجه، وحفظ لمكان قربه منه من وجه آخر ، فلا يفترقان ولا يتباينان، ولا تفنى منفعة أحدهما في منفعة الآخر، أما إن مسالك الأفراد من مثل هذه الأمة بما منحوه من الارتباط بينهم كأنصاف دائرة مركزها حياة الأمة وعظمتها، ولا يخرج ولا واحد منهم عن محيط الجنسية، وإنهم في جلب منافعها واستكمال فوائدها كالجداول تمد البحر لتستمد منه.
يرى كل واحد منهم أن ما تبتهج به النفوس البشرية وتمتاز بالميل إليه عن سائر الحيوانات من رفعة المكانة والغلب وبسط الجاه ونفاذ الكلمة؛ إنما يمكن إذا توفر للأمة حظها من هذه المزايا فيسعى جهده لإبلاغ كل واحد من الأمة أقصى ما يؤهله استعداده ليأخذ بسهم مما يناله، فلا يهمل ولا يخون في الدفاع عن فرد من أفرادها، فضلا عن هيئتها العامة، وإلا فقد خان نفسه؛ لأنه أبطل آلة من آلات عمله، وقطع سببا من أسباب غايته، ولا يحتقر واحدا من الآحاد، ولا يزدري بعمله، ويحسب الشخص من الأمة - وإن كان صغيرا - بمنزل مسمار صغير في آلة كبيرة، لو سقط منها تعطلت الآلة بسقوطه.
عليك أن تنظر في حقائق الصفات لتحكم بما ينشأ عنها من الأثر الذي بيناه: التعقل والتروي وانطلاق الفكر من قيود الأوهام، والعفة والسخاء والقناعة والدماثة (لين الجانب)، والوقار والتواضع وعظم الهمة، والصبر والحلم والشجاعة والإيثار (تقديم الغير بالمنفعة على النفس)، والنجدة والسماحة والصدق والوفاء والأمانة، وسلامة الصدر من الحقد والحسد، والعفو والرفق والمروءة والحمية وحب العدالة والشفقة.
ألا ترى لو عمت هذه الصفات الجليلة أمة من الأمم أو غلبت في أفرادها لا يكون بينها سوى الاتحاد والالتئام التام؟ هل يوجد مثار للخلاف والتنافر بين عاقلين حرين، صادقين وفيين، كريمين شجاعين، رفيقين صابرين، حليمين متواضعين، وقورين عفيفين رحيمين؟ أما والله لو نفخت نسمة من أرواح هذه الفضائل على أرض قوم وكانت مواتا لأحيتها، أو قفرا لأنبتتها، أو جدبا لأمطرتها من غيث الرحمة ما يسبغ نعمة الله عليها، ولأقامت لها من الوحدة سياجا لا يخرق، وحرزا منيعا لا يهتك، وإن أولى الأمم بأن تبلغ الكمال في هذه السجايا الشريفة أمة قال نبيهم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.» الفضيلة حياة الأمم؛ تصون أجسامها عن تداخل العناصر الغريبة، وتحفظها من الانحلال المؤدي إلى الزوال
وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون .
وأما الرذائل فهي كيفيات خبيثة تعرض للأنفس، من طبيعتها التحليل والتفريق بين النفوس المتكيفة بها، كالقحة (قلة الحياء) والبذاء (التطاول على الأعراض بما لا تقتضيه الحشمة والأدب من الكلام)، والسفه والبله، والطيش والتهور، والجبن والدناءة والجزع، والحقد والحسد، والكبرياء واللجاج والسخرية، والغدر والخيانة والكذب والنفاق، فأي صفة من هذه الصفات تلوث بها نفسان ألفت بينهما العداوة والبغضاء، وذهبت بهما مذاهب الخلاف إلى حيث لا يبقى أمل في الوفاق؛ فإن طبيعة كل واحدة منها إما مجاوزة الحدود في التعدي على الحقوق، وإما السقوط إلى ما لا يمكن معه للشخص أداء الواجب عليه لمن يشاركه في الجنسية أو الملة أو القبيلة أو العشيرة أو بأي نوع من أنواع التعامل.
Bilinmeyen sayfa