الفصل السابع والستون
الثبات الثبات
حملت قوة الثائرين على مدينة بربر فافتتحتها بعدما فتكت بجميع حاميتها ولم يبق موضع للريب في استيلاء أعوان محمد أحمد على تلك المدينة، وبعد تمكنهم فيها زحف منهم ثلاثون ألفا لمهاجمة دنقلا، وفي برقية من كورسكو إلى التايمس بتاريخ 13 يونيو أن محمد أحمد يزحف بنفسه مع خمسة وثلاثين ألفا لفتح دنقلا وله أمل في الفوز قبل أن يهل رمضان، وقد بعث برقيم إلى مديرها وسماه أميرا عليها سنة السلطنة فيها مع ما يليها.
وانقطع الطريق بين دنقلا ووادي حلفا وامتنع سلوكها، وأيست الحكومة المصرية من صيانة تلك المدينة فأصدرت أوامرها بتمهيد سبيل لرجوع حاميتها إلى مصر، وشعرت حكومة إنجلترا بتعاصي الفتنة فعملت على إرسال نجدة لإمداد حامية الخرطوم، كما أكدته جريدة «المورننج بوست» الإنجليزية قنوطا من نجاحها، وعثمان دجمة يشتد عضده يوما بعد يوم وله في كل ليلة هجمات على مدينة سواكن بل وعلى بعض المراكب في البحر.
أخبار ما نزل ببربر وما يتوقع نزوله بدنقلا وغارة الثائرين على معسكرات الحكومة في وادي حلفا؛ كل ذلك أحدث اضطرابا شديدا في أسوان، وهيجانا في خواطر الكافة من أهل الصعيد، وربما يخشى من وقوع ما لا تحمد عاقبته على الناكثين.
هذه مرابك الإنجليز في مصر، وهم في أوحالها لا يفترون عن السعي إلى ما يثبت قدمهم فيها، وجاء في برقية إلى وكالة هافاس أن الجند المصري دخل بأسره تحت إمرة الجنرال إستفانوس (قائد جيش الاحتلال الإنجليزي) فصار الجنرال كأنه وزير الحربية وتحول الجند الوطني إلى إنجليزي وجيش الاحتلال إلى حامية مصرية.
ثم هم يسعون لإلزام توفيق باشا بنصب ثلاثة مفتشين من الإنجليز، أحدهم في القاهرة والثاني في مصر السفلى (مفتش وجه بحري) والثالث في مصر العليا (مفتش وجه قبلي)، على أنهم لا يعزلون إلا بأمر من إنجلترا، فتنقلب الإدارة إنجليزية محضة لا يبقى فيها لحكام مصر إلا نهاية حال الذليل الامتثال والطاعة.
تصرفوا في الأراضي المصرية العثمانية تصرف المالك فمنحوا منها بقاعا وفرضا على البحر لملك الحبشة، وحالفوه على أن يسوق جيشا ينازل المسلمين في أراضيهم، رجاء تذليلهم وإخماد أنفسهم، وفي أثناء هرولتهم إلى مطامعهم يثيرون في أعين الدول غبارا، ويرفعون جلبة، ويصيحون بأن لا غرض لنا إلا إقرار الراحة وإعادة النظام، ويقيمون الحجة على إخلاصهم برغبتهم إلى الدول في مساعدتهم على حل بعض المشكلات المالية، مع أنهم لا يرغبون عقد المؤتمر إلا لينالوا منه ما يزيد قدمهم رسوخا في مصر.
وعلموا أن لفرنسا مصلحة في مناوأتهم فطفقوا يهددونها بالتحالف مع ألمانيا أو التقرب إليها إن لم تتساهل معهم؛ ليحملوها بالتهديد على الرضاء بإبقاء عساكرهم في مصر إلى سنة 1888 تحت اسم إقرار الراحة، على شرط أن لا يكون بعد مدة إلا بإجماع جميع الدول التي يكون لها نواب في المؤتمر، بحيث لو وافقهم إحداهن على إطالة المدة فيما بعد لكفى في تمديد الأجل أو إطلاقه.
وليس بخاف ما يقصدون من هذا الشرط؛ فإنهم يعلمون في اختلاف مصالح الدول وتضارب السياسات ما لا يعدمون معه وسيلة لإرضاء دولة واحدة في زمن من الأزمان بالموافقة على مد الأمد، ولا نخال دولة فرنسا يقف نظرها دون هذا الحجاب الرقيق وهو يشف عن ملم عظيم لا تسلم منه مملكة من ممالكها في المشرق، ولا نظنها تذعن لقبول هذا الشرط، وإن قبلته دولة لا مصلحة لها في مصر ولا يهمها إلا معاكسة فرنسا.
Bilinmeyen sayfa