147

صفقة خاسرة

كتب إلينا صديق فاضل من أخلص المؤمنين بالقطر المصري، قال:

إن مأموري الإنجليز الآخذين بزمام بعض الوظائف المصرية لا يزالون يسعون في تغرير الأهالي والتحيل عليهم ودس الدسائس بينهم بطرق مختلفة من الترغيب والترهيب، كل ذلك ليرضوهم بطلب الحماية الإنجليزية، إلا أن أولئك الأبالسة لا يلاقون في سعيهم إلا خيبة؛ لأن العلماء وأعيان البلاد قد أحاطوا بغايات الإنجليز ومقاصدهم، وعلموا أنهم لا يقصدون بالبلاد إلا الشر، كما لم ينلها من حلولهم إلا الضر، خصوصا وأن روح الحمية والغيرة الدينية والوطنية صار لها السلطان الأعظم على نفوس أهالي القطر المصري، فاشتدت أنفتهم من تسلط الإنجليز في ديارهم، وقاوموا مطالبهم بعزائم ثابتة وقلوب غير واجفة.

وهذا هو ظننا - بل يقيننا - في أبناء القطر المصري، علمائهم وأمرائهم وحكامهم وأعيانهم وأوساطهم بل وسائر طبقاتهم؛ أن لا تسمح نفس واحد منهم بمجاراة الإنجليز رغبتهم، وأن لا يطمئن قلبه بالدخول تحت سيادتهم، بل ببقاء شخص منهم في بلاده وعلى مرمى نظره، فإن وجد بينهم شخص يتخذ إلهه هواه ويميل مع الباطل فهو ممن يعرف المصريون سيرته في إفناء ليله وأطراف نهاره فلا يثقون به، ومما أخبر به الصادق أن كليفور لويد يجتهد لتسليم رئاسات البلاد إلى أناس من طبقة يتوهم فيها سقوط الهمة وسخافة الرأي؛ ليتمكن بهم من إجراء بعض مقاصده، لكن لم يتسن له نجاح، ولئن نجح في تحويل الرئاسات من نصابها فلا يلاقي ممن يسلمونها إلا مثل ما لاقى من غيرهم، فإن الجميع مصريون يفضلون ظلم أبناء وطنهم على عدل الأجنبي ، فكيف لو كان الأجنبي لا يقاس بظلمه ظلم.

ثم قال صديقنا الفاضل : «زاد الويل أضعافا على الأهالي بالمجالس المحلية؛ فإن الإنجليز لم يراعوا في تشكيلها مصلحة الرعية، وإنما وضعوا في جوهرها ما يضيق عليها سبل المعاملة إخمادا لنفوسها لينالوا حظهم من السيادة عليها ولم يعلموا أن بخس الحقوق من أشد موجبات العقوق، وفي الأمثال العربية: «زر كلبك للطاق يأكلك» أي ضيق عليه، أما الفلاحون فأحوالهم سيئة، ضيق وضنك وفقر وإعدام مما يفتت الأكباد ويذيب القلوب ويفطر الجماد.»

الحكومة مضطرة لطلب الأموال وملجأة إلى تكليف الفلاحين بدفع ما عليهم، والأجانب قائمون على اقتضاء ديونهم منهم، والكساد ورخص أسعار الحبوب وثمرات الزراعة لم يجعل في المحصولات وفاء بضرورات المعيشة فضلا عن أداء المطلوبات، فكيلة القمح بستة قروش والذرة بأربعة، وعلى هذا يقاس، ومن ثم تسمع كل يوم تنعاب أغربة الدلالين في فناء ديوان الحقانية على خراب بيوت الفلاحين، هذا ينادي على بيع أراضيه بأسرها وهذا ينعق عليه بمبيع بعضها، والآخر بالحجر على أملاكه، والحكومة لا تني في طلب ضرائبها قبل أوان المحصولات.

أما أحوال المدن فليس بأسعد من أحوال الأرياف، خصوصا من تعديات الأجانب على سكانها، فالمنازعات والمخاصمات بين الأجانب والوطنيين يقضى فيها على الوطني بالتغريم والجزاء ولا يؤخذ على الأجنبي في شيء، وإن كان هو المعتدي! وإن سأل الوطني: أين خصمي؟ فيقال له: إنه يحاكم في محل آخر مع أنه لم يذهب إلى مقام المحاكمة رأسا واكتفي في فصل الدعوى بأحد الخصمين، وهو طرز من الحكم جديد. هذا بعض آثار العدالة الإنجليزية.

وجاء في خبر صديقنا هذا رواية كثير من المظالم التي أصيب بها أهل القرى من جراء التداخل الإنجليزي في إدارات الحكومة، ضربنا عن ذكرها؛ رعاية لجانب الاختصار بعد وضوحها عند أولي الأمر من المصريين، أما الأمن فلم يبق له أثر، وأما النظام قد انقض بناؤه واقتلع أساسه واختزن الإنجليز أنقاضه في خزائن الآثار القديمة، فقويت عصابات اللصوص وجاهروا بالنهب والسلب، وهذا خبر تؤكده روايات الجرائد الوطنية المصرية عربية وإفرنجية ؛ فإن جميعها يشتكي الملل والسآمة من رواية أخبار السوء كل يوم.

إلا أن من غريب الوقائع هجوم لفيف من السارقين على قرية نشرت ونواحيها من مديرية الغربية وقتلهم واحدا وأربعين رجلا؛ فإن خبر هذه الواقعة - إن صح - كان دليلا على بلوغ الاختلال إلى درجة فوق ما كنا نتصور - نسأل الله السلامة، كما نسأله إبدال عسر المصريين باليسر، وهو على كل شيء قدير.

الفصل الرابع والخمسون

Bilinmeyen sayfa