ذخائر التراث العربي
عنوان الدراية
فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية
تأليف
أبو العباس الغبريني
أحمد بن أحمد عبد الله
(٦٤٤هـ - ٧١٤هـ)
حققه وعلق عليه
عادل نويهض
ليسانس ودبلوم صحافة
رئيس مصلحة الصحافة والنشر (سابقا) في الجزائر
منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت
Bilinmeyen sayfa
الطبعة الثانية
نيسان - (أبريل) ١٩٧٩
1 / 3
كلمتنا
كتاب "عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية" للعلامة المؤرخ المحقق الشيخ أبي العباس الغبريني، من أهم المصادر التاريخية في المكتبة العربية عن الحياة العلمية في القرن السابع الهجري في بجاية، بالمغرب الأوسط، وسجل حافل بتراجم عشرات العلماء والمؤرخين والأدباء والشعراء وغيرهم ممن عرفتهم المدينة من مشاهير أعلام الجزائر وتونس والمغرب والأندلس.
وقد نشر هذا الكتاب لأول مرة في مدينة الجزائر سنة ١٩١٠ بعناية الأستاذ محمد بن أبي شنب.
و"دار الآفاق الجديدة" التي قدمت للعالمين، العربي والإسلامي، أنفس ما في تراثنا من مؤلفات، يسرها اليوم، أن تقدم هذا الكتاب في طبعة جديدة، أشرف على تحقيقها والتعليق على أصولها تعليقات وافية، الأستاذ عادل نويهض، فجاءت ضعف الكتاب الأصلي.
وفقنا الله، وأخذ بيدنا لما فيه خير العرب والمسلمين.
الناشر
1 / 5
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
بجاية مدينة مشهورة بالمغرب الأوسط، تقع شرقي الجزائر على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، اختطها سنة ٤٦٠ هـ الناصر بن علناس أشهر ملوك الدولة الحمادية وأعظمهم شأنا، ثم اتخذها عاصمة ملكه وسماها الناصرية باسمه.
بلغت بجاية- في عهد الحماديية- درجة كبيرة من التقدم والعمران، واحتلت مكانة مرموقة بين حواضر العلم في المغرب والمشرق، فأمها الكثير من علماء مصر والشام والأندلس، فانتعشت الثقافة العربية وازدهرت الحركة العلمية، حين قيل إن عدد المفتين فيها بلغ تسعين مفتيا في زمن واحد.
وبنهاية دولة بني حماد (٥٤٧هـ) على أيدي الموحدين، ودخول المغرب الأوسط تحت نظام الحكم الجديد، أخذت بجاية تفتح صفحة جديدة من صفحات تاريخها الثقافي والسياسي والعمراني والعلمي. ففي هذا العصر، أصبحت معقلا من أهم معاقل الحركة العقلية التي عرفها الشمال الافريقي، ينتقل إليه عشاق الأدب وطلاب العلم والمعرفة من مختلف المدن والقرى ... وقبلة تهوى إليها أفئدة المسلمين من بلاد الأندلس غربا إلى أصفهان في بلاد العجم شرقا، فاستهوت ألباب عدد غير قليل من مشاهير العلماء ومدرسي العلوم وأهل الفتوى والقضاء الأندلسيين والتونسيين والليبيين، كعبد الحق الاشبيلي وابن سيد الناس اليعمري وأحمد بن خالد المالقي وغيرهم، فزاروها وأقاموا بها واتخذوها وطنا. كما نبغ في هذا العصر عدد من العلماء والشعراء والكتاب الجزائريين الذين نشأوا في المدينة أو أخذوا عن شيوخها.
1 / 7
دام حكم الموحدين للمغرب الأوسط ما يقرب من قرن (٥٣٩ - ٦٣٣هـ)، ثم تلاهم الحفصيون، وكانت مدينة بجاية هي عاصمة الجزائر الحفصية في هذا العهد.
وكتاب "عوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية" الذي صنفه فقيهها وقاضيها ومؤرخها أبو العباس الغبريني، وترجم فيه لأكثر من مائة وأربعين من رجال القرن السابع الهجري- وأكثرهم عاصر العهدين، الموحدي والحفصي- يعد أحفل سجل عن هذه الحقبة الذهبية التي عرفتها المدينة الإسلامية العربية، ففيه يتبين للقارىء ما كان لهذه المدينة من الصلات الوثيقة مع مراكز الحركات الثقافية في العالم الإسلامي، ومدى أثرها في الانتاج الأدبي من نثر وشعر وتاريخ ... وفي العلوم الدينية من فقه وأصول وتصوف. الخ.
ولما كانت المكتبة العربية- وما تزال- في حاجة إلى بعث مثل هذا التراث النفيس الذي يبين عن أمجادنا في مختلف المجالات العلمية، وقع اختياري عليه ليكون أول كتاب أقوم بنشره من سلسلة كتب التراث الجزائري التي عقدت العزم على تحقيقها وطبعها.
واليوم إذ أقدم هذا الكتاب للقارئين العرب في أبهى حلة، بعد أن حققت أصوله وعلقت عليها حيث وجب التعليق، وترجمت لأعلامه المذكورين في متنه، أرجو أن يرضي رغبات المثقفين من أبناء هذه الأمة، ويقع موقع الرضى والقبول من الباحثين والدارسين والمؤرخين. كما أرجو أن أكون بعملي المتواضع هذا، قد أسديت للمكتبة الجزائرية بخاصة، والمكتبة العربية بعامة، يدا تذكر بالخير كلما ذكر العاملون في سبيل إحياء تراثنا. وقد بدأت عملي بتقديم المؤلف والكتاب إلى القراء ليكونوا على بينة من الرجل وكتابه قبل أن يقرأوه من بابه إلى محرابه.
1 / 8
المؤلف
عقد غير واحد من المؤرخين المغاربة ترجمة للغبريني. أما في المؤلفات المشرقية فذكره لم يرد إلا في معاجم المؤلفين والمطبوعات. والذي بلغنا من خبره مما كتب عنه، ما ملخصه:
إسمه ونشأته:
هو أحمد بن أحمد (١) بن عبد الله بن محمد بن علي الغبريني، وكنيته أبو العباس، وقد غلبت عليه شهرته الغبريني، نسبة إلى " بني غبري" بطن من قبائل الأمازيغ "البربر" في المغرب الأوسط. وكان ميلاده في اواسط المائة السابعة سنة ٦٤٤ - ١٢٤٦م.
أما نشأته الأولى فقد كانت في موطن عشيرته الكائن في ضواحي أعزازقه في أعلى وادي سباو بالقرب من مدينة بحاية.- وقيل في بجاية بالذات-.
تعليمه:
انطلق منذ صغره نحو العلم فانكب على حفظ القرآن، وعلوم الفقه والتفسير والحديث والعربية والمنطق وغير ذلك من فنون العلم التي كانت سائدة في عصره، حتى بلغ عدد شيوخه الذين أخذ عنهم نحو السبعين شيخا. ومن خلال نظرة عجلى نلقيها على أسماء الكتب والفنون التي قرأها على هؤلاء الاعلام
_________
(١) كذا ورد اسمه في مقدمة الطبعة الأولى التي كتبها الاستاذ محمد بن أبي شنب وفي خاتمة الكتاب، وفى أكثر كتب التراجم والسير. أما في "الوفيات" لابن قنفذ القسنطيني ص: ٣٥، ولقط الفرائد - خ- لابن القاضي المكناسي فهو فيهما أحمد بن محمد.
1 / 9
من شيوخ المغرب الاوسط " الجزائر" والأندلس، وافريقية "تونس" المذكورة في " برنامجه " الملحق في نهاية هذا الكتاب، ندرك كم بذل الرجل من جهد من أجل الحصول على المعرفة من مصادرها المختلفة.
في الحياة العامة:
اتفق المؤرخون وكتاب السيرة المغاربة على أن الغبريني ولي القضاء بمواضع عدة، آخرها مدينة بجاية، "فكان في حكمه شديدا، مهيبا ذا معرفة بأصول الفقه، وحفظ لفروعه، وقيام على النوازل، وتحقيق للمسائل (١).
ولكن ليس لدينا في كتب التاريخ والسير سند يركن إليه عن حياة الغبريني قبل ولايته لخطة القضاء، غير أن النباهي أورد جملة في ترجمته الوجيزة له، تعيننا عل الكشف عن تلك المرحلة من حياته.
يقول النباهي: "ولما ولي خطة القضاء، ترك حضور الولائم، ودخول الحمام، وسلك طريق اليأس من مداخلة الناس" (٢).
وبناء على ما تقدم، ترانا محمولين للقول، أن الغبريني قد عاش في غمرة الاحداث التي مرت ببجاية بخاصة، وعلى المغرب الأوسط بعامة، فكان على اتصال بالمسؤولين وغيرهم من رجال الدولة، يجالس الكبراء، ويناقش الحكام، ويدلي برأيه في المسائل الهامة. ولا يبعد أن يكون قد لعب دورا في سياسة بلده، فقد كانت السياسة من مستلزمات من هم في منزلة الغبريني وجاهة وعلما ودراية.
أما كلام النباهي حول زهد الغبريني بعد ولايته للقضاء، فتؤيده شواهد كثيرة من كلام الغبريني نفسه في ثنايا هذا الكتاب. فبالرغم عما اشتهر به
_________
(١) قضاة الاندلس لأبي الحسن النباهي ص: ١٣٢.
(٢) قضاة الاندلس ص: ١٣٢.
1 / 10
الرجل من إحاطة واسعة بثفافة وعلوم عصره، إلا أنه قد تأثر إلى حد كبير بسلوك فئة قليل من شيوخه من الزهاد والمتصوفين، المؤمنين بقدرة قيام بعض الناس بعمل المعجزات والخوارق، فآمن مثلهم وسلك سبيلهم، ثم عمد إلى تسجيل ما سمع منهم من قصص لا يقبلها عقل، ضمن إطار من التهليل والتكبير، بالاضافة إلى توبيخ المعرضين عنها والمنكرين لها وانذارهم بسوء العاقبة والمصير في الحياة الدنيا والآخرة.
وإذا علمنا أن الغبريني ألف معظم كتابه في السنوات الأخيرة من حياته، وبعد أن، سلك طريق اليأس من مداخلة الناس، أدركنا مدى أثر بعض هؤلاء الشيوخ في نفسه وعلى تفكيره وحياته .. ولعل قوله- بعد ان سرد قصة من هذه القصص- "وقد يقع في هذا انكار من ملحد لا علم له، وحقه الإعراض عنه وعدم الالتفات إليه، وإن زاد فيصفع في وجهه عوضا عن قفاه، كما جمع الله له الخزي في أولاه وآخراه" (١). لعل هذا القول أصدق برهان على صحة ما ذكرناه.
وهذه اللوحة البسيطة التي رسمناها لفترة من حياة الغبريني، تنطبق على غيره أيضا، فالرجل لم يكن أول المؤلفين في هذا الميدان. إنما سبقه بعض من ترجم لشيوخه وأتى على ذكر مثل هذه القصص والدعوة إلى تصديقها والايمان بها. ثم جاء بعده آخرون وساروا على نفس الطريق. ولا أكون مغاليا إذا قلت: أن في العالم الإسلامي وفي يوم الناس هذا، يوجد من يكتب مثل هذه القصص في مؤلفاته، إلا أننا نؤمن، أن هؤلاء المعاصرين الذين يقومون بهذا العمل، لا يقومون به عن إيمان خالص أو لوجه الله والوطن، إنما عن قصد سيء ونية خبيثة، ولوجه غير وجه الله والوطن. وهم يعلمون أن الإنسان العربي في هذا العصر، مهما كان مذهبه أو دينه الذي ينضوي تحت لوائه، يفحص ويحلل ويقارن دون أن تتغلب عليه رهبة التقديس، وأنه لا يستطيع تصديق مثل هذه القصص أو قبول نظرتها للحياة والفكر والوجود. ولذلك نجدهم يزرعون
_________
(١) راجع الترجمة رقم ٥
1 / 11
هذه الأشواك في الأماكن البعيدة عن التقدم والعمران، ويبتعدون عن مواطن العلم ومراكز التثقيف.
أما شيخنا الغبريني، الذي وقع تحت رهبة التقديس، شأنه شأن الكثيرين من رجالات الدين القدماء في العالم الإسلامي، الذين جنت عليهم شطحاتهم إلى حد الاغراق والمبالغه، التي يحانبها الإبداع الفكري، فإنه لم يكتف بسرد وتسجيل القصص التي اعتقد أنها حدثت في عصره، إنما عاد إلى الكتب القديمة المحشوة بمثا هذه القصص، ونقل مجموعة منها ثم جعل واحدة ذيلا لقصة من قصص بعض شيوخه، كأنه يقول لقارئه- وقد رأى عليه ملامح الشك- إن لم تصدق الحاضر فدونك حكايات من الماضي، أو بمعنى آخر، أراد- وهو الخبير بشؤون القضاء- أن يكثر من الأدلة والبينات التي تؤيد وجهة نظره، ويجعل منها حجة قوية في يده ضد خصمه الذي لا يؤمن بصحة مثل هذه القصص والحكايات ولا يصدقها؛ فسجلها في كتابه.
أسلوبه:
لا نعتقد أن الغبريني ترك من المؤلفات غير "عنوان الدراية" فلا هو نفسه ولا الذين ترجموا له أو أرخوا لعصره، ذكروا غير هذا الكتاب. ولذا نستطيع أن نحكم على أسلوبه النثري من خلال مضمون كتابه الوحيد.
تأثر الغبريني تأثرا قويا بالسجع، فلازمه في كتابه من عنوان الكتاب نفسه إلى آخر سطر من سطور صفحاته. كما أنه أغرم بالجمل القصيرة والتزيينات اللفظية. فعمد في كل ترجماته إلى صيغ وعبارات تكاد تكون واحدة في الأسلوب. فعبارة " الفقيه المجتهد المحصل المتقن" مثلا، وكذلك عبارة "الفقيه الصالح الزاهد الورع" نجدها وصفا أطلقه المؤلف على المترجم لهم دون تمييز أو تفريق بين أديب وشاعر ومحدث ومؤرخ، وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، إذ من غير المعقول، أن يكون جميع الأشخاص على مستوى واحد في المعلومات
1 / 12
أو على درجة واحدة من الذكاء والاجتهاد والشاعرية و... الخ.
إن هذه الكلمات والنعوت والأوصاف العامة كثيرة في كتاب الغبريني، وما أبرز ما يلفت النظر فيه .. وقد يكون التزام المؤلف وتقيده بها معقولا، فيما لو اعتمد على وضع كل وصف أو نعت في مكانه اللائق به أو اللازم له. ولكنه لم يفعل.
نظمه:
من خلال محاولة نقوم بها لجمع التراث الجزائري، علمنا أن للغريني بعض القصائد والأبيات الشعرية لا تزال مخطوطة في مكتبات المغرب الأقصى، وحيث أنها لم تصل إلينا بعد لنتحقق منها، لا يمكننا الجزم بأنها له، فقد تكون نسبت إليه. ولم نجد له في المصادر التي أهتمت بحياته ووضعته في عداد المؤرخين سوى بيتين من الشعر ذكرهما النباهي هما:
لا تنكحن سرك المكنون خاطبه ... واجعل لميته بين الحشا جدثا
ولا تقل نفثة المصدور راحته ... كم نافث روحه من صدره نفثا
ونفهم مما ذكره هو نفسه من خلال ترجمته لأبي زكريا يحيى بن محجوبة السطيفي المتوفي سنة ٦٧٧ هـ، أنه قال الشعر في شبابه. فهو يقول: "وكنت في زمن الشباب نظمت القصيدة الصوفية الهمزية التي مطلعها:
واحيرة العشاق بالرقباء ... حرموا الوصول لطيبة الوسعاء
وهي نحو أربعين بيتا، فحملتها إليه (إلى السطيفي) وأنشدتها بين يديه، ففرح بها غاية الفرح وجعل يدعو ويقول: بصرك الله لمعانيها واطلعك الله على ما فيها، لأن الحال كان حال شبيبة، فاعتقد الشيخ ﵀ أن ما أتيت به فيها إنما هو على سبيل الصناعة لا على سبيل الاطلاع والشهود. والله يؤتي الفضل من يشاء .. " فهل تكون هذه القصيدة من ضمن القصائد المخطوطة والموجودة
1 / 13
في المغرب؟ سيبقى السؤال دون جواب، لأن الخبر اليقين يكمن في المخطوطات. وهذه لا سبيل إليها الآن، ويوم يقدر لها أن ترى النور، نتحقق من شعره ونضعه في كفة الميزان.
وفاته:
أجمع أكثر المؤرخي على أن الغبريني قد توفي بمدينة بجاية سنة ٧١٤هـ، ١٣١٥ م. نتيجة لإصابته بالطاعون. غير أن إبن قنفذ القسنطيني في كتابه "الوفيات" وابن القاضي في كتابه "لقط الفرائد" الذي وضعه ذيلا لكتاب ابن قنفذ، والنباها في "المرقبة العليا" ذكروا أن وفاته كانت سنة ٧٠٤هـ. ونحن استنادا لما ذكره الاستاذ محمد بن أبي شنب في الطبعة الأولى، ولما ذكره المؤرخون المغاربة عن سيرة الرجل، نقلا عن مخطوطات قديمة، نؤكد أن التاريخ الأول هو الصحيح.
هذا الكتاب وقيمته التاريخية:
ترك كثير من مشاهير الجزائريين مصنفات أسماها بعضهم بـ "الثبت" وأسماها البعض الآخربـ"البرنامج" أو " المشيخة"، ذكروا فيها أسماء العلوم التي أخذوها عن معاصريهم من علماء الفقه والحديث والتفسير واللغة والأدب والتاريخ وغيرها، كما ترجموا فيها لهؤلاء العلماء الأعلام. وهذه الكتب أو المصنفات وإن كانت لا تدخل في عداد كتب التراجم والسير بمفهومهما العلمي، إلا أنها حفظت لنا صفحات مجيدة عن حياة مشاهير المغرب الأوسط ابتداء من القرن الثالث الهجري، وأعطتنا صورة واضحة المعالم عن الحياة العقلية في عصر كل مؤلف من هؤلاء المؤلفين، يضاف إليها تلك المؤلفات التي وضعها الجزائريون خارج حدود وطنم وذكروا فيها أسماء من أخذوا عنهم أو سمعوا منهم من أعلام المشرق العربي وبعض الأقطار الإسلامية، والتي تبين لنا مدى إهتمام الجزائريين الأوائل بالعلم والحج إليه حيث كان .. ككتاب "نظم اللآلي في سلوك الأمالي" للمقري الجد، و" ثبت الندرومي" لمحمد بن محمد
1 / 14
بن يحيى الندرومي. وهذا الكتاب الأخير وصل إليا مخطوطا ... ذكر فيه مؤلفه من أخذ عنهم من علماء الحديث في بيت المقدس ودمشق ومكة المكرمة والقاهرة المعزية، أمثال صلاح الدين العلائي الدمشقي ومحمد بن محمد الربيعي المتوفي ببيت المقدس، وسليمان بن سالم الغزي والإمام اسماعيل بن عمر بن كثير وغيرهم.
إنما ميزة كتاب "عنوان الدراية" عن غيره من كتب التراجم والسير، هي الشمول في التعريف بغير شيوخ المؤلف، وتسجيله لبعض الأحداث التاريخية، وإثباته لبعض النماذج الشعرية والنثرية المنسوبة للمترجم لهم ... زد على ذلك، أنه حفظ لنا صورة صادقة عن الحياة العقلية في مدينة بجاية في مدة قرن كامل، عكست لنا ما كان لهذه المدينة الخالدة من أثر يذكر في تنمية وإنتاج مختلف العلوم الإسلامية، ومدى صلاتها الوثيقة التي كانت تربطها مع مراكز النهضة العلمية الإسلامية في المغرب والمشرق. ولولا هذا الكتاب لظلت أكثر هذه الصفحات من تاريخ الحركة العلمية الجزائرية مجهولة.
ولكن لا بد من القول، أن الطريق التي اتبعها الغبريني في كتابته لتراجم أعلام المائة السابعة، كانت غير ذاتية في معظمها، فهو لم يعتمد على إنتاجهم من حيث قيمته الفنية، ولا على الحياة الشخصية أو العوامل التي ألهمتهم هذا الأدب أو هذا الإنتاج، مع أنه كان واسع الإلمام بكل ما كتبوه، متتبعا مراحل حياتهم مرحلة مرحلة، ولذلك لم يعكس- في بعض تراجمه- صورا واضحة على ضوء فن كتابة السير والتراجم، مما كان يساعدنا في يومنا هذا على معرفة ما كانت تنطوي عليه أحاسيسهم ونزواتهم، ومقام كل واحد من هؤلاء في عالم الدين والأدب والتاريخ .. الخ.
ومدى تجاوبهم مع مجتمعهم ومع المجتمعات الأخرى المجاورة لهم.
تبقى كلمة أخيرة، وهي أن هذا الكتاب- بشادة كبار العلماء- هو أصدق وأشمل سجل طبع عن الحياة العقلية في المائة السابعة للهجرة لا في بجاية وحدها إنما في المغرب الأوسط أيضا.
بيروت- لبنان
عادل نويهض
1 / 15
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله وحده
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين [أما بعد] فإن الكتاب المسمى "عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية" للعلامة المحقق، والفهامة المدقق، الجامع بين الدراية والرواية، قاضي القضاة ببجاية، الشيخ أبي العباس أحمد بن أحمد بن عبد الله الغبريني ﵀ ورضي عنه كتاب تلوح أنوار الحقائق من سبل عباراته، ويعبق شذا عرف المعارف من بيان إشاراته، أورد فيه مؤلفه من تراجم علماء عصره، وأخبار أحبار مصره، ما يحتاجه المتشوق إلى فرائد الفوائد، والمتشوق إلى أوابد العوالد، مع ذكره وفياتهم ومؤلفاتهم، وسيرهم في مذاهبهم وعاداتهم، واستطراد الأحاديث الشريفة، والآثار الصالحة المنيفة، والمباحث الفقهية، والفتاوي الشرعية، وغير ذلك مما لا يحصى، ولا من غيره يستقصى، وقد اعتمدنا في التصحيح على أربع نسخ (الأولى) للمكتبة الدولية الجزائرية محفوظة تحت عدد ١٧٣٤ (والثانية) للفقيه النبيه سيدي عبد الرزاق الأشرف قاضي (باتنه) الحالي (والثالثة) للعالم العلامة سيدي علي بن الحاج موسى، الإمام بمسجد ضريح سيدي عبد الرحمن الثعالبي بالجزائر (والرابعة) للفقيه النجيب والوجيه الأديب الشيخ سيدي أبي القاسم محمد الحفناوي المدرس بالمسجد الأعظم بالجزائر.
هذا وقد بذلنا غاية الجهد في تصحيح التحريف. وتصويب التصحيف.
وما العصمة والكمال، إلا للكبير المتعال.
محمد بن أبي شنب
المدرس بالمدرسة الثعالبية الدولية
وكلية الآداب العليا بالجزائر
1 / 16
عنوان الدراية
فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية
1 / 17
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي حفظ الذكر بحفظ أهله، وشرفهم بوراثة أنبيائه ورسله، وجعل تفاوتهم في علي الدرجات بحسب تفاوتهم في حمله، وأسبغ عليهم سوابغ نعمه ووعدهم بالمزيد من فضله، وصلواته على سيدنا محمد نبيه المخصوص بما لم يختص به نبي من قبله، وعلى آله وصحبه المقتفين سننه القويم والمعتصمين بحبله، صلاة نرجو بها الفوز يوم يبين للمرء ما هو المقبول والمردود من قوله وفعله.
(أما بعد) فإنه لما كان طلب العلم اللدني فرضا على الكفاية حينا ومتعينا في الحال، ولم يكن بد في تحصيله من تلقيه عن الرجال، وكان التلقي أما بمباشرة أو عن سند ذي اتصال، وكان المباشر تكفي معرفته، والمسند عنه لا بد أن تعرف صفته، فلذلك اهتم العلماء بذكر الرجال، واستعملوا في تمييز أحوالهم الفكر والبال ليوضحوا سبيل التحمل، ويبينوا وسيلة التوصل، وقد اختلفت في ذلك مصادرهم ومواردهم، وان اتفقت في بعض الوجوه مقاصدهم، فمنهم من ذكر التجريح والتعديل في المحدثين، ومنهم من ذكر من يعرف بالحفظ والإتقان من المتقدمين، ومنهم من اقتصر على ذكر العلماء المجتهدين، ومنهم من ذكر المؤلفين والمصنفين، ومنهم من ذكر الصلحاء والمتعبدين، ومنهم من ذكر علماء وقته، ومنهم من اقتصر على ذكر مشيخته، وكل ذلك يحصل الإفادة، ويسهل للطالب مراده، وإنما ينبغي أن يعرض في هذا على سبيل المكاثرة، وطريق المباهلة والمفاخرة، كما قصده بعض من قصرت معرفته، ولم ترف إلى درجة أولي النهي درجته، وان يكون القصد في هذا إنما هو ما يتعلق بالأمور الدينية، ويوصل إلى سبيل المرضية، والله تعالى متولي صلاح النية والطوية، وذلك بحيث يعلم طالب العلم الأئمة الذين بهم يقتدى، وبسلوك
1 / 19
سننهم السوي يهتدى، واني قد رأيت أن أذكر في هذا التقييد من عرف من العلماء "ببجاية" في هذه المائة السابعة التي نحن في بقية العشر الذي هو خاتمتها ختمها الله بالخيرات، وجعل ما بعدها مبدءاَ للمسرات، أذكر منهم من اشتهر ذكره، ونبل قدره، وظهرت جلالته، وعرفت مرتبته في العلم ومكانته، وقد رأيت أن أصل بذكر علماء هذه المائة، ذكر الشيخ أبي مدين (١) والشيخ أبي علي المسيلي (٢) والفقيه أبي محمد عبد الحق الاشبيلي (٣) ﵏ ورضي عنهم، لقرب عهدهم بهذه المائة، لانهم كانوا في أعقاب المائة السادسة للتبرك بذكرهم، ولانتشار فخرهم .. وأبدأ بهم ﵃، ثم أتلوهم بذكر مشيختي، وأعلام إفادتي، ثم أتلوهم بمن سواهم إلى أن يقع الإتيان على جميعهم ﵏. وسميت هذا المجموع (عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية) والله تعالى يجعل السعي في هذا كله موصلا إلى الزلفي لديه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، ولنأخذ في ذلك على الله متوكلين، وبه مستعينين.
_________
(١) انظر ترجمته رقم ١.
(٢) انظر ترجمته رقم ٢.
(٣) انظر ترجمته رقم ٣.
1 / 20
ذكر الأشياخ الثلاثة
ومن يستطرده ذكرهم معهم ﵃
1 / 21
١ - أبو مدين شعيب بن الحسين الأندلسي
٥٩٤هـ - ١١٩٨م.
ــ
الشيخ الفقيه المحقق، الواصل القطب، شيخ مشائخ الإسلام في عصره، إمام العباد والزهاد وخاصة الخلصاء من فضلاء العباد، سيدي أبو مدين شعيب بن الحسين الأندلسي من ناحية اشبيلية، ومن حصين يقال له "منتوجب" فتح الله عليه بمواهب قلبية، وأسرار ربانية، استفادها بالتوجه والعمل، وارتقى إلى غاية ما يؤمل؛ كان الشيخ أبو يعزى رحمه الله تعالى، يثني
1 / 22
عليه ويشكره ويقول بلسانه: "إيشار أفان أندلسي" وكان الشيخ أبو يعزى ممن يتبرك بثنائه لعظم خطره، وجلالة قدره. رأيت من كلام الشيخ أبي مدين ﵁، إنه قال: طالعت أخبار الأولياء من عهد أويس القرني إلى زمننا، فما رأيت مثل الشيخ أبي يعزى، وطالعت كتب التذكير فما رأيت مثل كتاب الإحياء. قال الشيخ العارف محي الدين أبو بكر بن العربي الحاتمي الطائي المعروف بابن سراقة، أن الشيخ أبا مدين ﵀ لم يمت حتى تقطب قبل أن يغر غر بثلاث ساعات، والقطبية للعارف هي منتهى مناله، وغاية آماله. قلت بلغ من ورعه ﵁، إنه كان لا يأكل البقلة المسماة ببقلة الروم لذكر اسم الروم عليها وإضافتها إليهم،
1 / 23
وهذا تقدم كبير في باب التقوى، ومثل ما ذكر، ما روي عن الإمام أحمد بن حنبل ﵁، إنه كان لا يأكل البطيخ، لأنه لم يبلغه كيف كان النبي ﷺ يأكله بقشره أو بغير قشره، وهل تناوله رضا أو قطعا أو بالفم، ومثل ذلك ما يحكى عن المحاسبي الذي مات أبوه وترك كذا وكذا ألف درهم، فما أخذ منها شيئا وقال: أن أبي كان يقول بالقدر. وقال ﷺ، لا يتوارث أهل ملتين. وكابن القاسم الذي مات أبوه وترك كذا وكذا ألف درهم، فأبى أن يأخذها وقال أن أبي كان تاجرا وكان لا يحسن العلم، فربما دخل عليه الربى وهو لا يشعر، وهو الذي اكترى دابة فسافر عليها فجاءه إنسان برسالة وقال له، تحمل هذه معك لفلان، فقال ما اشترطت على رب الدابة حمل هذا. وهذا كله من باب الورع ﵃. سمعت عنه
1 / 24