كانت جثة فارس ذات الأكتاف العريضة ترتسم كتلة حالكة على الليلة القمراء بالقرب من خيال بطرس الضئيل، فعندما سمع السيدة بطرس تتلفظ بهذه الكلمات أفاق من جمدته فقال ضاحكا: اسمحوا لي أن أجتمع بامرأتي الآن لئلا تستبطئ غيابي فتؤنبني عليه. قال هذا وصعد الدرج ببعض وثبات، ولما بلغ الباب فتحه بخفة فأبصر امرأته واقفة أمام النافذة فاستغرب من سهرها في تلك الساعة المتأخرة من الليل، فقال لها: ما بك لا تزالين يقظى حتى الآن؟ فهل طرأ على الصغار طارئ؟ - لا يا فارس، ليس من طارئ هناك!
وشخصت إلى زوجها بعيون ملؤها دموع! - ليس من طارئ وتبكين؟ ماذا جرى؟ تكلمي حالا! - آه! إن عواطفي تنفطر هذا المساء!
ثم أسندت ظهرها إلى النافذة وأخذت تقص على زوجها بصوت خافت كل ما حدث في النهار، فقال فارس: إن صغيرتنا الزرقاء لنشيطة! ولكن أي داع دفع ذلك الغلام إلى الانتحار؟ - قال إنه يؤثر الموت ألف مرة على الذهاب غدا مع الأم سالم.
فصمت فارس هنيهة، وسرح طرفه في السهل الهاجع والأوراق الخرساء والسماء الرحبة حيث يضيء القمر الكامل، ثم قال: لقد خطر لي فكرة يا عزيزتي، ففريد يدب في عوامل الرأفة والشفقة، إنه لولد طيب السيرة وأمانته تبشره بمستقبل حسن. ولكن إذا بقي تحت سلطة الأم سالم لا يلبث أن يصبح شريدا ... - هذا ما أخشاه! - أتعرفين يا عزيزتي أن هذا الولد يذكرني بعهد حداثتي، أيام كنت أنشأ في مذاهب الصدف، لا أم لي تتعهدني ولا أبا؟ كنت أسير إلى الشقاوة يوم ذاك، إلا أنني صادفت في طريقي ذلك العم البستاني الذي تعهدني بنصائحه وتربيته النبيلة وأخرج مني الرجل الذي أمثله في هذه الحياة! - إنك لمثال الرجال يا فارس وأنا أفتخر بك! - ولكن أجيبيني، إذا صنعنا مع ذلك الطريد ما صنع معي ذلك العم ... إذا احتفظنا بفريد عندنا ...
فانطرحت السيدة فارس على صدر زوجها وأجهشت بالبكاء، فقال لها: لقد سببت لك كآبة يا عزيزتي، أتخشين أن يكون هذا الولد عبئا ثقيلا على عاتقنا؟ أما هي فتكاد يغمى عليها من الفرح فأجابت بصوت خافت: لا، لا أخشى ذلك ... فهذه الفكرة مرت بي قبل أن تمر بك، ولقد وعدت فريدا بإبقائه عندنا ... إلا أنني لم أجسر أن أكاشفك بذلك مخافة أن توبخني وتغضب علي ...
فأخذها بين ذراعيه القويتين وضمها إلى قلبه الباسل وقال: أي يوم ترددنا عن عمل الخير يا حبيبتي؟ أي يوم تخوفنا العمل والجهاد؟ أليس الجميل الذي نصنعه مع البائسين هو الذي يهبط نعما وبركات علينا جميعا؟
فتمتمت المرأة وقد غصت بدموعها: إنني ما أحببتك يوما كما أحببتك الآن! فضغط بها على صدره وطبع على جبهتها بشفتيه المضطربتين قبلة حرى، لم يعرف هو نفسه ما كان يختلج فيها أشد من الآخر هل العاطفة أم الاحترام؟
في تلك الآونة كانت الشمعة قد احترقت إلى طرفها فتمايلت وانطفأت، وحلت مكانها عذوبة الشعاع المنحدر من القمر غاسلة بنورها الأزرق تلك الغرفة الصغيرة ذات الأردية البيضاء.
ظل فارس مبقيا امرأته بين ذراعيه يمد قبلته النقية على جبينها التقي، وكان قلباهما الأمينان يخفقان بشدة في هدأة الليل، أمام البدر الجميل والسماء الزرقاء.
10
Bilinmeyen sayfa