كان يودع بدموعه منزل عملة السكة والكنيسة الصغيرة، حيث صرف أياما عديدة يهز المبخرة! كان يودع محطة جونية، حيث استيقظت روحه أمام القطارات الكبيرة التي تمر مقلة في عجلاتها أغلال البقاع: أطواد عظيمة لا تصد تنفخ في مخيلة ولد صغير محبة المجهول وعطش الحوادث، كان يقول بصوت خافت: أمن المحتمل أن أهجر جونية؟ آه! إنني لأؤثر الموت على ذلك! ...
عند هذا شعر بيد تلامس كتفه فانتصب فجأة على قدميه فرأى الفتاة الزرقاء تنظر إليه وعلى حافة أهدابها دمعتان كبيرتان!
فقالت الفتاة: أنا لا أود أن تموت يا صديقي فريدا. فامتقع جبين الولد باصفرار وبرقت في عينيه أشعة من الجزع غريبة؛ ثم دفع الفتاة بخشونة وقال لها: ماذا جئت تفعلين هنا؟ أنا لست بحاجة إليك فاذهبي! اذهبي حالا! فقالت له: إنهم يبحثون عنك يا فريد، والأم سالم تناديك! - دعيها تناديني ولا تقولي لأحد أين أنا! - ولماذا؟ إن والدتي شديدة القلق عليك، فهي تعتقد أنك هربت. - إلى أين أهرب؟ لا، لم أهرب! ولكنني عرفت كيف أضع حدا لآلامي! - وكيف ذلك؟ - إنك لا تفهمين؛ لأنك صغيرة. - أبودك أن تلبث طويلا في هذا المخبأ؟ - لا، سأخرج بعد هنيهة. - وإلى أين تتجه؟ - هذا سر لا أقوله. - لا أريد أن تموت يا فريد! - أما أنا فأريد. إن من يكون مثلي شقيا أحرى به أن يموت!
عند هذا لم تملك الصغيرة نفسها فأخذت تجهش بالبكاء، فقطب الولد حاجبيه وقال لها بصوت جهوري: اذهبي من هنا، فلقد قلت لك كل شيء! ولكن لم تمتثل الفتاة لإرادته فقادها بيدها إلى خارج المخبأ الأخضر واجتاز بها الحديقة حتى أول الطريق، وهناك قال لها: عودي إلى منزلك حالا، فأنا واقف في هذا المكان أترقبك حتى تبتعدي، فلا يجب أن تتلصصي علي!
تسلقت الفتاة الزرقاء منحدر الطريق الضيق وتوغلت في الكرمة المحيطة بمنزل عملة السكة، فلما وثق فريد من ذهابها أخذ يركض في الحديقة فمر أمام المستودع وتبع الخط مدة قصيرة حتى وقف في منعرج بالقرب من السلك الحديدي، فأبصر منحدرين يبلغ علو كل منهما ستة أو سبعة أمتار يرتفعان من اليمن إلى الشمال كحاجزين عاشبين، وينتهيان عند سياج ذي مسلك صعب تخللته الأشواك من كل جهاته.
وقف فريد في وسط الطريق وشخص أمامه إلى فوهة الجبل المشئومة حيث سيمر القطار بعد بضع ثوان قاذفا الدخان والشعلة من داخونه المستطيل؛ ثم حول نظره إلى أعشاب المنحدر المرتفع وإلى سماء الصيف الهادئة وتمتم قائلا: رباه! قيل لي: إن من الكفر أن يقتل الإنسان نفسه! فلو كنت رجلا لما أقدمت على الانتحار، بل جاهدت في الحياة جهاد الأبطال، ولكنني ولد، وما على الولد أن يقاوم ويجاهد.
آه! إن من الصعب أن أتجلد على الأوجاع! فاغفر لي يا إلهي إساءتي هذه، تلك الإساءة التي لا ترضيك!
ثم انطرح على السلك الحديدي ووضع رأسه الأشقر على ذراعيه المكتفتين، عند هذا استيقظت في نفسه ذكرى عذبة، فأخذ يفكر في غرفة ملأى بصور القديسين وطافحة بالأزهار المتباينة الشكل والرائحة، وقال: آه! أين غرفة السيدة فارس! ... لقد تذوقت قليلا عذوبة الحياة في هذه الأرض! فهل تهبني السيدة العذراء زاوية صغيرة في سمائها الجميلة؟
8
عندما عادت الفتاة الصغيرة إلى منزلها وامتثلت أمام أمها قالت لها: لقد رأيت فريدا يبكي متحسرا في مخبإ من زهر في طرف الحديقة، ولقد قال لي إن بوده أن يموت! فتركت السيدة فارس آلة الخياطة وقالت لابنتها: كيف يموت؟ عند هذا مرت في مخيلتها فكرة رهيبة إذ إنها خشيت أن يلقي بنفسه تحت عجلات القطار، فقالت في نفسها: يجب أن أسرع قبل مجيء القطار. ثم خرجت من مخدعها وأطلعت امرأة أديب على جلية الأمر. - سأتبعك عن قرب فلا بد لواحدة منا أن تعرف مكانه، سيري أنت في الجهة اليسرى فأسير في اليمنى، تحدثني نفسي أنه مختبئ وراء محرس الخفير. - أما أنا فأظنه منطرحا على مرفق السلك الحديدي. - فلنذهب بحراسة الله!
Bilinmeyen sayfa