في تلك الآونة كانت عجلة مارة في الطريق المجاور، فلما سمع صاحبها الصراخ خف إلى مكان الحادثة، فهرب إلياس إلى غاب كثيف واختفى عن الأعين.
رفع سائق العجلة فريدا عن الأرض وقد أوشك أن يغمى عليه وحمله إلى المحطة حيث مددوه على أكياس الحنطة؛ فلما وقع عليه نظر الأم سالم أخذت تلعن وتسب يوسف بما أوتيت من فطرة التجديف والغضب، إلا أن امرأة أديب لم تتردد أن أبعدت عنه الأم الشرسة وذهبت به إلى غرفتها، حيث ضمدت جرحه ووضعته على سرير ناعم، ولما كان من غد شعر فريد بأنه تقدم خطوة إلى الشفاء، فجاءته السيدة أديب بغذاء خفيف وقادته إلى ظلال شجرة الطلح حيث أجلسته على كرسي من قش تحف به الوسائد من كل الجهات.
فلما أبصرته الأم سالم على هذه الحالة قالت بصوت تراوده نبرات الغضب: هل اعتقدت السيدة أديب أننا نعجز عن إيجاد طرق للعناية بفريد في منزلنا؟ أما السيدة بطرس فقد كانت تنظر إلى اليتيم المسكين بشفقة وحنو، شاخصة إلى شحوبه واصفراره بعين ملؤها الحزن.
لا تحتاج النفس الحساسة المشبعة بالخيال إلى أكثر من هذا المشهد لتتحرك فيها عاطفة الرحمة والحنو.
فما ملكت نفسها أن قالت: مرحى يا فريد! إنك لطيب القلب شريف الطباع. ويندر في سواك من يقدم وهو في الحادية عشرة من عمره على المخاطرة بنفسه في سبيل الدفاع عن فتاة.
7
كانت شمس آب المحرقة تلهب محطة جونية في حين كان شاب جميل الطلعة رقيق الشاربين جالسا في مكتب المدير يطالع جريدة في يده وبين شفتيه لفافة من التبغ. كان هذا الفتى خلفا وقتيا للسيد راغب الذي منح إجازة بعض أيام يصرفها مستريحا من عناء الأشغال، إلا أنه كان يشعر بالسأم يستولي عليه في جونية، وقد استاء من طعام النزل الذي بناه يوسف قريبا من المحطة .
هناك على مقربة من المحطة تنساب ساقية صغيرة حامت حواليها غيوم كثيفة من البعوض حرمت ذلك الشاب أن ينام طيلة ليال ثلاث؛ فانزعج مزاجه العصبي وتكدر حتى لم يبق له تجلد على الصبر، ولكنه لم يفتر عن القيام بواجبه تاركا لمأموريه الحرية في كل ما يجرون؛ فاغتنم بطرس وعزيز وسالم هذه الفرصة السانحة ليذهب كل منهم إلى حيث يرغب.
أما سالم فكان يجلس بين أقداح خمرته، فيلهو عن الحر الشديد بما في قنانيه من المرطبات المسكرة قائلا في نفسه: إن راغب غائب، فإذا جلست إلى خمرتي لا أقترف ذنبا يستحق العقوبة؛ ثم إن الخلف الوقتي لا ينتبه لي فهو راغب عني في برد أظافيره وتعكيف شاربيه. إنني لأؤثر هذا الرئيس على سواه، فهو لا يضن على مأموريه بساعات حرة في أوقات محرقة كهذه.
ففي أحد الأيام استفاق عزيز من رقدته وأسرع إليه بقميص النوم وقال له: إنك تعاقر الخمر يا سالم وتنسى أن القطار على أهبة الوصول.
Bilinmeyen sayfa