عدة المريد الصادق
تأليف
الشيخ أحمد زروق
تحقيق
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
دار ابن حزم
1 / 1
عدة المريد الصادق
تأليف
الشيخ أحمد زروق
تحقيق
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
دار ابن حزم
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٢٧هـ - ٢٠٠٦م
الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها
1 / 3
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ومن نصر سنته واهتدى بهداه.
وبعد:
فإني أقدم كتاب (عدة المريد الصادق) لمؤلفه الشيخ أحمد زروق، دفين مصراتة بليبيا، ولهذا الكتاب أهمية جعلتني أعتني به على الرغم من زحمة العمل، وتكمن هذه الأهمية في أمرين:
الأمر الأول: رجاء النفع به، لما يتميز به هذا الكتاب من ملوك منهج القصد والإنصاف والوسطية بين الإفراط والتفريط، وهو المنهج الذي مدح به القرآن الكريم هذه الأمة، وقل في زماننا هذا أهله، فلا تجد في الغالب إلا مفرطا أو مفرطا.
الأمر الثاني: إن المؤلف الذي جرد كتابه هذا لبيان عيوب الطرق ومحدثاتها، هو نفسه شيخ من شيوخ التصوف القائم على السنة والشريعة حين يذكر أهل التصوف، وفقيه عالم آراءه فتاوى يرجع إليها حين يذكر العلماء، ولذا تراه يشخص العلل والأدواء تشخيص المجرب الحاذق، إذ هو "شاهد من أهلها"، ويصف الدواء وينتقد انتقاد العالم الفقيه، الذي يصدر عن علم واسع، وفقه بالشريعة، ومعرفة بالسنة، مع حرص على الهداية، وصدق في النصيحة، بعبارة مشرقة، وألفاظ سهلة محررة، تستهوي القارئ، وتأخذ بنفسه، فتسوقه معها سوقا، حتى لا يدري إلا وقد قرأ الكتاب كله،
1 / 5
وذلك راجع عندي لشخصية المؤلف التي امتزج فيها إخلاص التصوف مع العلم بالشرع.
هذا بالإضافة إلى أن هذا الكتاب يعد أشمل كتب الشيخ زروق التي تمثل منهجه، وآراءه في التصوف.
وقد اشتمل هذا العمل على قسمين:
١ - تمهيد في التعريف بالمؤلف والكتاب، اجتهدت ألا يكون فيه إسهاب ولا إخلال.
٢ - تحقيق النص وتصحيحه بقدر الطاقة والإمكان، رحم الله المؤلف رحمة واسعة، ونفع الله تعالى بعلمه، ورزقنا حسن البدء والختام، إنه منعم كريم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 / 6
القسم الأول - تمهيد في التعريف بالمؤلف والكتاب
أولا - التعريف بالمؤلف (١)
نسبه:
هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي، اشتهر بزروق، و(برنسي) نسبة إلى عرب بالمغرب كما جاء عن رفيق المؤلف ابن غازي في نيل الابتهاج، وقال الحجوي في الفكر السامي: البرانس قبيلة بربرية قرب فاس، و(زروق) لقب أتاه من جهة جده لأمه الذي كان أزرق العينين (٢).
مولده ونشأته:
ولد المؤلف يوم الخمبس في الثاني والعشرين من محرم عام ٨٤٦ من الهجرة، وتوفيت أمه ثالث أيام ولادته، ولحقها أبوه قبل السابع، فعاش الولد يتيما في كفالة جدته أم أبيه، وذلك بعهد من أبيه، وجدته تكنى أم
_________
(١) انظر ترجمته في الضوء اللامع ١/ ٢٢٢ ودرة الحجال رقم ١٢٦ ودوحة الناشر رقم ٣٣ وشذرات الذهب ٧/ ٣٦٣ والبستان ص ٤٥ وجدوة الاقتباس ١٢٨ والمنهل العذب ١/ ١٨١ وفهرس الفهارس ١/ ٤٥٥ ومعجم سركيس وشجرة النور الزكية ص ٢٦٧ والفكر السامي ٤/ ٩٨ والأعلام ١/ ٨٧ وأحمد زروق والزروقية ص ٢١.
(٢) انظر البستان ص ٤٥ ونيل الابتهاج ٨٥.
1 / 7
البنين، واسمها فاطمة، وكانت امرأة فقيهة صالحة، ربت حفيدها منذ نعومة أظفاره على الإيمان والاستقامة وطاعة الله ﷿، يقول المؤلف عن دور هذه الجدة في تنشئته النشأة الصالحة:
"وعلمتني الصلاة وأمرتني بها وأنا ابن خمس سنين، فكنت أصلي إذ ذاك، وأدخلتني الكتاب في هذه السن، فكانت تعلمني التوحيد والتوكل والإيمان والديانة بطريق عجيب، وذلك أنها كانت في بعض الأيام تهيئ لي طعاما، فإذا جئت من الكتاب للفطور، تقول: ما عندي شيء، ولكن الرزق في خزائن مولانا ﷿، اجلس نطلب الله، فتمد يديها، وأمد يدي إلى السماء داعين ساعة، نم تقول: انظر لعل الله جعل في أركان البيت شيئا ...، فنقوم نفتش أنا وهي، فإذا عثرت على ذلك يعظم فرحي به، وبالله الذي فتح به، فتقول: تعال نشكر الله قبل أن نأكله، لأجل أن يزيدنا مولانا، فنمد أيدينا ونأخذ في الحمد والشكر ساعة، ثم نتناوله، ونفعل ذلك المرة بعد المرة، حتى عقلت" (١).
وكانت تحدثه بدل الخرافات التي اعتاد العجائز أن يسلوا بها الصغار بمعجزات رسول الله (ص) وسيرته المباركة، وغزواته، وسيرة السلف الصالح، وكراماتهم، لتكون قدوة له ومثلا في بلوغ مراتبهم، والتأسي بسيرتهم، وكانت كثيرا ما تردد عليه قولتها: لا بد من تعلم القراءة للدين، والصناعة للمعاش، فتربى زروق بذلك على الجد والمثابرة، وحفظ القرآن في سن العاشرة، وهو الوقت الذي توفيت فيه جدته، فتوجه لتعلم صنعة الخرازة، وتكسب منها زمنا، ثم تركها.
طلبه للعلم:
وفي سن السادسة عشر تحول إلى طلب العلم، وكانت جامعة القرويين حينئذ منارة العلوم الإسلامية بفاس - بلد المؤلف- تعج بكبار العلماء والشيوخ، فدرس بها المؤلف بعض أمهات كتب الفقه المالكي، وعلوم القرآن
_________
(١) الكناش للمؤلف، بواسطة (أحمد زروق والزروقية) ص ٢٥.
1 / 8
والحديث والتوحيد والتصوف والعربية، وذكر من الكتب التي قرأها في هذه المرحلة على وجه الخصوص (الرسالة)، قال: قرأتها على الشيخين علي السطي، وعبد الله الفخار قراءة بحث وتحقيق، وقرأ على جماعة علم القراءة بحرف نافع، منهم الشيخ محمد بن القاسم القوري، والشيخ عبد الله التجيبي الملقب بالأستاذ الصغير، كما قرأ على القوري البخاري، وسمع منه كثيرا، وتفقه عليه في قراءة كتاب أحكام عبد الحق، وجامع الترمذي، وقرأ في التصوف والتوحيد؛ (الرسالة القشيرية) و(عقائد الطوسي) على الشيخ عبد الرحمان المجدولي و(التنوير) على الشيخ القوري (١).
رحلته إلى المشرق:
في عام ٨٧٥ هجرية توجه الشيخ زروق إلى الحج، وفي الطريق مر بمصر، وأقام بها عند عودته عاما تتلمذ خلاله على عدد من أعلام الشيوخ في الحديث والفقه والتصوف، مثل الحافظ السخاوي، ونور الدين السنهوري، وأبو العباس الحضرمي.
ومن الكتب التي قرأها في الحديث والفقه:
١ - الأحكام الصغرى لعبد الحق.
٢ - كتب ابن أبي جمرة.
٣ - صحيح البخاري.
٤ - المدخل لابن الحاج.
وقرأ في التصوف:
١ - إحياء علوم الدين.
٢ - الرسالة القشيرية.
٣ - كتب ابن عطاء الله السكندري، وهي:
_________
(١) انظر نيل الابتهاج ص ٨٥، والبستان ص ٤٦.
1 / 9
أ - الحكم.
ب - التنوير.
ج - لطائف المنن.
د - تاج العروس.
هـ - مفتاح الفلاح.
٤ - عوارف المعارف للسهروردي.
٥ - مؤلفات المحاسبي.
٦ - قوت القلوب لأبي طالب المكي.
وفي عام ٨٧٧ رجع الشيخ زروق من مصر متجها إلى المغرب، فأقام ببجاية في الجزائر، وكانت له فيها مكاتبات واتصال مع شيوخه المشارقة، ثم رجع في عام ٨٨٠ إلى وطنه بفاس، وحدثت له جفوة مع شيوخها (١)، فغادرها بعد أربع سنوات، ورجع إلى بجاية التي لم يستقر فيها طويلا هذه المرة، إذ سرعان ما غادرها إلى مصر، وفي مصر جدد الصلة بشيوخه القدامى، ومنهم الحافظ السخاوي، الذي حصل منه على إجازة، وأبو العباس الحضرمي، الذي وثق صلته به، واستفاد منه وتأثر به كثيرا في التصوف المبني على الشريعة، وفي هذا الوقت صار للشيخ زروق شأن كبير في العلم، وقدم راسخة في التربية والسلوك، فالتف حوله طلبة العلم والمريدون، وآن له أن يبحث عن دار إقامة ينتفع به فيها الناس، ويتمكن فيها من أداء رسالته العلمية والتربوية على أفضل وجه، بعد أن نبذه قومه أهل فاس، فكانت مصراته الواقعة إلى شرق طرابلس أسعد البلاد به.
نزوله بمصراته:
نزل الشيخ زروق مصراته عام ٨٨٦ هجرية، وطاب له المقام فيها،
_________
(١) انظر دوحة الناشر ص ٤٩.
1 / 10
ولقي من أهلها كل تقدير وترحيب، وتزوج بها زوجته أمة الجليل بنت أحمد بن زكريا الغلباوي، وقد تزوج الشيخ في حياته خمس مرات كما ذكر في (الكناش) واجتمع حوله الناس للاستفادة من دروسه ونصائحه وتوجيهاته، وأحاطوه بالرعاية والعناية. وفي عام ٨٩٤ توجه إلى الحج، ومر بالقاهرة حيث ألقى بعض الدروس بجامع الأزهر، ثم رجع بعد أداء فريضة الحج إلى مصراته، وقضى بها السنوات الأربع الباقية من عمره، وتوفي رحمه الله تعالى رحمة واسعة في الثامن عشر من صفر عام ٨٩٩ هجرية.
شيوخه (١):
تتلمذ الشيخ زروق على عدد من الأعلام المشهورين في فنون مختلفة من العلم، ذكرهم في (كناشه)، ومن أهمهم:
١ - أبو عبد الله محمد بن قاسم القوري، (ت: ٨٧٢).
٢ - عبد الله التجيبي الملقب بالأستاذ الصغير، (ت: ٨٨٧).
٣ - عبد الرحمن الثعالبي، (ت: ٨٧٢).
٤ - أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم المشذالي، (ت: ٨٦٦).
٥ - أحمد بن سيد الحباك المكناسي (٢)، (ت: ٨٧٠).
٦ - محمد بن قاسم الرصاع، (ت: ٨٩٤).
٧ - أم هانئ العبدوسية، (ت: ٨٦٠).
٨ - محمد الزيتوني.
_________
(١) انظر في تاريخ وفيات شيوخ المؤلف (ألف سنة من الوفيات) لابن قنفد والونشريسي وابن القاضي.
(٢) شجرة النور الزكية ص ٢٦٤.
1 / 11
٩ - شمس الدين محمد بن عبد الرحمان السخاوي، (ت: ٩٠٢).
١٠ - أحمد بن عبد الرحمن بن موسى اليزليتني المعروف بحلولو، (ت: ٨٩٨).
١١ - نور الدين السنهوري، (ت: ٨٨٩).
١٢ - أحمد بن عقبة الحضرمي، أبو العباس (ت: ٨٩٥). وغيرهم كثيرون.
وتتلمذ عنه جماعة من الأعلام، منهم الشيخ الحطاب محمد بن محمد صاحب مواهب الجليل والشرح على الورقات، والخروبي الصغير، والشمس اللقاني، والناصر اللقاني، والشعراني، وآخرون.
مؤلفاته (١):
كتب الشيخ زروق متنوعة، في الفقه والحديث وعلم الكلام والتصوف والحساب والتطبب، لكن أهمها كتبه في الفقه والتصوف، مع رجحان عدد كتب التصوف على كتبه في الفقه.
ويعد كتابنا هذا (عدة المريد الصادق)، وكتاب (قواعد التصوف) من أهم كتب الشيخ زروق في التصوف، كما يعد كتابه شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني من أهم مؤلفاته في الفقه.
ويلاحظ أن عددا كبيرا من كتبه مكرر تحت عناوين مختلفة، والمحتوى واحد، أو مع اختلاف طفيف، بالتقديم أو التأخير أو الاختصار، وذلك كما في هذا الكتاب (عدة المريد الصادق)، وكتابه (النصح الأنفع والجنة للمعتصم من البدع بالسنة)، وكتاب (البيع)، و(البدع والحوادث)،
_________
(١) في كتاب (أحمد زروق والزروقية) ص ٩١ وما بعدها تتبع شامل لمؤلفات الشيخ زروق وأماكن وجود مخطوطاتها في مكتبات العالم، حيث وصلت إلى ٨٤ عنوانا في مختلف العلوم. هذا إذا عددنا شروحه على حكم ابن عطاء الله كتابا واحدا، وإلا فقائمة كتبه تزيد على المائة.
1 / 12
(والجامع لجمل من الفوائد والمنافع)، فهذه خمسة عناوين هي في الواقع أسماء متعددة لكتاب واحد، ولا يكاد يوجد بينها اختلاف، وكما في (قواعد التصوف) و(تأسيس القواعد)، فهما عنوانان في قائمة كتبه، ومضمونهما واحد، وربما اختصر المؤلف الكتاب في بعض رسائله الصغيرة، فكون هذا الاختصار عددا آخر من كتبه، كما في رسالته في الرد على أهل البدع، تشتمل على عشر ورقات هي خلاصة لما قاله في (عدة المريد الصادق).
وأغلب كتب المؤلف في التصوف هي شروح على كتب مؤلفين آخرين أو رسائل صغيرة، وله أربعة وعشرون شرحا على حكم ابن عطاء الله السكندري، كما جاء في نيل الابتهاج وغيره.
ومن كتبه في الحديث والفقه:
تعليق على صحيح البخاري، وحاشية على صحيح مسلم، وجزء في علم الحديث، ورسالة في تحديد مصطلح الحديث، وشرحان على رسالة ابن أبي زيد، كبير وصغير، أحدهما مطبوع، ومناسك الحج، وشرح قواعد عياض، وشرح القرطبية، وشرح الوغليسية، وشرح الإرشاد لابن عسكر، وشرح على مواضع من مختصر خليل، وله غير ذلك من التآليف المفيدة، قال الكتاني في فهرس الفهارس (١) عن مصنفاته: "وكلامه في تصانيفه كلها كلام من حرر وضبط العلم، وعرف مقاصده، ومدار التشريع، بحيث يعتبر قلمه وعلمه وملكته قليلي النظير في المغاربة".
ويقول عنه الحجوي في الفكر السامي (٢): "كان من الطبقة العالية من المؤلفين، ذابا عن السنة، قوالا للحق، وهو آخر المحققين الجامعين بين الفقه والتصوف، المحتج به عند الطائفتين".
_________
(١) ١/ ٤٥٥.
(٢) ٤/ ٩٨.
1 / 13
ثانيا - الكتاب
موضوع الكتاب:
ألف الشيخ زروق كتابه (عدة المريد الصادق) لرد البدع التي أحدثها أصحاب الطرق، ونسبوها إلى الدين، فأفسدوا بها التصوف الإسلامي الصحيح، القائم على الكتاب والسنة، الذي هو مقام الإحسان، الوارد في حديث جبريل ﵇ (١).
فقد أحدث كثير من أصحاب الطرق والمدعين للتصوف خرافات، واعتقدوا عبادات لم يشرعها الله ﷿، جهلا منهم بالشريعة، وحبا للرئاسة، والتعزز بالطريقة - على حد تعبير المؤلف - وهؤلاء أساؤوا إلى التصوف الصحيح وأهله، حتى صارت كلمة تصوف مكروهة عند الناس، وكأنها لا تعني سوى الخرافات والاعتقاد الباطل، مع أن أصل مدلولها عند أصحابها الصفاء والنقاء، وبذل النفس في مرضاة الله ﷿ والدار الآخرة،، وهو أمر لا يختلف في كونه غاية كل مسلم.
اشتمل الكتاب على مقدمة ومائة فصل في بعض نسخه، وعلى أزيد من ذلك في نسخ أخرى، وهو من أهم كتب الشيخ زروق، إذ يعكس شخصية زروق الفقيه والصوفي في آن واحد، ويتضمن معظم آرائه. وموضوعه البدع والمحدثات التي أدخلها أصحاب الطرق على التصوف،
_________
(١) انظر مبحث التصوف والطرق الصوفية في كتاب أساسيات الثقافة الإسلامية ص ٣٠٥.
1 / 14
وعرضها على ميزان الشرع، وبيان الباطل منها، كما يتضمن الكتاب القواعد والضوابط والآداب التي يجب أن يتحلى بها المربي والسالك، مع كثير من الفوائد الفقهية والتربوية المنبثة في تضاعيف الكتاب، بأسلوب واضح وعبارة محررة.
طريقة المؤلف في الانتقاد:
يتميز الشيخ زروق في انتقاده للمدعين من أصحاب الطرق بما يلي:
١ - هو صاحب رسالة، لا يتحامل ولا يعنف، ينتقد ليبني ويقوم المعوج، ويرشد الضال، لا ينتقد ليهدم ويشنع، فنقده إصلاحي هادف، الحرص على الهداية غايته، وتبصير الغافلين مقصده، ومن أجل هذا افتتح كتابه بإعلان غاية في الأهمية، يترجم عن قصد النفع والإصلاح، وأوصى أن يوضع هذا الإعلان على صدر كل نسخة تنسخ من كتابه، قال فيه: "إنه لم يقصد الطعن على الناس، ولا إظهار عيوبهم، وإنما قصد التحذير من الوقوع فيما وقع التحذير منه، ليكون الكتاب عدة وإعانة لمن يريد الحق، ومن قصده لغير ذلك، فالله حسيبه، ومتولي الانتقام منه" (١) ولذا فإن المؤلف يلوم من طرف خفي ابن الجوزي على خشونته في نقد المتصوفة، حيث قال: وقد حذر بعض الناصحين من تلبيس ابن الجوزي، مع أنه في موضع آخر يعذره، بأن خشونة لفظه لحسم الذريعة والمبالغة في الإنكار (٢).
٢ - آراءه متزنة، وانتقاده في الغالب مزيج بين زروق الفقيه وزروق الصوفي، وهو وإن كان أحد الجانبين يطغى أحيانا فإنه سرعان ما يرجع إلى نهجه في تحكيم السنة وإليك أمثلة توضح منهجه:
_________
(١) انظر ٠٣١
(٢) انظر قواعد التصوف ص ١٣١، وقد ذكر المؤلف أربعة شروط لمن يريد قراءة تلبيس إبليس على الصوفية: أن ينظر ذلك لنفسه لا ليتنقص به غيره، أن يكون ذلك بعد إحكامه الاعتقاد في جميع أموره، ألا يكثر التشويش به على عوام المسلمين وخاصتهم، وأن يحسن الظن بالناس. انظر مختصر النصيحة الكافية ص ٢٤.
1 / 15
أ - لنستمع إليه وهو يذكر حكم إهداء ثواب الأعمال إلى رسول الله (ص)، وحكم الإضافات التي أضافها الناس إلى صيغ الصلاة على رسول الله (ص)، قال:
"ومنهم من يجعل ذلك (ثواب الأعمال) رسول الله (ص)، وهو من باب حسن النية والتقرب لجنابه الكريم، وليس الحق في ذلك إلا باتباع سنته، وإكرام قرابته، وكثرة الصلاة عليه (ص)، لأنه غني عن أعمالنا، وإني لأرى ذلك إساءة أدب معه، لمقابلته بما لا يصلح أن يكون صاحبه مقبولا، فكيف بالاعتدال بثوابه، لا سيما ما جرت به عادة المصريين في ذلك، فإنه يعظم علي كثيرا جدا".
ومن ذلك: "تصنيف بعض الناس في الصلاة عليه (ص)، بكيفيات يعتمدها، ويأتي فيها بألفاظ مستغربة، وأنواع مستنخبة، تألفها نفوس العامة، (وهو أمر حسن من حيث صورته، واضح من حيث حقيقته، تألفه نفوس العوام) (١) وتتحرك به نفوس الغافلين للصلاة عليه (ص) في الملة، والأولى بأهل التوجه الاقتصار على الألفاظ الواردة عنه (ص)، فإن الخير كله في الاتباع، والفتح الكامل في التقيد بألفاظه (ص)، فلا تعدل بها شيئا ولو قلت، فقليلها كثير، ومعناها كبير" (٢).
ب - هو مثلا حين ينقل رأي شيخه الصوفي أبي العباس الحضرمي في التبرك بزيارة الحي والميت، والانتفاع بها، يعقب ذلك بقوله: لكن ينبغي ألا يجعل ذلك عدة وعمدة، لئلا يضيع به نظام الحق والحقيقة، ثم ينقل عن ابن ليون (٣) قوله: من شأن الفقراء شد الرحال للزيارات، وقل من اشتغل يه فنفذ (٤).
_________
(١) لا يوجد في ت ١.
(٢) انظر فصل ٩١.
(٣) هو سعد بن أحمد التجيبي، من علماء الأندلس، له أكثر من مائة مصنف، (ت ٧٥٠) الأعلام ٣/ ١٣٣.
(٤) انظر فصل ٨٦.
1 / 16
ج - يذكر المؤلف رأي من يقول بالتشبه بالصالحين في اللباس، واستعمال المرقع منه، والسبحة والعكاز - تم يقول: كل تشبه لا يصحبه عمل فليس يتشبه، إنما هو تلبس، ولا يكون التشبه لجلب فائدة البتة، بل يكون لدفع الضرر في الأسفار، ولا تصوف إلا بفقه (١).
وأحيانا يغلب عليه الجانب الصوفي، فيؤثر التسليم، كما في حكمه على أهل الشطحات، كابن عربي وابن الفارض، إذ ينقل المؤلف فيهم فتوى شيخه محمد بن القاسم القوري أنه اختلف فيهم من الكفر إلى القطبانية، قيل له: فما ترجح؟ قال: التسليم، ويوجه المؤلف ذلك، بأن تكفيرهم خطر من حيث إخراج مسلم بشبهة، لأنهم يقولون: إنهم تكلموا بخاص في خاص يعلم مرادهم، والغلط في إدخال ألف كافر بشبهة إسلام أولى من إخراج مسلم بشبهة. لكن المؤلف رحمه الله تعالى يحذر من مطالعة كتبهم، كحزب السلام لابن سبعين، ويقول: كل من أولع بها فالفلاح منه بعيد (٢) ولذا فإن عبارة السخاوي التي يقول فيها عن الشيخ زروق: (والغالب عليه التصوف، والميل فيما يقال إلى ابن العربي ونحوه - فيها نظر، كيف وهو يحذر من قراءة كتبه (٣).
٣ - يتحلى المؤلف في عرضه للمسائل ومخالفات المخالفين برحابة صدر، فلا يضيق ذرعا بالخلاف، بل يعرض آراء العلماء في المسألة، ويوجهها ولا يتعصب، فمثلا عندما ذكر المعيار الذي تعرف به البدعة من السنة، بين أن من المعايير ما هو مختلف فيه بين العلماء، فقد يكون العمل بدعة عند بعض العلماء، وليس بدعة عند آخرين، ومثل له بالدعاء والذكر والقراءة جهرا في جماعة، وقال: إن الشافعي لا يراه بدعة، لأن له مستندا في الشرع من حيث الجملة، فليس كل ما لم يعمل به السلف، عند الشافعي
_________
(١) انظر فصل في التشبه وما يلحقه ص ٢٠١.
(٢) انظر فصل ٧٧.
(٣) انظر الضوء اللامع ١/ ٢٢٢.
1 / 17
بدعة، حيث لم يرد في السنة نهي عنه، لقول النبي (ص): "ما تركته لكم فهو عفو".
وعند عرض المؤلف لاختلاف العلماء يختار منه ويرجح، وأحيانا يتوقف، فلا تجد له رأيا واضحا، كما في موقفه من دعاء الإمام دبر الصلوات وتأمين المأمومين، فإنه ذكره بقوله: قال بعضهم: هو بدعة مستحسنة، وقال بعضهم: بدعة مستهجنة وترك المسألة دون أن يبين ما يراه صوابا (١).
أهم القضايا التي تناولها الكتاب:
اشتمل الكتاب على مقدمة وأزيد من مائة فصل، عالج فيها أهم القضايا الآتية:
١ - البدع:
هدف المؤلف من تأليف كتابه هو بيان البدع والمخالفات التي أدخلها أصحاب الطرق في الدين باسم التصوف، فموضوع البدعة وتطبيقاتها هو المحور الذي يقوم عليه الكتاب، ولذا كان عنوان الكتاب الموجود على بعض نسخه، هو: (الرد على أهل البدع)، بدل (عدة المريد الصادق)، عرف المؤلف البدعة وقسمها، ثم أجمل أسباب بلع الصوفية برجوعها إلى ثلاثة أمور:
أ - نقص الإيمان، وفقد نوره الهادي إلى اتباع الرسول وعدم تعظيم حرمة الشارع.
ب - الجهل بالشريعة، واعتقاد أنها خلاف الحقيقة، ويقول عن هذا الاتجاه: إنه من مبادئ الزندقة.
ج - حب الرئاسة والظهور والتباهي بالمشيخة والأتباع، وذلك كله يضطر المقدمين فيهم إلى إحداث أمور غريبة تستميل القلوب.
_________
(١) انظر فصل ١٠٤.
1 / 18
٢ - مفهوم التصوف عند المؤلف:
أصل التصوف عنده ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع، وتعظيم حرمات الشرع، ورؤية العذر للخلائق، والمداومة على الأوراد، وترك الرخص والتأويلات، وذكر أن هذه هي الأصول، ومن ضيعها حرم الوصول، وقال: أكثر متصوفة الزمان على ذلك الحرمان إلا من عصم ربك، ولذا فهو يردد قولة الجنيد في أكثر من موضع في كتابه: "علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يسمع الحديث ويجالس الفقهاء، ويأخذ أدبه عن المتأدبين أفسد من اتبعه"، لذا فلا يلتفت لما ذكره السخاوي في الضوء اللامع عن المؤلف بصيغة التمريض من قوله: "والغالب عليه ... الميل فيما يقال إلى ابن عربي ونحوه" (١) فقد حذر المؤلف نفسه في كتابه (مختصر النصيحة الكافية) من سلوك منهج ابن عربي وأحزابه في التصوف، وفيما يلي نص كلامه:
"ومن ذلك ما وقع لبعض الصوفية من قولهم: أنا هو، وهو أنا مما يوهم الاتحاد والحلول وهذا لا يجوز لأحد أن يتبعهم فيه، ولا يجوز لأحد أن يسلمه لقائله حال سماعه، وإن ساغ له تأويله بعد وقوعه وانقراضه بما يوافق الحق مع إقامة رسم الشرع فيه، وإن صح له اعتقاد قائله مسلما ونحوه، فقد قتل الحلاج بإجماع أهل زمانه إلا أبا العباس بن سريج فإنه قال: لا أدري ما أقول، وأخرج بسببه جماعة من بلدانهم، ولم يكن قادحا فيهم ولا في مخرجهم، وقد وقع كثير من هذا النوع لابن الفارض وابن عربي والششتري وابن سبعين مع إمامتهم في العلم وظهورهم في الديانة، فليتق المؤمن ذلك كله، مشفقا على دينه، فارا من موارد الغلط، راجعا لأصول الاعتقاد، وقائما مع الحق بالكلام في القول لا في القائل، وقائلا في مثل ذلك عن أولئك القوم: ما كان من كلامهم موافقا للكتاب والسنة فإني أعتقده، وما لا، فأنا أكل علمه إلى أربابه، منزها قلبي عن اعتقاد ظاهره وإياهم كذلك، وقد نص على ذلك ولي الدين العراقي في أجوبة المكيين" (٢).
_________
(١) الضوء اللامع ١/ ٢٢٢.
(٢) ص ٢٢.
1 / 19
ولا بد للسالك عند المؤلف من أربعة أشياء، إذا تركها فلا تعبأن به ولو كان أعلم أهل زمانه، وهي: مجانبة الظلمة، وإيثار أهل الآخرة، ومواساة ذوي الفاقة، ومواظبة الخمس في الجماعة (١).
ويبين المؤلف أن كل ما لم يكن له أصل في الشريعة فلا عمل عليه، لأن السنة حجة على جميع الأمة، وليس عمل أحد من الأمة حجة على السنة، لأن السنة معصومة، وصاحبها معصوم، وسائر الأمة لم تثبت لهم العصمة، إلا مع إجماعهم، والصوفية كغيرهم ممن لم تثبت لهم العصمة، يجوز عليهم الخطأ والنسيان، والمعصية صغيرها وكبيرها، فالتصوف عنده مداره على الإخلاص وصدق التوجه مع التفقه في الدين والإتيان بالعمل على وفق السنة.
ويقول: إن مذهب المتصوفة هو مذهب السلف في الاعتقاد من التنزيه ونفي التشبيه، وقبول ما ورد كما ورد، من غير تعرض لكيف ولا تأويل، وفي هذا يرى المؤلف البعد في العقيدة عن كل مواضع الشبه والخلاف، والأخذ بالأمر الثابت القويم، فهو يرى مثلا أن حفظ مقام العبودية يقتضي البعد عن نداء الله تعالى بتعبير (يا هو)، لما فيه من الإيهام والتسوي وعلل أخرى، ولا يليق بالربوبية، ويرى كذلك البعد عن الاشتغال بعلم الكلام والجدل والمنطق، وأن مذهب السلف وجمهور أصحاب أهل المذاهب على تجنبه، ويقول: إن السلف لم يتكلموا في الاسم والمسمى، ولا في التلاوة والمتلو، ولا في الصفة والموصوف، ولا في مشكل الآيات والأحاديث (٢).
ويقول: إن مذهب الصوفية في الأحكام مذهب الفقهاء، وفي الفضائل مذهب المحدثين، فلا يأخذون بحديث موضوع، كصلاة الرغائب والأسبوع ونحوها، إلا أن لهم في الآداب أشياء ترخصوا فيها اضطرارا إليها، كالسماع.
_________
(١) انظر النصيحة الكافية، المقدمة وفصل ٥٢.
(٢) انظر فصل ١٠٢، ومختصر النصيحة الكافية للمؤلف ص ٢٢.
1 / 20
٣ - السماع:
يرى المؤلف أن التصدي للسماع وتعاطيه اختيارا، بحيث يجلس الإنسان إليه ويستجلب به الحال، من الضلال والبطالة، وأنه من شبه الدين التي يتعين على من استبرأ لدينه وعرضه التبرؤ منها، ويقول: هو من حيث صورته يشبه الباطل فيتعين تركه، ولا يقتدى بشيخ يقول بالسماع، وعقد المؤلف فصولا مطولة في آخر الكتاب أغلظ فيها القول على متعاطيه، ونقل أقوال الأئمة الذين حذروا منه، ومن ذلك قول أبي الحسن الشاذلي حين سأل أستاذه عنه، فأجابه بقوله تعالى: ﴿إنهم ألفوا آباءهم ضالين * فهم على آثارهم يهرعون﴾ (١) وقول صاحب (الأمر المحكم): إن السماع في هذا الزمان لا يقول به مسلم، وقول أبي العباس المرضي: من كان من فقراء هذا الزمان مؤثرا لهواه، آكلا لما حرمه مولاه، ففيه نزغة يهودية، لأنه يذكر العشق وليس بعاشق، والمحبة وما هو بمحب، والوجد وما هو بمتواجد، فالقوال يقول الكذب، والمستمع سماع له، ومن أكل من الفقراء طعام الظلمة حين يدعى إلى السماع، فهو يصدق عليه قوله تعالى: ﴿سماعون للكذب أكالون للسحت﴾ (٢) قال: وعبر بعض الصحابة على اليهود، فسمعوهم يقرؤون التوراة، فتخشعوا، فلما دخلوا على رسول الله (ص) قرأ عليهم: ﴿أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم﴾ (٣) فعوتبوا إذ تخشعوا من التوراة، وهي كلام الله، فما ظنك بهذا، أعرض عن كتاب الله، وتخشع من الملاهي والغناء.
وبين المؤلف أن من قال بالسماع فمراده من غلب عليه من غير اختيار، ومع ذلك فهو مقام تدني ونزول في حق العارف، فهو لا يشرف بالسماع، بل يشرف به السماع كما يقول (٤) ويقول: لا ينبغي الاقتداء بالشيخ
_________
(١) الصافات ٦٩، ٧٠.
(٢) المائدة ٤٢.
(٣) العنكبوت ٥١.
(٤) انظر فصل ١٠٠، وانظر فصل في السماع والاجتماع ص ٢٠٧.
1 / 21