أيقظني أستاذي في الفجر لنحضر الاحتفال بوفاء النيل المبارك. صلينا وأفطرنا. امتطى بغلته وركبت أنا حمارا. خرجنا إلى الجامع الأزهر فالتقينا السقائين بستراتهم الجلدية وأحذيتهم العالية.
اتجهنا جنوبا واخترقنا الحواري والأزقة حتى بلغنا الشارع المحاذي لضفة الخليج اليمنى، والذي يمتد من باب الشعرية حتى قناطر السباع.
صادفنا موكبا من العساكر والمارة يتقدمهم رجل عملاق ببشرة برونزية، وعينين جاحظتين، وخدين غائرين، وفوق رأسه عمامة بيضاء كبيرة، ويحيط بجبهته رباط أسود، ويتعلق خنجر طويل بنطاقه الأحمر اللون فوق قميص موشى بالقصب، وحذاء برقبة، وبين يديه الخدم بالحراب المفضضة. تعرفت فيه على الخواجا برطلمين.
تباطأنا حتى ابتعد الموكب، ثم واصلنا السير لغاية قصر قنطرة السد عند فم الخليج. هنا يخرج الخليج من النيل جنوبي قصر العيني عند السبع سواقي.
التحقنا بالركب الذي تقدمه القائد بونابرته بصحبة بقية القادة ومشايخ الديوان، وخلفه عساكره وطبوله وزموره. كان الزحام شديدا على الشاطئ الذي ظللته أشجار الكافور والصفصاف. ورأيت أن أغلب الحاضرين من النصارى الشوام والقبط والأروام والإفرنج البلديين ونسائهم، وقليل من الناس البطالين.
تعلقت عيوننا بمنصة خالية تعلوها مظلة. ثم دقت الطبول والصنوج. وتقدم بونابرته ومعه الجنرالات ومندوب الباشا وأغا المشاة نحو المنصة بخطوات ثابتة وسط التصفيق. لم أصدق عيني عندما تبينت ملابسه؛ كان يرتدي قفطانا دمشقيا، وعمامة غرست فيها ريشة إوزة.
اتخذ مكانه فوق سرادق مذهب يطل على النيل الممتلئ. وانحنى شخص على المياه يقيس مستوى ارتفاع النهر. ساد الصمت، ثم أعلن عن منسوب المياه. صفق الجمهور. أعطيت إشارة تحطيم الحاجز الذي كان يحبس المياه، فهوت المعاول. وشرع مرور الماء، ثم انكسر الحاجز، وتدفقت المياه إلى الخليج لتملأ برك القاهرة وتروي القليوبية والشرقية. علت الزغاريد ودوت المدفعية. وقذف أحدهم في المياه بتمثال لعروس النيل فهدرت الأصوات. وقفز بعض الرجال والصبية في الماء، بينما ألقت فيه النسوة مزقا من شعورهن وملابسهن.
ووصلت مئات المراكب القادمة من بولاق في سباق للفوز بالجائزة المخصصة للصف الأول، وقام بونابرته بتسليمها للفائزين. ثم شرع يوزع بسخاء هبات كثيرة تسابق الجمهور عليها. وأخذ يرسل التحايا بكفيه مائلا إلى الأمام بشكل مضحك. ثم ألبس الشيخ خليل البكري فروة وقلده نقابة الأشراف مكان عمر مكرم الهارب. وأخيرا أعطى الإشارة بالانصراف.
استدار أستاذي ببغلته في طريق العودة. واستأذنت منه في زيارة صديقي عبد الظاهر الذي يسكن قرب قناطر السباع، أذن لي فانطلقت بحماري وسط بيوت مظلمة متداعية تنبعث منها روائح كريهة وحوانيت أشبه بمرابط الخيل. رجال في أسمال محشورين في الأزقة أو قاعدين يدخنون القصبات أمام مداخل بيوتهم وحوانيتهم. عميان يشحذون. نساء قليلات مقززات يخفين وجوها عجفاء خلف خرق نتنة، وتبدو صدورهن المتهدلة من أرديتهن القذرة. أطفال صفر الوجوه ينهشها الذباب.
بلغت مجموعة من الأحواش الكبيرة التي تمتلئ بأكواخ صغيرة يتكدس داخلها الفقراء مع حيواناتهم. ولجت حوشا يلعب به أطفال قذرون بجوار كرسي راحة مكشوف. وفي جانب ركع شاب على ركبتيه دافنا رأسه بين ركبتي حلاق يزيل شعره. ربطت الحمار في مسمار بمدخل الحوش، واتجهت إلى الكوخ الذي يقيم به عبد الظاهر مع أمه الكفيفة، ويدفع إيجارا له عشر بارات في الشهر.
Bilinmeyen sayfa