وفي اليوم الثاني نادى مناد بالرحيل، فتحرك ذلك الجيش الجم الكثير، تاركا القلعة لحامية غير قليلة، وترك معها مؤونة كافية، وسار الكل قاصدين جوقزين، وكل يمني نفسه بانتصار كبير على سوبيسكي وجنوده.
وهكذا يمني المنتصر دائما نفسه بالانتصار حتى إذا غلب وكان من ذوي النفوس الضعيفة اليائسة رجع القهقرى، أما إذا كان من ذوي النفوس الكبيرة والهمم العالية علل نفسه بالانتصار؛ منشدا قول الشاعر:
على المرء أن يسعى لما فيه نفعه
وليس عليه أن تتم المقاصد
ومن هذا الصنف الأخير كان كوبريلي أحمد باشا؛ فقد كان رجلا قوي الهمة على الآمال، لا تعجزه أية عقبة، ولا يقف في طريقه أي مانع، يسير إلى مرمى فكره ولبه، ولم يغب عن العالم ما فعله هذا الرجل العظيم، بل لا يجهل المؤرخون تلك المواقع التي كتبها بحد حسامه، وإن هزم أولا فإنه انتصر أخيرا، والعبرة بالآخر لا بالأول.
سار أحمد يقوده جيشه العرمرم، وكله آمال بالانتصار، فوصل إلى ضواحي جوقزين في سهل هناك وعسكر.
وصل خبر الأتراك إلى البولانديين؛ فأحدث هرجا بين الجنود الذين لم يلبثوا أن سمعوا نفيرا يأمرهم بالاجتماع، فاصطفوا، وخرج سوبيسكي من خيمته ممتطيا مركبه الأدهم الجميل إلى أن توسط الجيش فوقف، ووجد في هذه الساعة أن خير مشجع هو أن يلقي على جنوده خطابة صغيرة، تبث فيهم روح الإقدام، ولو أنهم كانوا في غنى عن أي مشجع.
ساد السكون، فلم تكن تسمع وقتئذ إلا ضربات القلوب التي لم تلبث أن هدأت حينما أدار سوبيسكي رأسه، ونظر نظرة المرتاح إلى جنوده، وابتسم، وقال مقلدا هنيبال في خطابه إلى جنوده:
أيها الجنود الشجعان
أدير رأسي وأوجه نظري فلا أرى أي ثغور باسمة، ولاوجوه نضرة دلالة على أنكم جنود بمعنى الكلمة تريدون النصر، وسيكون إن شاء الله حليفكم.
Bilinmeyen sayfa