أحسن رادع للإنسان عن شهواته أن يلتفت وراءه؛ فيرى في أمته وملته العلماء والحكماء والعظماء والحكام والقواد عاشوا ولا شغل لهم إلا مجدا أقاموه، وعزا شادوه، وشرفا حفظوه وأكبر مسهل له لاحتماله الضيم والذل: جهله بحالة نفسه، ونسيانه مجد آبائه وأجداده، حتى تسترت عنه كرامة أخلاقهم، وتحجب عنه جميل طباعهم، ولم يذكره مذكر بسابق أعمالهم الشريفة: أنه لا يأنف أبدا من إتيان الدنيئة، وعمل كل ما يخالف تلك الطباع الجميلة والأخلاق الطاهرة.
لذلك ترى الدهاة من الفاتحين - خصوصا رجال الممالك الغربية الآن الذين لا يغفلون عن تجربة ولا يغضون عن فرصة - إذا فتحوا بلدة إسلامية أو احتلوها تسلطوا على أهلها فأنسوهم دينهم وعوائدهم ولغتهم وتاريخ حياتهم ومجدهم، واستبدلوهم بذلك شيئا آخر، فتراهم إذا نسوا تاريخ حياتهم وأشربوا في قلوبهم تاريخ حياة غيرهم، ذهب كل فريق منهم بما اشتهى، وشبت النفوس على ما سبقت إليه، وبدت على الأمة أخلاق منكرة مبتكرة بعوائد غربية لا تنسب بالمرة لسوابق عوائدها، وتقربوا من تلك الأمم الطارئين بكل طريقة، وابتعدوا عن ذلك الأصل الشريف الذي هم منه.
ثم يتبع ذلك تقلص ظل الدولة الحاكمة، وفل حدها، ووهن سلطانها، وتتداعى للتلاشي والاضمحلال، وينتقص من عمرانها، ويندرس من سبلها ومعالمها، بمقدار انحراف رعيتها عن عوائدها الشريفة.
ثم تتناهى الأمة في الفجور، وتتفانى في البغي والضلال حتى تعود باللائمة على أصل دينها وعوائدها وأخلاقها، تقول - وهي لا تستحي من الله ولا من الخلق ولا من نفسها - إنها ما أخذت إلا من جهة تقصير دينها وتقاليده عن مقتضيات الحياة المدنية ومستلزماتها، وأفرادها يجهلون غاياته البعيدة في المآخذ والمتارك، يودون من صميم أفئدتهم أن لو استبدلوا بطباعهم وعوائدهم شيئا آخر ليخرجوا من ذلك الجنس، كما هو واقع الآن من بعض أهالي هذه البلاد المصرية، ووقع من قبلها في كثير من بلاد الإسلام كالأندلس وغيرها.
عذر أولئك أنهم يغدون ويروحون بين رجلين: إما عدو لهذه الملة يدعي عدم ملاءمة دينها للمدنية الجديدة (كبعض فلاسفة هذا الزمان)، وإما جاهل تاريخ حياتها؛ فلا يعرف منها شيئا لا خيرا ولا ضرا (كأغلب شبان هذا العصر).
لذلك هم يفرون من النسبة لهذا الدين، ويتجنبون القرابة لأمته وملته؛ لأنهم أقل الناس دراية به ومعرفة بفضائله، لا يعلمون - وهم أهله - مكرمة له يعدها المنتسب منهم إليه مفخرة إذا نازعه منازع في الانتساب إليه.
ينبغي لهم أن يتألموا من أن يكونوا مسلمين؛ لأنهم لا يدركون للمسلمين فتحا أبلوا فيه بلاء حسنا، ولا يعرفون لهم حربا ولا ضربا، ولا يتحققون في أي بقاع الأرض نشأ المسلمون وفي أي جهة كانوا شرقا أم غربا، ولا يحصون لهم عددا ليعلموا أنهم - وهم على قلتهم - فاجأوا حصون الممالك البعيدة ومعاقل العواصم النازحة؛ فأنزلوا حماتها من عروشهم، وبثوا فيها معالم دينهم، وصيروها حنيفية بعد أن كانت جاهلية.
كيف لا يأنفون من المسلمين وهم يعتقدون أنهم قوم نشأوا وسط البداوة، لا يعرفون غير جوب القفار وقطع الأودية، عاشوا في جهالة وماتوا في جهالة؟
لا يعقلون أن جميع مكارم الأخلاق إنما هي منتزعة منهم مأخوذة عنهم، وأن ما يدعيه المدعي من الخلال الحميدة - كالدعة والرحمة والشفقة والعدل والإنصاف والإحسان - إنما هو مجاز بالنسبة له حقيقة بالنسبة إليهم، وأن هذه الأمة جاهلية كانت وحنيفية لم تفارقها مكارم الأخلاق كحفظ الجار والجوار ومراعاة الشرف والذمة، وإحقاق الحق وقول الصدق، ومحاسن الأعمال وجميل الخصال.
من يعلمهم أن ملتهم هذه هي أول من تنافس أهلها في الخير، وتحدوا غيرهم بخلال الكرم كالعفو عن الزلات، والاحتمال من غير القادر، والقري للضيوف، وحمل الكل، وكسب المعدم، والصبر على المكاره، والوفاء بالعهد، وبذل الأموال في صون الأعراض، وتعظيم الشريعة، وإجلال العلماء الحاملين لها والوقوف عندما يحددون لهم من فعل أو ترك، وكرامة أهل الدين، والحياء من الأكابر وتوقيرهم وإجلالهم، والانقياد إلى الحق مع الداعي إليه، وإنصاف المستضعفين ومنع التبذل في أموالهم، والتواضع للمساكين، واستماع شكوى المستغيثين، والتجافي عن الغدر، والمكر والخديعة ونقض العهد.
Bilinmeyen sayfa