الشيء الغريب الذي لحظته بعد قليل أن الجندي رغم اشتراكه في موجة المرح العامة، في أعماق نفسه كان يبدو مكتئبا حزينا، وقد أحست أن الحالة سببها هو حرمانه من نصيبه في صفقة الخميس، ولكنها حين علمت أن أنصبتهم جميعا وصلتهم وكأنهم كانوا حاضرين. خبر في حد ذاته أخذ سناء على غرة وجعلها تفطن إلى أن الهدف من حكاية إخفاء الأمر عن محمد الجندي والآخرين هو مجرد خدعة من عبادة بك قصد بها أن يبث الطمأنينة في نفسها حتى تلتف حولها «الخية»، إذن دبر الرجل كل ذلك بهدف إيقاعها، ومن المحتمل أنه أشرك معه الجندي والباشكاتب في التدبير، وحتى إذا كان هذا هو ما حدث فأية أهمية الآن وهي لم تأخذ النقود لبراعة التدبير؟ لقد أخذتها لأسباب لا تدريها ... وحتى قبل أن تأخذها بزمن طويل، من لحظة دق عبادة الباب ودخل وربما قبلها بكثير، فما علينا من هذا كله، المهم لماذا هذا الاكتئاب الذي يطفو من أعماق الجندي ويطغى على ملامحه؟
سألته وألحت ولم يستطع الصمود، أخبرها أنها كادت منذ ذلك اليوم الذي ألقت عليه فيه خطابها الطويل أن تنجح في تغيير مجرى حياته كله وفي إنقاذه، هو الجندي الذي قضى أكثر من ثلاثين عاما يعيث في الدنيا فسادا ويؤذي نفسه ولا يستريح حتى يتأذى الآخرون، وأنه من يومها أصبحت له المثل والبطلة، ومن شدة ثقته بها تحدى عبادة أن يوقعها، وما كان غيابه بالأمس إلا لإعطائه الفرصة كاملة ... وكان واثقا تماما من فشل عبادة ونجاحها، أما وقد نجح الرجل، أما وقد حدث ما حدث فهو لا يدري لماذا أحس ولا يزال يحس بالحزن والاكتئاب؟ - ولا يهمك.
قالتها له سناء ككلمة عابرة اختارتها بنت لحظتها لتعبر بها عن حقيقة رأيها في تلك الساعة، ولم تكن تدري أنها ستصبح بعد هذا كلمتها المفضلة، وأنها ستظل ترددها مئات المرات وآلافها كلما حاول أحد لومها أو لمحت بوادر تدل على أنها في الطريق إلى لوم نفسها.
وكأن محمد الجندي كان ينتظر هذه الكلمة ليذهب عنه اكتئاب ضاق به ... اكتئاب حديث العهد بنفسه غير أصيل، اقتلعته الكلمة وأعادته في لمحة إلى الجندي كما كان وكما هو كائن وكما من المحتمل أن يظل يكون.
وساد الانسجام التام الحجرة، وأرسل خفاجة في طلب مشروبات وعلب سجائر فاخرة، وعزم أحدهم على سناء بسيجارة فرفضت بغير شدة وحين أعاد العزومة قبلتها، وأشعلتها ومضت تجرب باضطراب المبتدئة كيف تمسكها وتجذب أنفاسها وتتفادى الكحة.
وبلا ورقة أو مقدمات، وقبيل انتهاء اليوم بدقائق ذهب الجندي لمكتبها وانحنى بجذعه كله حتى أصبح وجهه يكاد يلمس وجهها، ولو كان يعلم أن سناء حين ستراه عن قرب هكذا ستتمسك برأيها الأزلي فيه لما اقترب منها كل هذا الاقتراب، المهم أنه بكلمات متلجلجة متقطعة لم تحتمل سناء أن تظل تنتظره وهو يلوكها ويتلكأ في نطقها أكثر من هذا فسألته: ولا يهمك ... بس قول في أي كازينو عايز؟ - إيه رأيك في ... والله بيتهيألي أحسن من التاني ده. - يا أخي فلقتني ... كازينو الحمام ... ح تلاقيني بكره الساعة ستة هناك.
نطقت الجملة وسكتت هنيهة، وفي أثنائها اقشعر جسدها لدى صورته حين مرت بخيالها وهو يهدر هدير الكلب «الرجل» ووجدت نفسها تقول: ولا إيه رأيك؟ ما بلاش الكازينوهات لحسن حد يشوفنا.
وفتح محمد الجندي فاه مدهوشا مروعا مذهولا، معتقدا لا بد أنها أصيبت بمرض أو مستها لوثة، إذ لم يكن باستطاعته أن يتخيل أو يصدق أنها حقيقة تعني ما تقول. (تمت)
Bilinmeyen sayfa