ولكنى وجدت كل شىء هادئا كما تركته. فقلت أنفض الأرض حول البيت فإن الليل فرصتى، فلن يأخذ أحد على متوجهى.
وكان باب الشرفة مفتوحا ليدخل الهواء. فخرجت إليها ومددت، فجذبت غصنا من الشجرة التى لفتت نظرى فى الصباح والتى تسلقها عم أحمد لما جاءنى بالنمل. وجلست على حافة الشرفة، وثبت رجلى بين فرعين. وانتقلت إلى الشجرة. وتذكرت أنى كنت فى حداثتى الأولى أحسن تسلق الشجر. وشجعنى ذلك وقوى قلبى، وإن كان الحذر لم يزايلنى، وكان فى أغضانها خشونة آذت هذا الجلد الرقيق الريان، وخطر لى وأنا أتأفف أن حمادة على حق، فما هذا بجلد صالح لجسم رجل. وتذكرت وأنا أنتقل هابطا بين الغصون شجرة جميز سهوق فى بيتنا الذى نشأت فيه كنت أوثرها على السلم. ولكنى كنت ولدا قويا مصكا لا أعيا بعمل لا كهذا الخرع الذى دسونى فيه.
وبعد مشقة عظيمة صارت قدماى على الأرض. فنفضت التراب والورق. وشرعت أتلفت. وتمنيت لو كنت أعرف أين العم أحمد الان، فأذهب إليه وأستعين به فإنى بغيره خليق أن أسير على غير هدى. ولم يكن فى رأسى خطة واضحة. وكان كل ما يخطر لى هو أن أحاول أن أعرف آين آنا من الكرة الأرضية؟ فقد رجح عندى أنى ما زلت عليها. ولقد كان هذا أولى بالنهار. ولكن ما فات مات. ولا فائدة من الأسف.
وطار طائر ففزعت لحركة جناحيه المفاجئة وخفقهما. وكنت قد نسيت الظلام وما عسى أن يطالعنى به. فسألت الله السلامة. ولست ممن يخافون الليل وسواده، ولكنى انتقلت إلى جسم جديد، أجهل كنهه. ولقد امتحنته فى المساء فخيب أملى فمن أدرانى الان أنى لست متهورا فى هجومى به على هذا الليل الأسود؟
وما كاد هذا يمر بخاطرى حتى رأيت عينين واسعتين شاخصتين فاضطربت وزاد اضطرابى أنى لا أرى الجسم الذى تطلان منه. ولم أدر أهما عينا أفعى أم قط أم بومة؟ وتراجعت ويدى على فمى لأكتم الصرخة التى أحسست أنها ستنطلق. ولم أر أن ذا العينين يدنو منى فاطمأن قلبى قليلا. وخطر لى أن أجرب. فقلت: «بس» فاختفت العينان. فأقدمت وسرت خطوات. وإذا هما أمامى مرة أخرى. فقلت: «بس» فاختفتا ثانية. فمضيت فى طريقى وقد أيقنت أن هذا قط أسود ولكن خوفى ما كان يخف إلا ليشتد، ولا يذهب إلا ليجىء. فقد كان القط - كلما قلت «بس» - يتركنى أو يختفى، او يمضى أمامى، ولكنه كان فيما يخيل إلى، كأنما ينط ويدور ويرشقنى بهذه النظرة الجامدة الساكنة التى لا يتغير تعبيرها؛ وكان ربما كبر فى وهمى أنه عفريت، خرج لى فى فى زى قط، ولكنى كنت أطرد هذا الخاطر وأقول إن «سونه» قد تفزعه العفاريت أو القطط ولكن سونه يحتل بدنه عقلى أنا الناضج الذى لا تخيفه هذه الأوهام.
وصار القط رائدى، فهو يمضى قدامى، وأنا أمضى خلفه. فما كان يهمل أن يبدو لى بعد كل اختفاء، وما كان أغرب أن أمشى مهتديا بعينين تومضان في ظلمة الليل، ولشد ما وددت أن ألمس الجسم الذى هما فيه. فقد كانتا كأنهما منزوعتان ومرسلتان فى الفضاء وحدهما، وبمجردهما.
وإنا لنخبط فى هذا الليل - أنا والقط أو أنا وعيناه - وإذا بزمارة الإنذار تنطلق مؤذنة بغارة جوية. يا خبر أسود! وما العمل الآن؟ لقد بعدت عن البيت حتى اختفى فأنا لا أراه ولا أعرف موقعة من الجهات الأربع. فأين أختبئ إذا احتجت إلى الاختباء؟ وسيلتمسوننى فى غرفتى ليحملونى معهم إلى مخبأ - إذا كان لهم مخبأ - أو ليطمئنونى ويذهبوا عنى الروع. ولن يجدونى. وحينئذ تقوم القيامة. وكيف حال أهلى يا ترى الآن؟ أهلى أنا لا أهل الذى أنا مدسوس فيه؟ وحدثت نفسى أنه لا خوف عليهم أن يجزعوا كما أرى الذى ابتليت بجسمه يجزع. فقد راح ينتفض ويرعد حتى كاد يخلع لى فؤادى. ثم ذهب يعدو ويدردب من الخوف ويحملنى معه هنا وههنا من فرط الفرق والحيرة. وأنا أصيح به - من الباطن: ماهذا؟ ليس هكذا يصنع العقلاء.. ألايمكن أن تقف وتسكن حتى أفكر لك؟ فلا يقف ولايسكن ولايتيح لى فرصة للتفكير. فأنا محمول معه بكرهى إلى حيث لا أعلم.
وسمعت طلقة مدفع فقلت: «آه جاءك الموت ياساكن جسم سونه الأهوج الاخرق الوهنان» أترى عقله قد أخلق وتمزق واحتاج أن يرقع بعقلى؟ وليته يدعنى أرقعه له! إذن لاستطعت أن أجرى أمره على استواء.
وذهبت أعدو معه، وهل كان يسعنى أن أتخلف؟ وإذا بى أصطدم بما حسبته أول الأمر شجرة أو نخلة، ثم تبينت أنه إنسان مثلى، فقد قال: «أخ» كما قلت ووقعت على الأرض ولكن يدى كانت مطبقة على قطعة من ثوبه عرفت، فيما بعد، أنها تكة سراويله، فأدركت أنه العم أحمد. على أنه أعفانى من إضناء عقلى فقد سآلنى: «من هذا؟ لكأنى به سونه»؟ فعرفته من صوته قبل أن أعرفه من شارته ورايته - أعنى تكته.
وقال سونه - أخزاه الله: «خبئنى ياعم أحمد»!
Bilinmeyen sayfa