قالت: «إن الله مع الصابرين. كل شىء فى وقته».
فأسلمت أمرى إلى الله، وهززت رأسى وكتفى، وقمت فسألتنى: «إلى أين»؟
قلت: «سأتمشى فى الحديقة».
قالت: «لا توسخ ثيابك ... ليس فى هذا اليوم».
فقلت فى نفسى: «يا له من يوم»!
أتعرف ذلك الصندوق الذى يضعه بعضهم لبريده على بابه وفى أسفله رقعتان كتب على إحداهما «موجود» وعلى الأخرى «غير موجود» ولا تبدو واحدة إلا بحجب الأخرى؟ كان هذا حالى فيما أحس. فأنا تارة أفكر بعقلى القديم الذى كان لى فى صورتى السابقة، وأصدر فيما أعمل عن وحيه، ثم ينحى هذا العقل، أو يطرح فى زاوية أو ركن، أو يحجبه حاجب، ويظهر العقل الجديد الذى يلائم حال الطفولة التى رددت إليها، وهكذا دواليك.
وهذه السيدة التى رأيتها جالسة تنسج، بدت لى فى أول الأمر زوجة، فدار فى نفسى لها ما يدور فى نفس الرجل لامرأته، ثم إذا بشىء يحجب هذه الناحية من إدراكى، أو يغلق طاقة، ويفتح أخرى، فأرتد غلاما ينط ويلعب، ويرتمى على حجر السيدة، ويكون معها كما يكون الولد مع أمه، ويفرح بلعبة أو هدية، ولا يطيق الصبر على تركها إلى المساء.
ولم أكد أقول إنى خارج إلى الحديقة حتى عاد عقلى القديم موجودا. فرحت أفكر فى المخرج وأحاذر أن تبدو على الحيرة، وأتظاهر بأنى أتلكأ وأنا أجوب الحجرات، وأفتح بابا وأغلق بابا، حتى وفقنى الله. وكان الخدم كثيرين - رجالا ونساء - ولا عجب أن يكثروا فى بيت طويل عريض كهذا، ولكن العجب أن تطيق العيش فيه هذه السيدة المزدوجة الشخصية التى أراها تارة أما وتارة زوجة، وهى مستفردة فيه ولا أنيس ولا جليس من إنسان أو كلب، ولكن عجبى لم يطل، فإن الأوضاع كلها مقلوبة.
وانطلقت أفكر وأنا أتمشى فى الحديقة، وأعجب تارة بألوان الزهر علي أغصانه، وأنزع غلائله طورا وأفركها بأصابعى ولا أبالى جمالها ولا أرحم رقتها - أقول إنى ذهبت أفكر فى هذه الحداثة التى يقول الكبار - وأنا منهم - إنها أحلى وأسعد وأرغد أيام الحياة، ومع ذلك أرانى ناسيا كيف كنت إذ أنا صبى، وماذا بلغ من استمتاعى بذلك الرغد الذى نتحسر عليه، بل أنا قد قضيت معظم الساعة أو الساعتين اللتين عدت فيهما حدثا فى استثقال هذه الطفولة والضجر منها والتبرم بها. أم ترى ذاك لأنى لست طفلا صرفا؟
وهذا العم الذى سيشق الأرض ويخرج لى من جوفها، كالجنى، كيف هو يا ترى؟ قد عرفت الأم وأحسست لها فى قلبى رقة لأنها تشبه زوجتى (التى لا يخلو قلبى من الموجدة عليها لكثرة معابثتها لى وحضها الولدين الشقيين على كيدى) وبقى أن نعرف العم الذى لم يكن لنا فى حساب. أطويل هو أم قصير؟ وثقيل أم خفيف ظريف؟ ووددت لو أن أمي أرتنى هديته لأعرف ذوقه ورأيه فى ابن أخيه، من اختياره.
Bilinmeyen sayfa