قال هذا وهم ليتابع السير، فأوقفه الجريح بقوله: «لا تتركني، أنت تعرفني، وأنا أعرفك، أنا مائت لا محالة».
فقال الخوري في ذاته، وقد اصفر وجهه، وارتعشت شفتاه: «أظنه أحد المجانين الذين يتوهون في البرية» ثم عاد، وقال لنفسه: «إن منظر جراحه يخيفني، فماذا عسى أفعل له ... إن طيب النفوس لا يستطيع أن يداوي الأجساد».
ومشى الخوري بضع خطوات، فصاح الجريح بصوت يذيب الجماد قائلا: «اقترب مني، اقترب فنحن أصدقاء منذ زمن بعيد، أنت الخوري سمعان الراعي الصالح وأنا، أنا لست بلص ولا بمجنون، اقترب مني ولا تدعني أموت وحيدا في هذه البرية الخالية، اقترب فأقول لك من أنا».
فاقترب الخوري سمعان من المنازع، وانحنى فوقه متفرسا، فرأى وجها غريب الخطوط يأتلف بين تقاطيعه الذكاء بالدهاء، والقباحة بالجمال، والخباثة بالدماثة، فتراجع إلى الوراء، وصرخ قائلا: «من أنت؟».
فقال المنازع بصوت خافت: «لا تخف يا أبت فنحن أصدقاء منذ عهد بعيد، أعني علي النهوض، وسر بي إلى الساقية القريبة، واغسل جراحي بمنديلك».
فصرخ الخوري: «قل لي من أنت، فأنا لا أعرفك، ولا أذكر بأنني رأيتك في حياتي».
فأجاب الجريح، وحشرجة الموت تعانق صوته: «أنت تعلم من أنا، فقد لقيتني ألف مرة وشاهدت وجهي في كل مكان، أنا أقرب المخلوقات إليك، بل أنا أعز عليك من حياتك».
فصاح الخوري قائلا: «أنت كاذب محتال، وخليق بالمنازعين الصدق، فأنا لم أر وجهك في حياتي، قل من أنت وإلا تركتك تموت مضرجا بدمائك ».
فتحرك الجريح قليلا، وشخص بعيني الخوري، وقد ظهرت على شفتيه ابتسامة معنوية، وبصوت هادئ ناعم عميق قال: «أنا الشيطان».
فصرخ الكاهن صوتا هائلا ارتعشت له زوايا ذلك الوادي، ثم نظر إليه محدقا فرأى أن جسد الجريح ينطبق بتفاصيله، ومعالمه على هيأة الأبالسة في صورة الدينونة المعلقة على جدار كنيسة القرية، ثم صرخ مرتجفا: «لقد أراني الله صورتك الجهنمية؛ ليزيد بك كرهي، فلتكن ملعونا إلى أبد الآبدين».
Bilinmeyen sayfa