ولما انتهى الخوري إسطفان من قراءة الرسالة، طواها، وأعادها إلى جيبه، وجلس بقرب النافذة ينظر إلى الوادي البعيد، وعلى وجهه المتجعد أمارات التفكر العميق.
ولكن لم تمر دقيقة حتى انتصب فجأة على قدميه كأنه وجد بين ثنايا أفكاره سرا، دقيقا هائلا، محجوبا بالظواهر، ملتفا بالسطحيات؛ فهتف صارخا: ما أكثر دهائك يا فارس الرحال؛ فقد عرفت كيف تقتل ابن مالك، وتبقى بريئا من دمه، قد بعثت إليه بالسم ممزوجا بالعسل، قد بعثت إليه السيف ملتفا بالحرير، قد بعثت إليه الموت طي الرسالة، فعندما صوب بندقيته إلى صدره كانت يدك قابضة على يده، وإرادتك محيطة بإرادته ... أواه ما أكثر دهائك يا فارس الرحال.
وعاد الخوري إسطفان فجلس على المقعد، هازا رأسه، ممشطا لحيته بأصابعه، مبتسما ابتسامات ذات معان أشد هولا من المأساة، وبعد هنيهة تناول كتابا من خزانة قريبة، وأخذ يتلو بعض موشحات القديس أفرام السرياني، وهو يرفع عينيه بين الآونة، والأخرى؛ ليسمع صراخ النساء آتيا من قلب القرية .
ما وراء الرداء
عندما انتصف الليل فتحت راحيل عينيها، وحدقت هنيهة بسقف الغرفة، ثم أغمضتها وتنهدت تنهدة عميقة متقطعة، وبصوت يكاد أن يكون لهاثا قالت: «ها قد بلغ الصباح أطراف الوادي، فلنذهب إلى لقائه».
فاقترب إذ ذاك الكاهن من مضجعها، وجس يدها، فوجدها باردة كالثلج، ثم وضع أصابعه بلطف فوق قلبها، فألفاه ساكنا كالدهور، فأحنى رأسه، وارتعشت شفتاه كأنه يريد أن يلفظ كلمة علوية ترددها أشباح الليل في تلك الأودية القاصية الخالية، ثم صلب ذراعيها فوق صدرها، والتفت نحو الرجل الجالس في قرنة مظلمة من تلك الغرفة، وقال بصوت ملؤه الشفقة والانعطاف: «قد ذهبت زوجتك إلى لقاء ربها، فقم يا أخي اركع بجانبي لنصلي».
فرفع الرجل رأسه، وقد تغيرت ملامحه، وكبرت عيناه كأنه رأى في فضاء الغرفة ظل إله غير معروف، ثم وقف بهدوء، وتقدم من مضجع زوجته، وركع بجانب الكاهن مصليا منتحبا، راسما بين الآونة، والأخرى إشارة الصليب على وجهه وصدره.
وانتصب الكاهن واضعا يده على كتف الرجل قائلا: «قم يا أخي تعال إلى الغرفة الثانية، فأنت بحاجة إلى النوم والراحة».
فلم يبد الرجل معارضة، بل وقف، وسار إلى الغرفة المحاذية، ورمى بنفسه على سرير ضيق ممددا جسده شأن من ينهكه الهم، والسهر، والانتظار.
ولم تمر بضع دقائق حتى غلب النوم أجفانه؛ فرقد كالطفل بين ذراعي أمه. •••
Bilinmeyen sayfa