سيل من الصراخ والعويل مختلط باللغط.
غلطان.
عيون تحدجه بالاتهام والتعذيب وتسوق له شتائم جارحة، يراها وينزف لها، ويبتلعها.
غلطان، غلطان يا ناس، غلطان، أنا المسئول عن عبث الولد وسجنه، مسئول عن إخراجه وتزويجه، مسئول عن الدورق الذي كسر، والتليفزيون الذي لا يعمل، مسئول عن عدم تطبيق الشريعة الإسلامية، والتعذيب في السجون، والحربين العالميتين: الأولى والثانية، وإذا اشتعلت الثالثة أكون أنا المسئول، غلطان.
وحين سكت آخر صوت في البيت وآخر احتجاج، وكأن شيئا ما كان تشنجت الرغبة في ساقه، بحدة، أن يرفس.
ولم يستطع.
كانت آلام المفاصل الحاد قد عادت تشل ركبته.
أخرج الولد من السجن، وقيدت القضية جنحة، واستعاد عقد الشقة وأصلح التليفزيون، واصطلحوا مع الجيران، وبدأت الزوجة تتحدث عمن ترشحه لخطبة الابنة، وتقطع الحديث بضرورة شراء جهاز تكييف فهي لا تنام من فرط حرارة الجو وصوت جهاز الجيران.
وحين ناموا جميعا، وبقي هو ساهرا، لم ينم إلا بعد أن خبط رأسه في الحائط عدة مرات. •••
في منطقة معزولة من شط النيل عند القناطر الخيرية، جلس وقد مدد ساقيه الحافيتين في الماء. الجو حار، ولكن النباتات الشيطانية تلتهم حرارته، ويصدر عنها وعن ماء النيل رائحة كرائحة ما قبل نشأة الحياة. الصنارة تغمز، غمزا ثقيلا، دفقة فرحة غامرة تنداح في صدره، قلبه أخيرا ينبض ذلك النبض المدوي العالي، كنبض أول قبلة. أخرج السمكة بلطية فتية وزنها لا أقل من كيلو ستتكفل بمصاريف اليوم، وما تبقى من النهار، ويفيض ما يكفي علبة الدخان، ويبيت الليل عند الخفير في عشته وهدية لابنته السمراء المليئة بحيوية البلطي ودفء ماء النيل في الصيف.
Bilinmeyen sayfa