وصحا.
في الضحى صحا.
المطر كان قد كف، ولكن ضجة الشارع والترام بدت كما لو كانت قد مضى على بدئها عشر ساعات. ظل يحدق طويلا من خلال فتحة الشجرة إلى المارة والعربات، ويجتر نصف نائم عمره كله حتى يتذكر اللحظة التي دلف فيها إلى مثواه الجديد ذاك، وعمره كله كوم وليلة الأمس وحدها كومة أخرى، وثمة فاصل حاد باتر بينهما.
وبأيد واهنة وأذرع متراخية كسولة راح يتحسس الجدار الداخلي للفجوة، كأنما يقلب بين أصابعه محتويات كنز عثر عليه أخيرا، وأصبح ملكه وفي حوزته.
وأحس أنه جوعان جوعا لم يحدث له في حياته أبدا.
ولكن كان عليه أن يغسل وجهه أولا، والنيل بجواره، يا له من قصر فاخر، حتى الماء يجاوره، والأمكنة وافرة لقضاء حاجته.
وكأن أيضا، حين انحلت مشكلة مأواه ومنامه، تفتحت أبواب الرزق في وجهه، فما كاد يخطو بضع خطوات في الشارع، حتى طلبت منه سيدة هبطت لتوها من الأوتوبيس أن يحمل عنها حقيبتها، ورغم ثقل الحقيبة، فقد أحس بها في خفة الريشة، ورغم أنه أوصلها لفم الخليج فقط فقد أعطته عشرة قروش بأكملها، ولأول مرة في حياته يفطر فولا وطعمية وبصلا، ويشرب شايا، ويدخن سيجارة من أولها لآخرها.
وسرح في شوارع المدينة، وكان رزقه واسعا في ذلك اليوم، فحين جاء الليل كان في جيبه ما يكفيه لدخول سينما الروضة ويعشيه، ويبقى معه أيضا «ريالا» يبدأ به يوم غده.
وأحس وهو عائد من السينما بعد أن شاهد فيلمين أنه في طريقه إلى مكان أصبح عزيزا عليه تماما. أعز عليه من أي بيت أو مكان سكنه. شيء واحد كان يخنقه إذا فكر فيه، أن يعود ليجد المكان مشغولا بقاطن آخر اكتشفه، ولكنه كان دائما فاتحا فاه، فارغا، ينتظره، ولولا أنه خاف على نفسه أن يجن لاندفع يحتضن جدرانه من الداخل، ويغني لعبد الحليم حافظ، ويصرخ في المارة جميعا: لقد أصبح لي مأوى، بل إن سعادته القصوى كانت أنه قد أصبح له شيء يخصه، مكان ينتمي إليه، وكأنما عثر على عائلة لا أب فيها يموت، ولا زوج أم يقطع جسده، وينهش كرامته. أصبح له هو، التائه في بحر الحياة، مأوى.
ولكن الليلة كانت باردة، وظل مغلق الجفنين والنوم مستعص عليه، وماذا يهمه حتى لو قضى الليل بطوله ساهرا، في الصباح أيضا سيكون المكان ملكا خالصا له لا ينازعه فيه أحد، ولا يوقظه، إذا نام، من نومه أحد، مكانه، بيته.
Bilinmeyen sayfa