على أن المأمون قد شخص سنة 215ه إلى بلاد الروم ليغزوها سالكا إليها طريق الموصل، ثم منبج ثم دابق ثم أنطاكية ثم المصيصة، ومنها خرج إلى طرسوس، وهي الثغر الإسلامي، ومن طرسوس دخل بلاد الروم في منتصف جمادى الأولى (يوليو سنة 830م) ففتح وغنم كثيرا من الحصون ثم شخص إلى الشام، وورد عليه في دمشق الخبر بأن ملك الروم قتل قوما من أهل طرسوس والمصيصة، فأعاد الكرة إلى بلاد الروم، وكان الظفر والتوفيق حليفه في هذه الكرة أيضا.
وفي المدة التي قضاها المأمون بين مصر ودمشق بدأت المناوشات بين عماله وملك الروم، ثم اشتدت حتى اضطر إلى أن يشخص إلى بلاد الروم للمرة الثالثة، وهي المرة التي توفي فيها.
وفيما هو سائر إليها معتزما تحقيق خطة رسمها لنفسه؛ إذ يقول: أوجه إلى العرب فآتي بهم من البوادي ثم أنزلهم كل مدينة افتتحها حتى أضرب إلى القسطنطينية، إذ جاءه رسول ملك الروم يحمل إليه كتاب مولاه يطلب فيه الصلح والمهادنة، وهذه نسخته فيما يقول الرواة العرب: «أما بعد، فإن اجتماع المختلفين على حظهما أولى بهما في الرأي مما عاد بالضرر عليهما، ولست حريا أن تدع لحظ يصل إلى غيرك حظا تحوزه إلى نفسك، وفي علمك كاف عن إخبارك، وقد كنت كتبت إليك داعيا إلى المسالمة، راغبا في فضيلة المهادنة، لتضع أوزار الحرب عنا، ونكون كل واحد لكل واحد وليا وحزبا، مع اتصال المرافق والفسح في المتاجر وفك المستأسر وأمن الطرق والبيضة، فإن أبيت فلا أدب لك في الخمر،
13
ولا أزخرف لك في القول، فإني لخائض إليك غمارها، آخذ عليك أسدادها، شان خيلها ورجالها، وإن أفعل فبعد أن قدمت المعذرة، وأقمت بيني وبينك علم الحجة. والسلام».
أما رد المأمون عليه، فيقول المؤرخون العرب إن نسخته كانت: «أما بعد، فقد بلغني كتابك فيما سألت من الهدنة، ودعوت إليه من الموادعة، وخلطت فيه من اللين والشدة مما استعطفت به من شرح المتاجر واتصال المرافق وفك الأسارى ورفع القتل والقتال، فلولا ما رجعت إليه من إعمال التؤدة، والأخذ بالحظ في تقليب الفكرة، وألا أعتقد الرأي في مستقبلة إلا في استصلاح ما أوثر في معتقبه، لجعلت جواب كتابك خيلا تحمل رجالا من أهل البأس والنجدة والبصيرة، ينازعونكم عن ثكلكم، ويتقربون إلى الله بدمائكم، ويستقلون في ذات الله ما نالهم من ألم شوكتكم، ثم أوصل إليهم من الأمداد، وأبلغ لهم كافيا من العدة والعتاد؛ هم أظمأ إلى موارد المنايا منكم إلى السلامة من مخوف معرتهم عليكم، موعدهم إحدى الحسنيين: عاجل غلبة، أو كريم منقلب، غير أني رأيت أن أتقدم إليك بالموعظة التي يثبت الله بها عليك الحجة؛ من الدعاء لك ولمن معك إلى الوحدانية والشريعة الحنيفية، فإن أبيت ففدية توجب ذمة، وتثبت نظرة، وإن تركت ذلك ففي يقين المعاينة لنعوتنا ما يغني عن الإبلاغ في القول والإغراق في الصفة. والسلام على من اتبع الهدى». (4) كلمة ختامية عن وفاة المأمون ورجالاته ومعاصريه ووصيته
لقد عاجلت المنية المأمون دون تحقيق خطته بموضع يقال له «البدندون» بين «لؤلؤة» و«طرسوس»، وكانت وفاته لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 218ه وسنه ثمان وأربعون سنة وأربعة أشهر.
أما عن كبار رجالات المأمون وولاته فيقول اليعقوبي: وكان الغالب عليه في خلافته ذو الرياستين ثم جماعة منهم: الحسن بن سهل، وأحمد بن أبي خالد، وأحمد بن يوسف، وكان على شرطته العباس بن المسيب بن زهير، ثم عزله وولى طاهر بن الحسين ثم عبد الله بن طاهر الذي استخلف إسحاق بن إبراهيم ببغداد، فوجه إسحاق بأخيه خليفة له على شرطته.
وكان على حرسه شبيب بن حميد بن قحطبة، ثم عزله وولاه قومس، واستعمل مكانه هرثمة بن أعين ثم عبد الواحد بن سلامة الطحلاوي قرابة هرثمة، ثم علي بن هشام ثم قتله وولى عجيف بن عنبسة، وكانت حجابته إلى أحمد بن هشام وعلي بن صالح صاحب المصلى، قال: وخلف من الولد الذكور ستة عشر ذكرا؛ وهم: محمد، وإسماعيل، وعلي ، والحسن، وإبراهيم، وموسى، وهارون، وعيسى، وأحمد، والعباس، والفضل، والحسين، ويعقوب، وجعفر، ومحمد الأكبر - وهو ابن معللة وتوفي في حياته - ومحمد الأصغر وعبيد الله أمهما أم عيسى بنت موسى الهادي.
أما صاحب «نهاية الأرب» فقد ذكر في الجزء العشرين من كتابه أن حجابه هم: عبد الحميد بن شبث، ثم محمد وعلي ابنا صالح مولى المنصور، ثم إسماعيل بن محمد بن صالح.
Bilinmeyen sayfa