201

ونريد الآن أن نقفك على مبلغ نفور الرأي العام من فعل الأمين وجماعته مما رواه لنا المؤرخون، وسنلخصه لك - كطريقتنا التي أخذنا بها أنفسنا، والتي لم نحد عنها إلا إذا دعت الضرورة والمصلحة إلى تصوير أمر هام يحتاج إلى الشرح والإيضاح - ونعتمد في تلخيصنا هذا على مصادر عدة؛ منها: الطبري وابن الأثير واليعقوبي وغيرهم من الفرنجة الذين كتبوا في التاريخ الإسلامي في العصر الذي نحن بسبيل القول فيه.

روى المؤرخون أن محمدا الأمين عقد في السنة التي نسرد عليك مجمل أخبارها لعلي بن عيسى بن ماهان على كور الجبل كلها: نهاوند وهمذان وقم وأصفهان، حربها وخراجها، وضم إليه جماعة من القواد، وأمر له، فيما ذكر، بمائتي ألف دينار، ولولده بخمسين ألف دينار، وأعطى الجند مالا عظيما، وأمر له بألفي سيف من السيوف المحلاة، وستة آلاف ثوب للخلع ، وقيل: إن محمدا الأمين أحضر بعد ذلك رجال بيته ومشيريه وتكلم فيهم بما كان بين الأخوين، وكان من المنتظر لو أن للأمين ظهيرا من الرأي العام أن يجد من يمتدح فعلته، أو يخطب في نشر الدعوة له، وبيان أنه على حق فيما يريد أن يفعل، ولكنا نجد أنه انتهى إلى آخر كلامه فلم يتكلم بعده إلا ثلاثة من جماعته الظاهرين ممن عرفنا مصالحهم في الزلفى إليه والتقرب منه؛ وهم: سعيد بن الفضل الخطيب، ومحمد بن عيسى بن نهيك، والفضل بن الربيع.

على أنا يجب أن نقول: إن الفضل بن الربيع كان ماكرا أعظم ماكر، ولكن مكره كان مفضوحا في هذا الموقف، فقد قال في معرض كلامه: «إن الأمير موسى بن أمير المؤمنين قد أمر لكم، يا معاشر أهل خراسان، من صلب ماله بثلاثة آلاف درهم تقسم بينكم».

نقول: إن مكره كان مفضوحا لأنا نعلم أن موسى كان طفلا غرا لا يفهم هذه الأمور ولا يعقلها، ولكن الفضل أراد أن يقر عين الأمين، ولا يمكن أن يكون جادا في رغبته في إثارة الخراسانيين بهذه الطريقة المكشوفة، ولكنها البطانة يأبى عليها رياؤها ونفاقها وتزلفها إلا أن تصور لولي نعمتها أمير المؤمنين أنه الحكمة والعدل، وأنه النباغة والعبقرية، وأن سلالته قد جمع أحداثها مرانة الشيوخ وكفايتهم، وأصالة المجربين ودرايتهم، وذكاء النوابغ ومواهبهم، وهكذا تستمر البطانة على نغمتها هذه؛ لا صفة بمن عداه وعدا حامته وخاصته، ما شاء هوى الخليفة، حتى يقع في روعه أن حاشيته لا تنطق إلا حقا، ولا تقول إلا صدقا.

ولنتساءل الآن: ماذا كان من المأمون إزاء تصرفات أخيه؟

إنه لم يتهاون البتة في أموره صغيرها وكبيرها، وكان يقابل كل تصرف من أخيه بمثيله ونظيره، مع وضع كل شيء موضعه، واستقصاء المصلحة والصواب في تصرفه.

وقد تراسل الأخوان بعد ذلك بكتب عدة، وإنا نثبت هنا نص كتاب المأمون ردا على كتاب بعث به إليه الأمين مع وفد سياسي في شأن البيعة لابنه موسى، قال: «أما بعد، فقد انتهى إلي كتاب أمير المؤمنين منكرا لإبائي منزلة تهضمني بها، وأرادني على خلاف ما يعلم من الحق فيها، ولعمري إن أورد أمير المؤمنين موارد النصفة، فلم يطالب إلا بها ولم يوجب نكرة تركها لانبسطت بالحجة مطالع مقالته، ولكنت محجوجا بمفارقة ما يوجب من طاعته، فأما وأنا مذعن بها، وهو على ترك أعمالها، فأولى به أن يدير الحق في أمره، ثم يأخذ به ويعطي من نفسه، فإن صرت إلى الحق فرغت عن قلبه، وإن أبيت الحق قام بمعذرته، وأما ما وعد من بر طاعته، وأوعد من الوطأة بمخالفته، فهل أحد فارق الحق في فعله فأبقى للمتبين موضع ثقة بقوله؟! والسلام».

ولقد كان من تصرفات المأمون إزاء تصرفات أخيه وحاشيته أن كتب إلى علي بن عيسى، قائد الجيوش الأمينية، لما بلغه ما عزم عليه:

أما بعد، فإنك في ظل دعوة لم تزل أنت وسلفك بمكان ذب عن حريمها، وعلى العناية لحفظها، ورعاية لحقها، توجبون ذلك لأئمتكم، وتعتصمون بحبل جماعتكم، وتعطون بالطاعة من أنفسكم، وتكونون يدا على أهل مخالفتكم، وحزبا وإخوانا لأهل موافقتكم تؤثرونهم على الآباء والأبناء، وتتصرفون فيما تصرفوا فيه من منزلة شديدة ورخاء لا ترون شيئا أبلغ في صلاحكم من الأمر الجامع لألفتكم، ولا أجرى لبواركم مما دعا بشتات كلمتكم، ترون من رغب عن ذلك جائزا عن القصد، ومن أمه على منهاج الحق، ثم كنتم على منهاج الحق، ثم كنتم على أولئك سيوفا من سيوف نقم الله، فكم من أولئك قد صاروا وديعة مسبعة وجزرا جامدة، قد سفت الرياح في وجهه، وتداعت السباع إلى مصرعه غير ممهد ولا موسد قد صار إلى أمه ... وغير عاجل حظه ممن كانت الأئمة تنزلكم لذلك بحيث أنزلتم أنفسكم من الثقة بكم في أمورها، والتقدمة في آثارها، وأنت مستشعر دون كثير من ثقاتها وخاصتها، حتى بلغ الله بك في نفسك أن كنت قريع أهل دعوتك، والعالم القائم بمعظم أمر أمتك، إن قلت ادنوا دنوا وإن أشرت أقبلوا أقبلوا، وإن أمسكت وقفوا وقروا وئاما لك واستنصاحا، وتزداد نعمة مع الزيادة في نفسك، ويزدادون نعمة مع الزيادة لك بطاعتك، حتى حللت المحل الذي قربت به من يومك، وانقرض فيما دونه أكثر مدتك، لا ينتظر بعدها إلا ما يكون ختام عملك من خير فيرضى به ما تقدم من صالح فعلك، أو خلاف فيضل له متقدم سعيك. وقد ترى، يا أبا يحيى، حالا عليها جلوت أهل نعمتك، والولاة القائمة بحق إمامتك، من طعن في عقدة كنت القائم بشدها، وبعهود توليت معاقد أخذها، يبدأ فيها بالأخصين حتى أفضى الأمر إلى العامة من المسلمين، بالأيمان المحرجة والمواثيق المؤكدة، وما طلع مما يدعو إلى نشر كلمة وتفريق أمة وشت جماعة، وتتعرض به لتبديل نعمة وزوال ما وطأت الأسلاف من الأئمة. ومتى زالت نعمة من ولاة أمركم وصل زوالها إليكم في خواص أنفسكم، ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وليس الساعي في نشرها بساع فيها على نفسه دون السعي على حملتها القائمين بحرمتها، قد عرضوهم أن يكونوا جزرا لأعدائهم، وطعمة قوم تتظفر مخالبهم في دمائهم، ومكانك المكان الذي إن قلت رجع إلى قولك، وإن أشرت لم تتهم في نصيحتك، ولك مع إيثار الحق الحظوة عند أهل الحق - ولا سواء من حظي بعاجل مع فراق الحق فأوبق نفسه في عاقبته، ومن أعان الحق فأدرك به صلاح العاقبة مع وفور الحظ في عاجلته - وليس لك ما تستدعى ولا عليه ما تستعطف، ولكنه حق من حق أحسابك يجب ثوابه على ربك، ثم على من قمت بالحق فيه من أهل إمامتك، فإن أعجزك قول أو فعل، فصر إلى الدار التي تأمن فيها على نفسك، وتحكم فيها برأيك، وتجاوز إلى من يحسن تقبلا لصالح فعلك، ويكون مرجعك إلى عقدك وأموالك، ولك بذلك الله، وكفى بالله وكيلا، وإن تعذر ذلك بقية على نفسك فإمساكا بيدك وقولا بحق ما لم نخف وقوعه بكرهك، فلعل مقتديا بك ومغتبطا بنهيك، ثم أعلمني رأيك أعرفه إن شاء الله.

على أن ما يرمي إليه الرواة من تحقير شأن الأمين لا يحول بينك وبين تبين حقيقة الأمين ورجاله؛ لأنك ستلاحظ بلا ريب، في ثنايا سطورهم وفلتات الحوادث التي يروونها لك، ما قد يتيح لك أن تؤمن أن عند الأمين بعض رجالات أفذاذ، فإن الطبري يحدثنا في حوادث سنة خمس وتسعين ومائة، أن ابن الربيع أشار على الأمين بأن يكتب لأخيه كتابا تستطيب به نفسه وتسكن وحشته؛ فإن ذلك أبلغ في التدبير وأحسن في القالة من مكاثرة بالجنود، ومعاجلته بالكيد، وإنه لذلك أحضر له إسماعيل بن صبيح للكتابة إلى عبد الله، قال: «يا أمير المؤمنين، إن مسألتك الصفح عما في يديه توليد للظن، وتقوية للتهمة، ومدعاة للحذر، ولكن اكتب إليه فأعلمه حاجتك إليه، وما تحب من قربه والاستعانة برأيه، وسله القدوم إليك؛ فإن ذلك أبلغ وأحرى أن يبلغ فيما يوجب طاعته وإجابته».

Bilinmeyen sayfa