هذا رأي كبير من رجال العصر في خروج ابن الزبير يكشف لك ما كان يخالج نفوس الشباب من طموح إلى السلطان ولذاته، مع أن ابن الزبير كان خارجا على أهل بيت يرى جل الناس في ذلك العصر أنهم اغتصبوا الملك من أهله اغتصابا، ويظهر أن معاوية نفسه كان قد اقتنع بأنه لم يكن على الحق حتى كاد يتجنب مناجزة علي الحرب والعداء حين ذكره علي بكلام للرسول
صلى الله عليه وسلم ، لولا مقالة ولده له: «كلا! ولكنك رأيت سيوف بني هاشم حدادا تحملها شداد»، فثارت ثائرته وقال: «ويلك! ومثلى يعير لجبن! هلم إلي الرمح!» وأخذ الرمح وحمل على أصحاب علي.
فمعقول أن يغضب هؤلاء الشباب وأمثالهم من حكومة عثمان وهم يرون الغنائم والثروات تكتسح بلادهم - وللمال حكمه وسلطانه - ومعقول أيضا أن يغضب منها أمثال عمرو بن العاص الذي قال له عثمان - يوم ندبه ليعذره عند الناس فما كان منه إلا أن أضرم جذوة الحقد عليه: «يا ابن النابغة، والله ما زدت أن حرضت الناس علي ... يا ابن النابغة، قمل درعك مذ عزلتك عن مصر.»
هذا من ناحية النفعيين وفيهم المتطرفون، وهناك المعتدلون، وهؤلاء قد نأوا بجانبهم عن الفتنة، واعتزلوا الناس من شرها وآثارها، وهم لها كارهون، ومنها ناقمون، وهناك المحافظون الأتقياء حقا أمثال أبي ذر ورافع بن خديج وغيرهما من صحابة الرسول الذين نعلم من تقواهم وزهدهم، ومن حبهم للآخرة وإعلاء كلمة الدين الشيء الكثير، والذين يقول فيهم الجاحظ في رسالته عن بني أمية:
2 «إنهم كانوا على التوحيد الصحيح والإخلاص المحض.»
ولنوضح قليلا هذا النوع من المتقشفين حقا والمخلصين في عقيدتهم الدينية صدقا، ولنضرب مثلا بأبي ذر الغفاري، ولننظر ما يحكيه لنا ابن الأثير في هذا السبيل، فهو معتدل مستقر للحقيقة أكثر من سواه، يقول ابن الأثير: إن أبا ذر كان يذهب إلى أن المسلم لا ينبغي له أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته، أو شيء ينفعه في سبيل الله أو يعده لكريم، وكان يأخذ بظاهر القرآن:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم
فكان يقوم بالشام ويقول: «يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.» فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك، وأوجبوه على الأغنياء، وشكا الأغنياء ما يلقونه منهم؛ فأرسل معاوية إليه بألف دينار في جنح الليل فأنفقها، فلما صلى معاوية الصبح دعا رسوله الذي أرسله إليه، فقال: اذهب إلى أبي ذر فقل له: أنقذ جسدي من عذاب معاوية؛ فإنه أرسلني إلى غيرك وإني أخطأت بك. ففعل ذلك، فقال أبو ذر: يا بني، قل له: والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار، ولكن أخرنا ثلاثة أيام حتى نجمعها. فلما رأي معاوية أن فعله يصدق قوله كتب إلى عثمان: إن أبا ذر قد ضيق علي، وقد كان كذا وكذا - للذي يقوله الفقراء - فكتب إليه عثمان: «إن الفتنة قد أخرجت خطمها
3
وعينيها ولم يبق إلا أن تثب، فلا تنكأ القرح، وجهز أبا ذر إلي وأبعث معه دليلا، وكفكف الناس ونفسك ما استعطت.» وبعث إليه معاوية بأبي ذر، فلما قدم المدينة ورأى المجالس في أصل جبل سلع، قال: بشر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار. ودخل على عثمان فقال له: ما لأهل الشام يشكون ذرب
Bilinmeyen sayfa