أدرك أنه يغوص في أعماق مظلمة. لم يفزع ولم يتردد. ألقى بنفسه في تيار الاستهتار وكأنما ينتقم من عدو مجهول، وراح يا مسهل في تفكير عميق وهو يقول: ربحه مضمون. •••
انهمك في تحويل المسرح إلى ملهى ليلي. جاء البناءون والنجارون. جرى الاتفاق مع الفتيات والجرسونات والعازفين. مثل الإدارة خير تمثيل ببدانته المتزايدة وحزمه المكتسب، وانتقل من شقة حدائق شبرا إلى شقة بشارع دوبريه نفسه، وزود نفسه بما تشتهيه من طعام وشراب ومخدر ونساء. صمم على نسيان بدرية كما نسي عين من قبل، وأن ينسى كذلك جريمته، وجعل يقول لنفسه إنه ما فعل إلا أن أرشد العدالة إلى قاتل، ورغم ذلك فإنه لم يستطع أن يبدد سحب الكآبة ولا أن يسكت صوت النكد الخفي. •••
وعلى فترات متباعدة من الزمن تجيئه أخبار الحارة فتثيره وتنعشه، يجد فيها جديدا وسط لياليه المفعمة باللهو والطرب والرقص والعجائب. أمه تطعن في السن، ولكنها لا تفقد حيويتها ونشاطها الدءوب على الخير. تمضي متوكئة على المظلة أو ناشرة إياها من درب إلى درب، ومن بيت إلى بيت، وقد أضفى الخيال عليها بركة وقداسة، وسلم أخيرا بالإعجاب بها بلا حدود؛ فالعمر الطويل الذي يتحدى الزمن بنشاطه وقدراته مما يستحق الإعجاب والتقدير. إنها مصممة على الخلود والشباب. وسيدة أصبحت وكأنها صاحبة الدار وبخاصة بعد وفاة أمها. أما سمير فإنه يشق طريقه بنجاح خليق بأن يكفر عن سقوط أبيه، وها هو ذا يتأهب لدخول مدرسة الهندسة، وكما يخلق من ظهر العالم فاسد يخلق من ظهر الفاسد عالم.
وربما تساءل أحيانا عما جرى لبدرية. وقد تكفل الزمن بإعدام حبه هذه المرة حتى الموت وليس كالمرة الأولى. إنه يدرك الآن أن كل شيء يموت، وأن ما يلزمنا حقا هو شيء من الصبر عند الملمات. لعلها اليوم أم محجوبة وراء الأستار أو لعلها أرمل أو لعلها مطلقة وشريدة. ماذا يهم؟ ما هي إلا مجرمة؛ هي قاتلة يوسف راضي، هي دافعته إلى الخيانة، هي مرسلة حمدون إلى التأبيدة. ماذا بقي من جمالها؟ أي شيء هذا الجمال الذي يعيش بضع سنين؟ ولكن كتب على الإنسان أن يتعذب بلا سبب، ولولا الطعام والشراب والمخدر لفسدت الأرض. •••
وتمر أعوام أيضا. تتراكم أرباحه، تزداد بدانته، ترمقه الأعين بالحسد، يجد في الهروب من الألم والكآبة. آمن بأن السعادة هي التخفيف من الألم المحتوم، وأن الإنسان يتألم لسبب؛ فإذا لم يجد السبب تألم أوتوماتيكيا. وذلك الملل الخفي الذي يتبعه كما يتبع الصوت عجلة العربة بلا تحديد لمصدره. أما أسعد الأوقات حقا فهي وقت النوم العميق. وإنه ليرنو إلى الضاحكين بارتياب حتى خيل إليه أن ملهاه الليلي ما هو إلا بؤرة للمجانين والتعساء. ترى هل تنتهي هذه الحياة بخراب فناء شامل؟! وعجب كيف أنه لا يعرف في دنياه من يأنس إليه إلا فرج يا مسهل.
وأيقظه أرق في الهزيع الأخير من الليل. جاش صدره بالعواطف الحزينة الغامضة. قرر فجأة أن يستدعي ابنه ليراه.
22
انتظر في شقته الأنيقة ضحى يوم الجمعة. لم يتصور أن يتخلف عن الحضور، وحتى لو وقع المحذور فليتحمل ما جنت يداه.
عزيزي سمير ...
لا تدهش. كاتب الخطاب هو أبوك. سوف تتساءل: أبعد ذلك العمر؟ لكنك لم تعرف أعماق حياتي حتى يحق لك الحكم علي. أبوك يدعوك إلى مسكنه (عمارة 3، شارع دوبريه، شقة 14)، صباح الجمعة القادم (14 مارس). ما كان يجوز أن نفترق ذلك الزمن الطويل ونحن في مدينة واحدة. الأسباب كثيرة، ولعلك سمعت الكثير ولكنك لا تعرف كل شيء . إني والدك على أي حال. من الواجب أن نتعارف. سيسعدني جدا أن أقابلك.
Bilinmeyen sayfa