وفريدرش إنجلز (1820-1895م)
1 ⋆
يمكن النظر إلى فلسفة ماركس وإنجلز، من الوجهة التاريخية، على أنها نتاج مشترك للديالكتيك الهيجلي، والمادية، والتجريبية. غير أن التصنيفات التاريخية يمكن أن تكون مضللة في الفلسفة، كما هي الحال في بقية المجالات؛ فالعناصر الأصيلة أو الجذابة في تفكير ماركس وإنجلز لا تظهر بوضوح في هذا الوصف، وإنما تضيع منه تماما تلك الصفة التي جعلت الماركسية رمزا للأيديولوجية الثورية في عصرنا؛ أعني صفة الخروج القاطع المتعمد على كل التقاليد الاجتماعية الكبرى للحضارة الغربية. كما أن هذا الوصف لا يوضح الفارق الرئيسي في المنظور بين ماركس والفلاسفة الذين سبق بحثهم في هذا الكتاب. فرغم كل ما اقتبسه ماركس منهم، فإنه خالفهم جميعا على نحو أشد مما خالف به أي منهم الباقين.
إن الخلافات الرئيسية بين المثاليين والوضعيين، كما فسرتها، لا تتعلق بمسائل الواقع، وإنما بمسائل المنهج والقيمة. وقد ظلت هذه الخلافات دائما منحصرة في حدود معينة؛ فنحن لا نجد مثلا أن واحدا من المثاليين كفشته وهيجل، أو الوضعيين مثل كونت، أو أنصار مذهب الحرية مثل مل، أو الطبيعيين التطوريين كسبنسر، لا نجد أن واحدا من هؤلاء قد عد نفسه ثائرا اجتماعيا أو مرتدا عن التراث الحضاري الكامن الذي ظهرت فيه فلسفاتهم ونمت، وإنما كانوا قادة ومصلحين حاولوا فقط أن يوضحوا التراث وينقوه ويعدلوه، ولم يكن في نيتهم أبدا أن ينشقوا عليه نهائيا. ولقد كانوا بلا شك مندمجين في أزمة العقل التي اشتدت تدريجيا، والتي بسطت ظلها على جميع الفلسفات منذ كانت. ومع ذلك فما زال من الممكن النظر إلى الخلافات الفلسفية بين المثاليين والوضعيين، على خطورتها، على أنها مراحل لمناقشة برلمانية مستمرة بين فئتين مهذبتين إلى حد غير قليل؛ إحداهما محافظة والأخرى تناصر مذهب الحرية، في الوقت الذي يلتزم فيه الجميع، بدرجات متفاوتة، النظم المتطورة السائدة في العالم المسيحي البرجوازي. وفضلا عن ذلك فقد كانت تلك مناقشة ظلت فيها الخطوط الفاصلة بين الأحزاب واضحة المعالم، وظل النظام الحربي، في المسائل الكبرى على الأقل، محفوظا إلى حد كبير. أما عندما نأتي إلى ماركس، وإلى نيتشه وكيركجورد في الفصلين المقبلين، فإنا نجد هذه الخطوط تصبح غامضة، ويبدأ ظهور تقابل فلسفي من نوع أشد وأجرأ، فلم يكن واحد من هؤلاء الفلاسفة ليقنع بتغيير التراث، بل حاول كل منهم، على طريقته الخاصة، أن يهدمه. ولم يكن ما سعوا إليه، من حيث هم فلاسفة، هو مجرد الاعتداء إلى مسلك جديد للأفكار، أو نقد جديد للعقل، وإنما شيء يقرب من خلق نوع جديد من الإنسان. وإن كتاباتهم تختلف، شكلا وموضوعا، عن كتابات السابقين عليهم إلى حد جعل كثيرا من المؤرخين المحافظين لا يعترفون بأنهم كانوا فلاسفة على الإطلاق. ومع ذلك فإن مذاهبهم، لا النظريات «المحترمة» لمعاصريهم الأشد تمسكا بالتقاليد، هي التي كان لها أكبر الأثر (سواء أكان هذا الأثر مفيدا أم ضارا) في التفكير الفعلي لعصرنا الحالي.
ولقد بدا من الواضح في نظر ماركس ونيتشه وكيركجورد، وعدد آخر قليل من المفكرين، أن من المستحيل إيجاد أي مركب أو توافق حضاري بين المسيحية والعلم الوضعي والمذهب السياسي التحرري. ولم يكن هدفهم هو التمسك بمبادئ المعقولية، وإنما كان هو الخلاص أو النجاح. وهكذا قال ماركس إن المشكلة الفلسفية ليست فهم العالم وإنما تغييره. وكان لفظ «الحقيقة» ذاته في نظر نيتشه مدعاة للسخرية، فحيثما لا تنفع الحقيقة يلجأ نيتشه صراحة إلى الأكذوبة الرفيعة. ومع ذلك فإن رأيه يساء فهمه عادة؛ فهو لم يكن يعترض على الحقيقة ذاتها، وإنما على الافتراضات الفلسفية الجريئة المتعلقة بموضوعية المعايير التقليدية للمعقولية وشمولها؛ فالمعايير من أي نوع، إما أن تقبل اختيارا من أجل غاية معينة، أو أن يسلم بها سلبيا نتيجة لخوف أو تعود؛ فالأسئلة الفلسفية الهامة ليست، بالنسبة إلى نيتشه، هي تلك التي تماثل أسئلة من نوع: «ما هو الحقيقي؟» أو «ما هو المعقول؟» أو «ما هو الخير؟» وإنما هي أسئلة من نوع: «ماذا أريد أن أفعل؟» «وماذا أريد أن أصبح؟» ويتسم كيركجورد بنفس القدر من العناد؛ فهو يدير ظهره، بكل بساطة، للمذاهب اللاهوتية «العقلية» في تراثنا. وفي رأيه أن هذه ليست إلا محاولات متعددة غير مسيحية لصبغ فكرة المسيح بصبغة عقلية، وبالتالي فهي طرق متعددة، بنفس المقدار، للتوفيق بين معناها الذاتي الباطن وبين مقتضيات العالم الدنيوي الغريبة عن هذه الفكرة. وفي رأيه أن استحالة التوفيق بين فكرة الحياة المسيحية وبين مقتضيات النظم التاريخية التي جعلها هيجل مساوية «للروح الموضوعية» أو «العقل»، لا تقل عن استحالة مساواة الحرية الروحية بالضرورة التاريخية. ولقد كان خروجه عن المعقولية اللاهوتية في الوقت ذاته خروجا جريئا على النظم الراسخة للحياة البرجوازية في القرن التاسع عشر، ولم يكن أقل في جرأته وقطعيته من خروج ماركس أو نيتشه عليها.
ولقد قام الثلاثة جميعا بمحاولات جريئة للتعبير عن محنة الإنسان المغترب روحيا واجتماعيا في العصر الحديث؛ ولذلك فإن المهام الفلسفية لماركس ونيتشه وكيركجورد لا تتصف بأنها نظرية إلا عرضا. ولم يكن هدفهم بأقل من إيضاح معالم أسلوب جديد للحياة يفي بمقتضيات أولئك الذين يرفضون الاعتراف بأن ما أطلق عليه ماتيو أرنولد
2
اسم «هذا المرض الغريب الحياة الحديثة»، هو فعل إلهي أو قدر محتم على العقل. فهل كان هؤلاء أنبياء أم مجانين؟ هذا سؤال ستظل الإجابة عليه غير مؤكدة.
ولقد كان ماركس ذاته أكثر الثلاثة معقولية. ويتجلى هذا أولا في اهتمامه بمشكلة المنهج، غير أن منهج ماركس هو أيضا مصدر من أكبر الصعوبات التي تمثلها الماركسية في نظر المؤرخ الفكري؛ فمن بين صفات ماركس، التي لا يمل أنصاره من تكرارها، أنه كان عالما اجتماعيا جديا كان لنظريته في التطور التاريخي تأثير لا حد له في النظريات الاجتماعية التالية. وهم يؤكدون أنه لم يكن مجرد مفكر ديالكتيكي، مثل هيجل، ينسج بطريقة أولية قضايا وقضايا مضادة تفرض مقدما المجرى الذي ينبغي أن يسير فيه التاريخ البشري. وهذا صحيح إلى حد ما؛ فقد كان من ضمن أهداف ماديته التاريخية إيجاد إطار لنظرية قابلة للتحقيق في الأسباب الفعلية المؤدية إلى التطور الاجتماعي. ولم يقتصر ماركس وإنجلز على توجيه انتقادهم الشديد إلى هيجل المثالي، بل وجهاه أيضا إلى فويرباخ
3
Bilinmeyen sayfa