4
والمثل الأعلى للتنمية الذاتية الفردية. فالحرية في رأيه غاية ووسيلة معا، وهي شرط الرخاء العام وعنصر أساسي في السعادة الشخصية. وفضلا عن ذلك فدفاعه لا يقتصر على الحرية بوجه عام، وإنما هو يدافع عن حريات محددة لا بد منها لسير الحياة. فحرية الفكر، وحرية اختيار المهنة، وحرية الانضمام إلى الجمعيات والكلام - وهي كلها أمور ينطوي عليها المثل الأعلى «للحرية» كما تصوره مل - هي في رأيه أسمى ما يمكن أن يمنحه المجتمع المنظم من الهبات. والمقياس الوحيد لتمدين أي مجتمع وقدرته على التقدم هو، في رأي مل، مدى تحقق هذه الحريات فيه.
ولقد أدرك مل - ربما خيرا من أي مفكر آخر من أصحاب المذهب الحر في القرن التاسع عشر - أن الديمقراطية والعلم الفني التطبيقي ليسا بلسما يشفي كل العلل بطريقة آلية؛ ففي كل نظام بشري يوجد دائما اتجاه نحو التمسك بالسنن القائمة وإطاعتها دون مناقشة. وليست الديمقراطية ولا العلم المنظم بمنأى عن هذه الاتجاهات. والوسيلة الوحيدة للقضاء على تأثيرها هي التوسيع الدائم لنطاق الحرية الفردية، والنقد الذي تتيحه الحرية. والواقع أن مل كان أكثر فلاسفة عصره احتراما للعلم ومناهجه. ولكنه لم يتأثر قط بإغراء فكرة التخطيط العلمي الواسع النطاق، الذي تتولاه صفوة مثقفة للمجتمع. بل إن تقدم المعرفة، الذي هو شرط التقدم الاجتماعي، لا يكون في رأيه ممكنا إلا في مجتمع لا يحال فيه بين أي شخص، مهما كان بسيطا، وبين المساهمة بدور فعلي في ذخيرتنا الشحيحة من المعرفة البشرية. فالسلطة تولد التعصب دائما، والتعصب مهما كانت «سلامته »، هو على الدوام من علائم المجتمع المغلق الذي بلغ آخر حدود القدرة على إصلاح ذاته وإنهاضها. فإذا كانت السلطة لازمة أيضا لإقرار القانون والنظام، كما يعلم مل، فلا بد أيضا أن تشعر على الدوام بأنها مقيدة ومسئولة، بفضل النقد الحر لأناس ذوي نفوس مطمئنة.
وأيا ما كانت الأخطاء التفصيلية لفلسفة مل، فإنها ما زالت حتى اليوم نقطة البداية في تفكير معظم المؤمنين بالحرية، حول المجتمع الصالح والحياة الصالحة. وإن الكثيرين ممن لم يقتنعوا بحلوله للمشاكل المنطقية والمعرفية التي بحثها، ليشيدوا بفضله ويعتزون به. ولقد أطلق عليه اسم «قديس المذهب العقلي»، غير أن مذهبه العقلي - إن كان مذهبه عقليا فحسب - بعيد كل البعد عن ذلك المذهب العقلي الذي قال به أسلافه في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وإني لأوثر أن أرى فيه «قديسا لمذهب الحرية»، احتفظ بالمثل الأعلى للمعقولية حيا في عصر الأيديولوجية، دون أن تصل معقوليته أبدا إلى حد الإفراط أو تتصف بالغرور. ومثل هذا المثل الأعلى ليس من ذلك النوع الذي يسهل المبالغة في قيمته، وهو لا يلقى استجابة لدى معظم الباحثين وراء اليقين. غير أنه هو العلامة المميزة للذهن المتمدين، وقبوله على نطاق عام هو الميزة للمجتمع المتمدين.
والمقتطفات الآتية مختارة من بحث لمل بعنوان «الطبيعة
Nature ».
نشرته ابنة زوجته بعد وفاته، بوصفه أول بحث من ثلاثة أبحاث عن الدين، والاثنان الآخران هما «منفعة الدين
The Utility of Religion »، «والمذاهب الألوهية
Theism ».
5 ⋆
Bilinmeyen sayfa