أما الصورة الأخرى التي ظهرت فيها هذه الفكرة القائلة إن العقل يوجه العالم - في صدد تطبيق آخر لها، معروف لنا جيدا - فهي صورة الحقيقة الدينية، القائلة إن العالم ليس متروكا للاتفاق وللعلل العرضية الخارجية، وإنما تتحكم فيه عناية إلهية.
ولقد قلت من قبل إني لن أستعين بإيمان القارئ فيما يتعلق بهذا المبدأ الذي قلت به. ومع ذلك فإن لي أن أهيب بإيمان القارئ به، في هذه الصورة الدينية، «إذا كانت طبيعة العلم الفلسفي تسمح له، كقاعدة عامة، أن ينسب إلى المسلمات
Voraussetzungen
سلطة. وبعبارة أخرى، فهذه الإهابة محرمة؛ لأن العلم الذي يتعين عليها بحثه، يعلن هو ذاته أنه يأتي بالبرهان، لا على الحقيقة المجردة للمذهب، وإنما على صوابه إذا ما قورن بالوقائع، وإذن فالحقيقة القائلة إن عناية (هي العناية الإلهية) تتحكم مقدما في أحداث العالم، تتفق مع القضية موضوع البحث؛ إذ إن العناية الإلهية هي الحكمة ذات القدرة اللامتناهية، التي تحقق هدفها، وهو رسم خطة عقلية مطلقة للعالم. فالعقل هو الفكر الذي يحدد ذاته في حرية كاملة. ولكن سيظهر فارق - بل تناقض - بين هذا الاعتقاد وبين مبدئنا؛ إذ إن الاعتقاد في عناية شاملة هو بدوره اعتقاد غير محدد
unbestimunt
لا يتابع في تطبيقات محددة، أو يتبدى في تأثيره على المجموع الكلي؛ أي المجرى الكامل للتاريخ البشري. غير أن تفسير التاريخ هو وصف لانفعالات البشر، وللعبقرية والقوى الإيجابية التي تلعب دورها على المسرح الهائل، وتؤلف العملية التي تتحكم فيها العناية، والتي تتبدى في هذه الانفعالات والعبقرية والقوى، ما يسمى عامة باسم «خطة» العناية (
). ومع ذلك فإن هذه الخطة ذاتها هي التي يفترض أنها تختفي عن أنظارنا، والتي يعد من الغرور حتى أن نرغب في معرفتها. •••
غير أننا في تاريخ العالم نتعامل مع أفراد هم شعوب أو مجموعات كلية، هي دول؛ ولذلك فليس لنا أن نقنع بما يمكننا أن نسميه هذه النظرة المحدودة إلى العناية، التي يقتصر عليها الاعتقاد المشار إليه. كذلك لا يمكن الاكتفاء بالاعتقاد البحت، المجرد، غير المحدد، في عناية، بالمعنى العام، دون ربط بين ذلك الاعتقاد وبين تفصيلات الفعل الذي تقوم به هذه العناية. بل إن حماستنا ينبغي أن تتجه إلى التعرف على الطرق التي تسلكها العناية، والوسائل التي تستخدمها، والظواهر التاريخية التي تتبدى فيها، وعلينا أن نوضح ارتباط هذا كله بالمبدأ العام الذي أشرنا إليه. ولكني، إذ أشرت إلى الاعتراف بخطة العناية الإلهية عامة، قد عرضت ضمنا لمسألة هامة من مسائل اليوم؛ أي مسألة إمكان معرفة الله، أو على الأصح - طالما أن الرأي العام لم يعد يسمح بجعلها موضوع سؤال - المذهب القائل إن من المستحيل معرفة الله. فعلى العكس تماما مما يقول الكتاب المقدس إنه الواجب الأسمى - أي إننا ينبغي أن نعرف الله، لا أن نحبه فحسب - فإن الفكرة السائدة الآن تنطوي على إنكار ما يقال في ذلك الكتاب من أن «الروح» هي التي توصل إلى «الحقيقة»، وهي التي تعرف كل الأشياء، وتتغلغل حتى في أعماق الألوهية. وبينما يؤدي هذا إلى وضع الوجود الإلهي فوق معرفتنا، وخارج حدود الأمور البشرية، فإن المرء يتمتع في هذه الحالة بحرية التنقل كما يشاء، في الاتجاه الذي تشاؤه تخيلاته. وهكذا يتحرر المرء من الالتزام بربط معرفته بما هو إلهي وحقيقي. ومن جهة أخرى، فإن الغرور والأنانية اللذين يميزان هذه المعرفة، يجدان في هذا الموقف الباطل مبررا قويا، كما أن التواضع التقي الذي يجعل معرفة الله بعيدة عنها، يستطيع حقا أن يقدر مدى الكسب الذي سيعود من ذلك على مطامحه الباطلة الغريرة. والواقع أني لم أشأ أن أترك الكلام عن الارتباط بين رأينا القائل بأن العقل كان وما يزال يحكم العالم، وبين مسألة إمكان معرفة الله، وذلك، قبل كل شيء، حتى لا أفوت فرصة ذكر ذلك الادعاء الموجه إلى الفلسفة بأنها مقصرة أو مضطرة إلى التقصير عن إدراك الحقائق الدينية، أو لا تملك فرصة إدراك هذه الحقائق، وهو ادعاء ينطوي على إيعاز بالشك في حسن نية الفلسفة إزاء هذه الحقائق. على أن حقيقة الأمر غير ذلك تماما، بل إن الفلسفة قد اضطرت في الآونة الأخيرة إلى الدفاع عن ميدان الدين ضد هجمات عدة مذاهب لاهوتية، ففي العقيدة المسيحية تكشف الله - أي جعل الإنسان يفهم ما هو الله، بحيث لم يعد وجوده محتجبا أو خفيا. وهذه القدرة المتاحة لنا لمعرفته، تجعل مثل هذه المعرفة واجبة؛ فالله لا يريد لخلقه أن يكونوا من ذوي النفوس الواهنة أو الرءوس الفارغة، بل يريد أناسا تكون نفوسهم فقيرة بذاتها، ولكنها غنية بمعرفته، أناسا يعدون معرفة الله ذخيرتهم الوحيدة. هذا التطور للروح المفكرة، الذي نشأ من تكشف للوجود الإلهي بوصفه أساسه الأصلي، لا بد أن يمتد آخر الأمر إلى الفهم الفكري لما كان ماثلا أول الأمر، للروح الشاعرة المتخيلة، ولا بد أن يأتي وقت يفهم فيه هذا الناتج الزاخر للعقل الإيجابي، الذي يتيحه لنا تاريخ العالم. ولقد كان الشائع في وقت من الأوقات إبداء الإعجاب بحكمة الله كما تتبدى في الحيوانات والنباتات والحوادث المنفردة. ولكن، إذا سلمنا بأن العناية تتمثل في مثل موضوعات الوجود وصوره هذه، فلماذا لا نسلم بوجودها أيضا في التاريخ العالمي؟ إن هذا الأخير يعد أضخم من أن يخضع للعناية. غير أن الحكمة الإلهية؛ أي العقل، هي بعينها فيما هو كبير وما هو صغير، وعلينا ألا نتصور الله على أنه أضعف من أن يمارس حكمته على النطاق الضخم. والغاية التي تستهدفها معرفتنا هي تحقيق الاعتقاد بأن ما قصدته الحكمة الأزلية، قد تحقق فعلا في مجال الروح الإيجابية الفعالة في العالم، مثلما تحقق في مجال الطبيعة الخالصة ؛ فبحثنا في هذا الموضوع هو، من هذه الناحية، «ثيوديسية»؛ أي تبرير للمسالك الإلهية، مماثل لذلك الذي حاول ليبنتس القيام به، بطريقة ميتافيزيقية، في منهجه؛ أي بمقولات مجردة غير محددة؛ لكي يستطيع عن طريقه فهم الشر الموجود في العالم، والتوفيق بين الروح المفكرة وبين وجود الشر. والواقع أن مثل هذه النظرة التوفيقية هي ألزم ما تكون في مجال التاريخ العالمي، ولا يمكن الوصول إليها إلا بالاعتراف بالوجود الإيجابي الذي يخضع له، ويتلاشى فيه، هذا العنصر السلبي. فلا بد من جهة أن يدرك أن هذا القصد النهائي من العالم، ولا بد من جهة أخرى أن يدرك أن هذا القصد قد تحقق فيه بالفعل، وأن الشر لم يتمكن من أن يضمن لنفسه على الدوام مركزا يسمح له بمزاحمته.
إن السؤال عن مصير العقل في ذاته يعادل - بقدر ما يكون ذلك العقل مرتبطا بالعالم - السؤال عن الغاية القصوى للعالم. وهذا التعبير الأخير ينطوي على القول بأن هذا الغرض مقصود منه أن يتحقق. وهنا تعرض لنا مسألتان للبحث؛ أولاهما هي دلالة هذه الغاية القصوى؛ أي تعريفها بما هي كذلك. وثانيها هو تحقيقها.
فأولا ينبغي أن يلاحظ أن موضوع بحثنا - أي التاريخ العالمي - ينتمي إلى مجال الروح، ويشمل لفظ «العالم» الطبيعة المادية والنفسية؛ فللطبيعة المادية هي الأخرى دور تقوم به في تاريخ العالم، ولا بد من توجيه الاهتمام منذ البداية إلى العلاقات الطبيعية الأساسية التي ينطوي عليها مثل هذا الدور. غير أن الروح، ومجرى تطورها، هي الأساسية. ومهمتنا لا تقتضي منا تأمل الطبيعة بوصفها نسقا عاقلا في ذاته - وإن تكن تثبت في مجالها الخاص أنها بالفعل كذلك - من حيث علاقتها بالروح فحسب. والروح تتكشف على حقيقتها الأكثر عينية في ذلك المسرح الذي نلاحظها منه؛ أي في التاريخ العالمي. ورغم ذلك (أو بالأحرى، من أجل فهم المبادئ العامة التي تتضمنها فاعليتها العينية هذه) ينبغي علينا أن نفترض مقدما بعض الخصائص المجردة عن طبيعة الروح. على أن من المحال أن يتخذ هذا الشرح هنا أية صورة سوى صورة التأكيد المحض. فليس هنا مجال للكشف نظريا عن فكرة الروح؛ إذ إن الموضوع الذي يحتل مكانا في مقدمة ينبغي، كما لاحظنا من قبل، أن ينظر إليه على أنه تاريخي فحسب؛ أي أن يؤخذ على أنه شيء شرح وأثبت في موضع آخر، أو سيثبت إثباتا لاحقا في علم التاريخ ذاته.
Bilinmeyen sayfa