ورغم أن فشته يؤكد أن كل نشاط بشري، سواء أكان علميا أم غير ذلك، يبدأ بتأكيدات معينة، وأن ما نسميه باللاذات
not-self «الموضوعية»، هي ذاتها لا تعطى مستقلة عن فاعلية الإرادة، فإنه لا يقول بأن شيئا لا يعطى في التجربة؛ فمواد الحس ليست من خلق الذهن العارف. صحيح أننا نستطيع بإرادتنا أن نهتم بها أو نطرحها جانبا، ولكننا لا نستطيع أن نقرر إن كانت ستظهر أمامنا عندما نفتح أعيننا؛ فهي معطاة، ولكنها ليست معطاة بوصفها موضوعات، وكونها معطاة ليس في ذاته كافيا لجعلها حقيقية. وبعبارة أخرى فإن الإحساس، بما هو كذلك، لا ينطوي على عنصر التأكيد
assertion
أو الحكم. فليس ثمة إحساس يأتي منطبعا بما في ذاته بصفة «الواقعية» أو «الظاهرية»، مثلما لا يوجد إحساس منطبع في ذاته بصفة «الزرقة»، أو «الصلابة». وقبل أن يمارس الذهن أي نشاط له على أي تمثل حسي، يظل هذا التمثل «س» غير مصنفة وغير مفسرة، لا يمكن أن يقال عنها سوى أنها ماثلة فحسب. ولا يتحول ما تكشفه الحواس إلى معطيات أو شواهد لأي اعتقاد إلا عندما ننظر إليه على أنه كذلك، وفقا لقواعد للبحث وضعناها نحن أنفسنا. وهكذا لا يكون المنهج العلمي ذاته شيئا تتكشف أو تظهر لنا «صحته» أو «صدقه» على نحو واضح بذاته، بل إنه من حيث هو منهج، شيء ينبغي لنا الأخذ به تحقيقا لمصالحنا الخاصة، والشيء الوحيد الذي يضمن آخر الأمر اتخاذ أي إجراء أو قاعدة معيارا للصحة أو للتبرير هو جدية التزاماتنا وولائنا لغاياتنا الخاصة؛ فتصور «الصحة
validity » كتصور الإلزام، لا ينطوي على إشارة إلى «علاقات فعلية» كامنة في واقع معطى بصفة مستقلة، بل إن كل ما يعنيه هو شروط معينة للقابلية للتصديق نفرض بها مقدما تلك القواعد التي ينبغي في اعتقادنا تصديق أي شيء بناء عليها.
وهكذا يرفض فشته تلك النظرية القديمة، التلقائية، عن الحقيقة، المسماة ب «نظرية التطابق»، ويستعيض عنها برأي يقترب كثيرا مما أسماه المثاليون اللاحقون باسم «نظرية الترابط»، القائلة إن حقيقة أي قول تختبر تبعا لتمشيه مع مجموع الأقوال الأخرى التي يتعين علينا الأخذ بها. والهدف الأخير للمعرفة لا يعدو أن يكون تنظيم التأكيدات
posits
على أكمل وأحكم وجه يكفل تحقيقنا لذواتنا بوصفنا كائنات فاعلة. والبرهان الوحيد على صحة مثل هذا النسق هو استعدادنا للأخذ به.
وفي فلسفة فشته عناصر كثيرة استبق فيها الاتجاه الفلسفي للبرجماتيين في القرن التالي. ولقد أدرك أحد هؤلاء البرجماتيين، وهو «كلارنس أ. ليويس
c. I. Lewis »
Bilinmeyen sayfa